لا أعتقد أن حملة الاعتقالات التي تعرض لها أعضاء المجلس الوطني لإعلان دمشق بعد أسبوع من انتخاب هيئاته القيادية، ومنع الأمانة العامة المنتخبة بالقوة من عقد أول اجتماعاتها، ستقضي على النجاح الكبير الذي مثله بالنسبة للمعارضة الديمقراطية السورية انعقاد مجلسها الموسع، في الأول من ديسمبر 2007.
فقد كرس انعقاد هذا المجلس وجودها كقوة داخلية لا يمكن تجاهلها، وأكد أنها ليست طفرة سطحية وإنما موجة عميقة تعكس وقائع بنيوية، في مقدمتها ولادة نخبة ليبرالية تتغذى من انحسار أفكار الاشتراكية على الصعيد الدولي وتحول البلاد نحو اقتصاد السوق، وما ينجم عنه من تمايزات وتوترات طبقية جديدة، وعطش الجمهور إلى لغة تقطع مع أدبيات البيروقراطية الحاكمة التي فقدت صدقيتها وترفض أن تخضع سيطرتها الطويلة لأي استفتاء شعبي. ولن تنجح الحملات الأمنية في تغيير هذا الواقع البنيوي الذي يجعل من المعارضة حاجة عضوية في سوريا ما بعد ربيع دمشق لعام 2001. ولن يكون لها في الظروف القائمة أثر آخر سوى تأكيد وجود هذه المعارضة وتعزيز حضورها وصدقيتها أمام جمهور يتطلع إلى قيادة جديدة، في ظل أزمة الانتقال المؤلم نحو نظام الرأسمالية الطفيلية والوحشية معاً، نظام المضاربات المالية والعقارية ووضع اليد على موارد الدولة وأملاكها من دون توفير الملكيات الخصوصية أيضاً.
بيد أن هذا النجاح لا ينبغي أن يخفي عنا الأزمة الفكرية والسياسية التي تعيشها الديمقراطية العربية عموماً والسورية بشكل خاص. فقد ظهرت المعارضة وتبلورت فكرة تكتل إعلان دمشق في فترة ازدادت فيها الآمال باحتمال حدوث تطور دراماتيكي على الأحداث نتيجة تبدل الاستراتيجية الأميركية في المنطقة في اتجاه التخلي عن سياسة ما كانت تسميه دعم الاستقرار والحفاظ على الوضع القائم أولاً، وبروز سيف المحكمة الدولية المسلط على النظام في سياق التحقيق بمقتل رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري ثانياً. وقد رفعت هذه الظروف الاستثنائية من سقف التوقعات في صفوف الرأي العام، ودفعت المعارضة إلى تبني استراتيجية قصيرة المدى، وخط سياسي راديكالي لا يأخذ ميزان القوى الداخلي بما فيه الكفاية بالاعتبار، مركزاً بالمقابل على احتمال تطور الأوضاع الإقليمية والدولية. بيد أن تبدل هذه الأوضاع بعد انهيار استراتيجية السيطرة الأميركية المنفردة على العراق، وتراجع واشنطن عن سياستها الجديدة الرامية إلى تغيير الأوضاع الإقليمية، أفقد هذه الاستراتيجية مبررات وجودها، بينما صار من الصعب على من صعد إلى شجرة التغيير الفوري أن يقبل بالنزول عنها والتكيف مع استراتيجية طويلة المدى تأخذ بالاعتبار حاجات بناء قوى التغيير الديمقراطي، ولا تعيش على أوهام الضغوط الخارجية أو تركن إليها.
أمام العجز عن تطوير استراتيجية واقعية وعقلانية للرد على التغير الحاصل في مسار الصراع من أجل الديمقراطية سوف تبرز في صفوف المعارضة السورية نزعتان متعارضتان ومتكاملتان معا: نزعة الهرب إلى الأمام والتطلع المتزايد نحو الخارج، ومن ضمن ذلك اكتشاف قيمة المعارضة الخارجية والسعي إلى الربط معها، ونزعة التراجع إلى مواقف ما قبل ربيع دمشق والتكيف السلبي مع نظام السيطرة الأحادية والشمولية. وهكذا سينتقل النزاع ضد النظام الواحدي الذي صبغ السنوات الأولى من تكوين المعارضة نحو الداخل، ويتحول إلى صراع بين أصحاب النزعتين من أجل السيطرة على الإعلان. وفي هذا الإطار ينبغي تفسير ما حصل في الانتخابات الأخيرة للمجلس، وأدى إلى إقصاء ممثلي أحد أهم الشركاء في تكوين الإعلان، حزب الاتحاد الاشتراكي الديمقراطي، من قيادة التشكيل السياسي الجديد، وقاد هذا الحزب إلى تجميد عضويته في الإعلان. ومن الواضح الآن، وهو ما كنت قد لمسته في لقائي بعدد كبير من أعضاء المجلس في جلسة الغداء الذي أقامه النائب السابق ورئيس الأمانة العامة للإعلان رياض سيف بمناسبة زيارتي لدمشق، أن هناك خطين يتنازعان الإعلان. الخط الذي يعتقد أن المشكلة كامنة في ضعف إرادة البعض وخوفهم من التصعيد ضد النظام، وبالتالي لا حل لأزمة الإعلان إلا في عزلهم. وهو الخط الذي يرفض المراجعة والنظر في التجربة الماضية والتحليل الموضوعي للوضع الوطني والإقليمي والدولي، ويهرب لذلك من مسألة ضرورة بلورة رؤية نظرية واضحة وخطة طريق تؤلف فعلياً بين جميع تيارات المعارضة، مكتفياً بالتفاهم المبدئي حول شعار الديمقراطية. والخط الثاني الذي يدعو للتمهُّل والحيطة ويراهن على تنشيط المشاعر والقيم الوطنية التاريخية للحد من جموح بعض الأطراف إلى التطلع نحو "المساعدة" الخارجية والتعلق بوهم مفعول المحكمة الدولية. وقد قاد الحسم الذي سعى إليه البعض في هذا النزاع إلى تفجير أزمة التكتل الكامنة أكثر مما قدم حلاً لها. فأضيفت أزمة انعدام الثقة داخل قوى الإعلان إلى الأزمة الأشمل المتعلقة بالعجز عن بلورة رؤية عملية للتحرك في إطار سياقات إقليمية ودولية جديدة تتطلب تخفيض سقف التوقعات وتطوير أساليب عمل أكثر انخراطاً في الواقع اليومي للناس وأكثر إبداعية ومرونة.
لا أعتقد أن هناك مهرباً بعد الآن لقوى الإعلان، إذا أرادت أن تتجنب النزاعات الداخلية وتهيئ نفسها لمعركة الحرية الطويلة، من التراجع عن سياسات الإقصاء وفتح مناقشة واسعة بين صفوفها لدراسة التجربة الماضية، بما فيها تجربة الانتخابات الأخيرة الإشكالية، في سبيل الانتقال إلى مرحلة جديدة تعتمد أرضية سياسية واضحة تنال قبول جميع الأطراف، وتؤسس لخط بديل يقطع مع نزعة الهرب إلى الأمام أو النكوص إلى تكيفات ما قبل ربيع دمشق، ويؤكد على المبادئ والقيم الملهمة للتغيير، لكنه يتعامل بصورة إبداعية مع الأساليب والوسائل، ويقيم حساباته على أسس أكثر واقعية وعقلانية، لا يتجاهل العوامل الخارجية المساعدة، لكن لا يبني حساباته عليها، ويتمسك بالقيم الوطنية والاستقلالية العربية، لكن من دون أن يفصلها عن مسائل التحول الديمقراطي والاجتماعي أو يجعلها بديلاً عنها.
وهذا ما يتطلب التخلي عن الاستراتيجية القديمة التي ارتبطت بتوقع انهيار مفاجئ، وتبني استراتيجية عمل بعيد المدى لا تراهن على تغيير مفاجئ، ولا تسلم بالأوضاع القائمة، محورها بناء القوى الذاتية التي لا غنى عنها لقيام سلطة ديمقراطية وطنية في أي حالة من حالات التغيير، سواء أكان من النوع المفاجئ أو التدريجي. وأساس ذلك ربط برنامج الصراع وأساليبه وأجندته بأجندة هذا البناء، لا بأجندة الضغوط الخارجية أو أجندة مقاومة النظام نفسه لهذه الضغوط. فهذا هو السبيل الوحيد لتقريب قطاعات الرأي العام وأصحاب المصالح الاجتماعية الكبرى المختلفة وجذبها إلى مشروع التغيير الديمقراطي بها. ومن دون هذا الاستثمار في القضايا الاجتماعية التي تشغل الناس، لن يستطيع الإعلان فك العزلة المضروبة عليه، وسيضطر، للتعويض عن ذلك، إلى الاستمرار في تغذية الأوهام الكبيرة في أثر العوامل الخارجية، وفي تقديم الوعود الكاذبة التي ستترجم لا محالة في المستقبل على شكل إحباطات متتالية للرأي العام ولقوى وأعضاء إعلان دمشق أيضاً
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية