" أن يكون المرء موضع التجاهل التام لَهُوَ أمرُ لا يطاق"
لقد ساعد الفقر والخصاصة والتهميش والازدراء الناس على كسر أغلال الاضطهاد والثورة على الظلم والتفاوت والاستغلال والمطالبة بالعدالة والحرية وبالتالي كانت الثورة في معظمها وفي أصلها من أجل المسألة الاجتماعية وذلك بالاحتجاج على الظروف المعيشية السيئة والغضب على العقبات التي يواجهها السكان في ايجاد فرص شغل لأبنائهم الذين يتخرجون حديثا من الجامعات. هكذا كانت الشرائح الأكثر بؤسا والأكثر ابتلاء من الفقراء والمحرومين هي التي خرجت في الصفوف الأمامية للاحتجاجات وتحول المحملون بالبؤس والشقاء وضحايا الفساد الناتج عن البيروقراطية والمحسوبية الى طلائع حقيقية للثورة.
ماهي شعارات المرحلة الثورية؟ وكيف عبر عنها النشطاء ؟ وماهي الوسائل والوسائط التي استعملوه لتبليغ مرادهم والاحتجاج على الأوضاع؟ وهل تغيرت المطالب الاجتماعية والسياسية والحقوقية بالمقارنة مع شعارات الحركات الاحتجاجية والمعارضة السياسية في المرحلة ما قبل الثورية؟ والى مدى حافظت على قدرتها التحريضية بعد اسقاط الدكتاتورية؟ وهل استكملت الثورة مهامها بالعزوف عن التدوين؟
كتب الشباب على الجدران بعض الشعارات السياسية التي طالبت بها النقابات والأحزاب ولكنهم نقشوا أيضا بعض المبادئ ورصعوا عدة حكم واستشهدوا بعدة فلاسفة وشعراء وزعماء ويمكن تصنيفها وفق المبادئ التوجيهية والقيم التقدمية التالية:
- المسألة الاجتماعية:
"التشغيل استحقاق يا عصابة السراق"
" شغل حرية، كرامة وطنية"
" يا حكومة عار عار، الأسعار تشعل نار"
" خبز حرية، كرامة وطنية"
- مناهضة العولمة:
" لا مصالح امبريالية على الأراضي التونسية"
"لا تجمع ولا أمريكاني ثورتنا ثورة زوالي"
" يسقط جلاد الشعب يسقط حزب الدستور"
" أرض حرية، كرامة وطنية"
" جامعة شعبية، تعليم ديمقراطي، ثقافة وطنية"
"لا خوف لا رعب، السيادة ملك الشعب"
" مقاومة مقاومة لا صلح لا مساومة"
" الشعب مسلم ولن يستسلم"
- النقص في الشرعية:
"ينتهي القانون حينما يبدأ الطغيان" جون لوك
" ارادة الشعوب تكره المزاج" مظفر النواب
" نحن في الشارع لا نعترف بمن يحكمنا..."
"هل تونس جمهورية أم مملكة، أم حديقة حيوانات أم جسن كبير؟"
- واجب العدالة:
" العدالة العدالة، يا حكومة العمالة"
"من أجل مجلس وطني تأسيسي"
" الظلم خراب العمران، العدل أساس العمران" ابن خلدون
- الحاجة الى الاعتراف:
" صامدين صامدين من الرديف الى القصرين"
" الرحيل الرحيل، يا عصابة التقتيل"
" ديقاج ديقاج ديقاج يا خماج"
" خبز وماء والدكتاتور لا"
" ابن العامل والفلاح أشرف منك يا سفاح"
" يا وزير يا جبان شعب تونس لا يهان"
- الحق في الحرية:
" بالروح بالدم نفديك يا حرية"
" لا معنى للحرية في وطن مجرموه أحرار"
" اذا الشعب أراد الحياة، فلابد أن يستجيب القدر" أبو القاسم الشابي
" المخاض عسير والولادة قيصرية ، تحملي الألم يا تونس، فالمولود هو الحرية."
- استكمال المسار الثوري
" الشعب يريد الثورة من جديد"
" الثورة هي الحل"
" صيرورة ثورية"
" لا تجمع لا رجعية لا رجوع للعصابة الدستورية"
" الأغلبية قامت بالثورة، الأقلية تفوز بالانتخابات"
" العصابة في السعودية، والحالة هي هي"
" اذا سقط السيد فإقتلوا كلبه فإن ولاءه لن يكون إلا لسيده"
لقد تجسدت الثورة في هبوط شبابي اضطراري من الافتراضي الى الواقعي من خلال التعبير عن الاحتجاج والعصيان والتمرد يالكتابة على الحائط والجدار والسور واللافتة والواجهة ورسم صور الثوار والزعماء التاريخيين. وكانت هذه الرموز التي دونها مبدعو الثورة على الجدران الافتراضية ورسمتها ريشة الفنانين على واجهات الساحات العامة. وكانت أول الملاحظات حولها أنها تتمحور حول رفض الازدراء وتطالب بالاعتراف الكامل وتكشف عن الطبيعة القمعية للنظام وتدنيسه للحرمات والحقوق وتنشد احترام الحريات والكرامة وتعترض على سوء المعاملة والاحتقار وعلى العنف غير المشروع والتهميش الاجتماعي وعلى الاحتكار الاقتصادي للمنافع والخيرات المادية من طرف الفئة الحاكمة وترنو الى دولة مدنية تسيرها مؤسسات عصرية يحكمها مبدأ العدالة وتتطور عبر منهجية مرحلية.
لقد عبرت هذه المبادئ عن مختلف المراجع والحساسيات السياسية والفكرية التي كانت تنشط بشكل محدود في المجتمع المدني وعكست عن التعددية الفعلية والتنوع الايجابي والاختلاف المثري في المجتمع.
لقد عوضت الصور والجمل المدونة على الجدار الخطابات النارية والأهازيج الثورية والصيحات المدوية التي تطلقها حناجر الثوار وكانت الغاية المقصودة منها هو اعادة طلاء الواقع الاجتماعي بصبغة ثورية. لقد تحول الشعار المكتوب على الحائط الى بؤرة ثورية ومكان للإقامة في المعسكر المضاد للظلم والفساد والشر ومجال تجتمع فيه التناقضات وتتكثف عنده الرغبة في الوجود وشهوة التفكيك وإرادة الحياة وفن العصيان المدني واتيقا التحرر وسيبارنيطيقا الرفض.
ماهو مهم أن الجدران صارت الفضاء المناسب للتدوين والكتابة من جهة المؤلف أين يجد المتلقي متعة في النظر والاستقبال والقراءة ولكنها تبقي مستودعا لتخزين المبادئ والقيم التي داستها أحذية المستكبرين.
يعلن الثائر عبر تلطيخه للجدار بالحبر والدهن وكتابته للشعارات ورسمه للصور عن فعل بدئي وثورة اسمية ومنعطف تشكيلي يقدوه الخيال المبدع والذاكرة النضالية نحو تصور واقع بديل أين يدشن حركة احتجاجية تخالف السائد وتعارض المألوف وتطلق رسالة مضمونة الوصول الى الناس من أجل الحلم بعالم جميل والشروع في تمزيق الصورة الكاريكاتورية السخيفة للحاضر والإجهاز على الميراث الاستبدادي واقتلاعه من جذوره وتشغيل القدرات الجدلية للعقل والعاطفة بغية القطع مع الماضي.
والحق أن الاعلان عن بداية الثورة والعصيان تكون بالكتابة على الحائط أين يتزحزح الوعي عن عرشه ويكسر حاجز الصمت ويخرج من بلاغة الكتب وجمالية القصائد الى الفعل الافتراضي ويلتحق بالنحن ويندمج مع البراكسيس الجماعي ويستنشق غبار المسيرات المتصاعد بعد الركض المثير في الشارع.
غاية الكتابة الثورية على الجدران هو نشر غسيل الفاسدين والتشهير بمؤامرات الملتفين وإخراج الأسرار الدفينة التي أبّدت دولة الاستبداد وأبعدت الأغلبية عن ممارسة السياسة والمشاركة في الشأن العام. لقد تحول الجدار الى واجهة تفضح الممارسات اللاإنسانية وتتصدى الى العنف والتعصب وتعمل على نشر روح التمدن والتحضر وبعد ذلك تعلن المواجهة مع القبح والابتذال والعار الذي يسببه الجلادون للضحايا.
كما يبعث الجدار برسائل الى الآخرين وينتج الفعل التواصلي ويصبح فضاء عموميا للتبادل والاندماج والتلاحم الاجتماعي وينادي على الصامتين بالتحرك والتكلم وفك الحصار عن الذات وتحرير الحشود من القيود وردم أقبية الخوف وإغلاق كهوف الظلام والتفاعل مع المهمشين والخروج عن حالة الرضوخ والعطالة والذهاب الى الشارع والالتحاق بالركب وإفتكاك زمام المبادرة والإمساك بتفاصيل التاريخ.
هكذا يلغي الجدار الصمت الذي كان يخيم على الألسن ويحاصر الآفاق ويسد الآذان وينقل سخرية المنتفضين من رؤسائهم ويساهم في تحريك السواكن ويجعل الثابت متغيرا ويحول الأنظار من المركز الى الهوامش ويلفت الانتباه الى ما كان منسيا ومتروكا ويصعد به الى موقع الصدارة وركح المسرح.
كما يمثل الحائط فرصة للمناصرة وإظهار الولاء الى الحركة الاحتجاجية والإنبناء الى المستقبل المجهول والضمير الثوري الغائب من شدة حضوره ومناسبة للتضامن مع المتضررين والاعتزاز بالشهداء والصراخ في وجه القدر وتحدي العدو افتراضيا في عقر داره دون أن تكون له القدرة المادية على الرد.
كم هو جميل اذن أن يحلم المرء بثورة سياسية على حائط افتراضي؟ وكم هو أروع أن ينتج هذا الحلم كتابة بركانية تقذف الفاسدين بحمم من لهب؟ ولذلك ألا يحتاج الوجدان العربي الى فضاء افتراضي مشترك يكتب فيه ملحمته؟ أليس الجدار خير أنيس ثوري وأفضل صديق في زمن الحراك الاجتماعي والمنعطفات السياسية؟ وما العمل اذا ما بقي الفقراء على حالهم من الاقصاء وإذا ما قبعوا في الظلام أينما ذهبوا وما من أحد يلتفت إليهم وألا يؤدي تجاهل وجود الفقراء الى اندلاع ثورة اجتماعية مجددا؟
المرجع:
حنة أرندت، في الثورة، ترجمة عطا عبد الوهاب، المنظمة العربية للترجمة، الطبعة الأولى، بيروت، 2008.
كاتب فلسفي
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية