أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

شهرزاد في البيت الأبيض .... كريستن سلمون

 

"نحن امبراطورية، وحين نفعل فاننا نخلق واقعنا الخاص بنا"

 

لوموند دبلوماتيك ـ يناير 2008

ترجمة محمد الاسعد

 

قبل بضعة أيام من بداية الانتخابات الرئسية في العام 2004، كتب " رون سوسكند "، أحد كتاب الأعمدة المهتم بالبيت الأبيض واتصالاته منذ سنوات، في صحيفة " نيويورك تايمز " عن حديث له جرى مع أحد مستشاري الرئاسة في العام 2002 مايلي : " قال المساعد إن أشخاصا مغفلين مثلي هم من  ما ندعوها الجماعة التي تقيم في الواقع " والتي عرّفها بوصفها أناسا " يؤمنون بأن الحلول تنبع من دراستك الحكيمة للواقع المدرك، فأومأت بالموافقة، وغمغمت ُ بشيء عن مباديء التنوير والنزعة التجريبية، فقاطعني قائلا " في الواقع، هذه الطريقة لم تعد بعد الآن هي الطريقة التي يعمل العالم بمقتضاها " واستطرد " الآن نحن امبراطورية، وحين نفعل فاننا نخلق واقعنا الخاص بنا، وخلال دراستكم لهذا الواقع، دراسة حكيمة كما ستفعلون، سنفعل مرة أخرى، خالقين بذلك واقعا جديدا آخر وآخر، وهو ما تستطيعون دراسته أيضا، وهذه هي الكيفية التي ستسير بها الأمور. نحن ممثلو التاريخ.. وانتم، جميعا ً، ستتركون لدراسة ما نفعل فقط " ( 17اكتوبر 2004).

كان مقال " سوسكند " مثيرا، وهو ما دفع الصحيفة الى اعتباره فتحا فكريا. وأمسك كتاب الأعمدة الصحفية وأصحاب البلوجرات  بتعبير " الجماعة التي تقيم في الواقع " الذي انتشر عبر  شبكة الانترنت. وسجلت شبكة "جوجل " ما يقارب مليون تعليق عليه في يوليو 2007. وأنشأت موسوعة " ويكيبيديا صفحة تشير اليه. ووفقا لما ذكره " جاي روسن "، استاذ الصحافة في جامعة نيو يورك، فإن عددا كبيرا من اليساريين تبنوا هذا الاصطلاح، وظهر في مواقعهم الالكترونية تعبير " عضو فخور من أعضاء الجماعة التي تقيم في الواقع ". وسخر اليمينيون آنذاك من هذا الوصف الذي يصف به اليساريون أنفسهم ( هم يقيمون في الواقع ؟ بلى..، اليس كذلك ؟ ) ( 4 يوليو 2007).

لم تكن التعليقات التي أدلى بها " كارل روف"، ربما قبل بضعة أشهر من حرب العراق، مجرد تعليقات مكيافيلية وخبيثة، لقد بدا وكأنها آتية من المسرح لا من مكتب من مكاتب البيت الأبيض. فهي لم تكتف بتجديد المناقشات القديمة التي تناقش في مكاتب مجلس الوزراء، تلك التي تضع المثاليين ضد المنفعيين أو الأخلاقيين ضد الواقعيين أو المسالمين ضد دعاة الحرب أو، كما في العام 2002، المدافعين عن القانون الدولي ضد أنصار استخدام القوة، بل طرحت مفهوما جديدا للعلاقة بين السياسة والواقع. فقادة القوة الأعظم في العالم لم يكونوا يبتعدون فقط عن السياسة الواقعية بل وعن النزعة الواقعية أيضا ليصبحوا خالقين لواقعهم الخاص بهم، وسادة المظاهر، مطالبين بواقعية سياسية مستمدة من رواية خيالية.                          

ديزني تهرع للإنقاذ

 وقدم الغزو الأمريكي للعراق في مارس 2003 رسما ايضاحيا فريدا من نوعه لرغبة البيت الأبيض في خلق واقعه الخاص به. فإدارات وزارة الدفاع الامريكية، بسبب حرصها الشديد على عدم تكرار أخطاء حرب الخليج الاولى في العام 1991، اعطت انتباها خاصا لاستراتيجية اتصالاتها. فمثلما تم الحاق 500 صحفي ودمجهم بأقسام القوات المسلحة، حظي تصميم غرفة الصحافة في قيادة القوات الامريكية في قطر باهتمام كبير، حيث صرف مليون دولار على تحويل مخزن للملابس الى ستوديو تلفازي حديث جدا مزود بخشبة مسرح وشاشات عملاقة وكل المعدات الالكترونية التي يحتاجها انتاج أفلام الفيديو والخرائط الجغرافية والرسوم البيانية لأماكن وأوقات معارك حقيقة.

وكلف مشهد من المشاهد خاطب فيه الناطق باسم الجيش الامريكي، الجنرال تومي فرانكس، الصحفيين 200,000 دولار، وأنتجه مصمم اشتغل لشركة ديزني ومترو جولدوين ماير و البرنامج التلفازي " صباح الخير يا امريكا ". وكان البيت الأبيض قد جعله مسؤولا في العام 2001 عن وضع تصاميم خلفية للخطابات الرئاسية، وهو أمر لم يكن مفاجئا لاولئك الذين يعرفون الروابط بين وزارة الدفاع الامريكية وهوليوود.

الأمر المفاجيء أكثر كان قرار وزارة الدفاع تجنيد " ديفد بليني "، لوضع تصميم داخلي ؛ وهو أحد المشعوذين المشهورين في الولايات المتحدة الامريكية بسبب برنامجه الاستعراضي التلفازي، وبسبب ممارسته لحيل مثل الارتفاع في الهواء وحبس نفسه في قفص بلا طعام. وقد زعم " بليني " في كتاب له في العام 2002 أنه خليفة " جان يوجيني روبرت- هوديني " ‘ مشعوذ القرن التاسع عشر الذي وافق على الذهاب الى الجزائر بناء على طلب الحكومة الفرنسية ليساعدها على اخماد انتفاضة ضدها باظهار أن سحره أفضل من سحر المتمردين. وليس معروفا ما اذا كان هذا هو ما تتوقعه وزارة الدفاع الامريكية من " بليني "، ولكن يبدو أن استخدامه كان بسبب مواهبه في خلق الايهام لاحداث تأثيرات خاصة.

أحد الذين خلقوا الكثير من الخلفيات التي وقف أمامها بوش وألقى تصريحات مهمة خلال فترتي رئاسته، كان " سكوت سفورزا "، أحد منتجي تلفاز محطة ABC الذين عملوا داخل آلة دعاية الحزب الجمهوري. وقام هذا في 1 مايو 2003 بتصميم مسرح الخطاب الرئاسي من على حاملة الطائرات ابراهام لنكولن أمام لافتة تقول " تمت المهمة. انتهت العمليات الكبرى في العراق. انتصرت الولايات المتحدة وحلفاؤها في معركة العراق ". ولم ينته الاستعراض هنا، فقد هبط بوش على ظهر الحاملة بطائرة مقاتلة اعيدت تسميتها باسم " بحرية رقم واحد "، وكتب عليها " جورج بوش، القائد العام ". وشوهد وهو يغادر غرفة الطيار مرتديا ملابس طيار، وقبعته تحت ذراعه كما لو أنه عائد من حرب، في محاكاة لمشهد من " رأس البندقية " (الفيلم الذي انتجه جيري بروكهايمر، الوجه المألوف في عمليات وزارة الدفاع المشتركة مع هوليوود، وقام هذا بصناعة الاستعراض التلفازي الواقعي " وجوه من الجبهة الأمامية " حول الحرب في افغانستان).

ووصف الناقد المسرحي السابق في صحيفة نيو نيورك تايمز، فرانك رتش، التغطية التلفازية لهذا الحدث، وقال أنها كانت بالغة الروعة مثل مشهد مسرحي. وافتتن ديفد برودر، من صحيفة الواشنطن بوست، بما دعاه مظهر بوش الجسدي. لقد كان    على " سفورزا " اعداد المشهد بعناية بحيث لاتشاهد مدينة " سان ديجو " التي تبعد حوالي 60 كيلو مترا في الأفق حين تخرج حاملة الطائرات كما يفترض الى عرض البحر حيث مكان المعركة.

ولكن المسرحة لم تبلغ أبدا ما بلغته من وضوح في 15 اغسطس 2002 حين تحدث بوش بلهجة مهيبة عن الأمن القومي أمام جبل روشمور بتماثيله التي تمثل وجوه جورج واشنطن وتوماس جيفرسون وتيودور روزفلت وابراهام لنكولن. فخلال حديثه كانت عدسات التصوير موضوعة بزاوية تسمح بأن يصوروجه بوش جانبيا، بحيث تتراكب وضعية وجهه مع وجوه اولئك الذين سبقوه.

الصورة الخيالية تصبح قصة

استعدادا لخطاب بوش بالمناسبة السنوية الاولى لـــ 9/11، الذي أعد فيه الرأي العام الامريكي من أجل غزو العراق بتمجيد " الكفاح  العظيم الذي يمتحن قوتنا، بل وأكثر من ذلك تصميمنا "، استأجر " سفورزا " ثلاثة زوارق لينقل طاقمه وينزله عند قدمي تمثال الحرية الذي أضاءه من الأسفل. واختار زوايا التقاط لعدسات التصوير بحيث يظهر التمثال في الخلفية اثناء الخطاب. على هذا المشهد علق " فرانك رتش " مقتطفا قولا لمايكل ديفر الذي أعد مسرح إعلان ريغان ترشيحه للرئاسة في العام 1980 وخلفه تمثال الحرية. حسب ديفر، لقد فهم الناس ان ما حول رأس المتحدث كان بأهمية الرأس ذاته.

ما هو حول الرأس حوّل صورة ً متخيلة الى أسطورة : " تمت المهمة "، الأباء المؤسسون، تمثال الحرية، ومع الزمن تصبح الصورة المتخيلة هي القصة. ولكن لابد أن يحدث رنين متبادل بين الحدث والمشاهد، ولابد من جعل لحظتين تتفاعلان ؛ ما هو ممثل في الصورة المتخيلة ولحظة مشاهدتها الفعلية. وينتج هذا الرنين المتبادل العاطفة المرغوب فيها. بالنسبة للأمريكيين في العام 2002 لاشيء يمكن أن يمتلك تأثيرا عاطفيا أعظم من خطاب عن الحرب في المناسبة السنوية الاولى لحدث 9/11. فالبلد عائد لتوه من العطلات الصيفية وكان مهيئا للتركيز على القضايا المهمة.

وفقا لما ذكرته " إيرا تشيرنوس "، الاستاذة في جامعة كولورادو، فإن " كارل روف " طبق في هذه المناسبة " استراتيجية شهرزاد " : " حين تفشل سياسيا إبدا برواية القصص، قصص مغرقة في الخرافة، تأخذ بالألباب، وساحرة الى أبعد حد، بحيث ينسى الملك ( أو المواطن الامريكي الذي يحكم بلدنا نظريا في هذه الحالة ) كل شيء عن أي سياسة قاتلة. هذه القصص تلعب على وتر انعدام الأمان لدى الامريكيين الذين يشعرون أن حياتهم خارج السيطرة "( 7يوليو 2006 ). وفعل " روف " هذا  بنجاح أكبر في العام 2004 حين أعيد انتخاب بوش، بحرف انتباه الناخبين عن حالة الحرب باستحضار الأساطير الجماعية الكبرى في المخيلة الامريكية.

لقد كان رهان " روف "، كما أوضحت " تشيرنوس " " على أن المقترعين ستنومهم قصص من نمط قصص جون واين عن رجال حقيقين يحاربون الشر عند الحدود، أو ستنوم على الأقل ما يكفي من الامريكيين لتجنب حكم الاعدام الذي قد يصدره المقترعون لولا هذه القصص على الحزب الذي أوقع بنا كارثة في العراق. "  وكانت " تشيرنوس " مقتنعة ان " روف " اخترع قصصا تبسيطية عن الخير ضد الشر من أجل مرشحيه الرئاسيين لتحويل كل انتخابات الى دراما أخلاقية، الى مباراة بين وضوح الجمهوريين الأخلاقي وبين تشوش الديموقراطيين الأخلاقي. " إن استراتيجية شهرزاد ضرب من الخداع الكبير يقوم على الإيهام بأن الحكايات الأخلاقية يمكن أن تجعلنا نشعر بالأمان، بغض النظر عما يحدث فعلا في العالم من حولنا. يريد " روف " من كل صوت يذهب الى الجمهوريين أن يكون شهادة رمزية ".

في شهر اغسطس الماضي، أجبر أعضاء الكونغرس الديموقراطيون " روف " على الاستقالة، فأعلن قراره مع إقرار يمكن أن ينطبق على كل ما عمله : " أشعر كما لو أنني " موبي ديك "... أنهم يطاردونني ". 

 

(110)    هل أعجبتك المقالة (114)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي