اليسار العربي وضريبة العشق من طرف واحد
مع تتالي الانتفاضات العربية كثر الكلام عن بروز تيار الإسلام السياسي بل وتفوقه على باقي التيارات وخاصة اليسارية منها بجناحيها القومي والماركسي ، والمستعرض لمجريات الأمور في تونس والمغرب ومصر يستنتج بسهولة بالغة أن التوصيف السابق ، توصيف واقعي وصحيح، ويكاد الكل يجمع عليه، لكن بتفسيرات وردَات فعل متباينة
الإسلاميون اعتبروا ذلك دليلا على تفويض الشعب لهم بالمطلق وانتصارا لأيديولوجيتهم وشعارهم ( الإسلام هو الحل)، وتلوح في خطابهم رائحة موقفهم القديم والمتطرف والقائل باستفتاء الشعب مرة واحدة فإن اختارهم فمن حقهم أن يحكموه مدى الدهر، وهم في واقع الأمر لا يستفتون الشعب على أنفسهم ولا على برامجهم السياسية ، إنما يطرحون عليه سؤالا مضللا ليختار بين الدين، ولا دين، وعندما يختار الدين بطبيعته المؤمنة بعيدا عن السياسة، يجيَرون هذا الاختيار لمصلحتهم السياسية واضعين أنفسهم أوصياء على الدين والمتدينين ، ويصبح الدين غطاء لبرامجهم الشخصية والسياسية التي كثيرا ما تكون متناقضة بين أشخاصهم وجماعاتهم المختلفة والمتصارعة غالباً، بل وهم مستعدون لتجاهل كثيراً من المبادئ والقيم التي يتشدقون بها ،خدمة لمصلحة سياسية ما، وهذا ما حدث مع الإخوان المسلمين والتيار السلفي في مصر عندما تجاهلوا ما قام به عناصر الجيش المصري من الاعتداء على النساء في ميدان التحرير وتعرية إحداهن و الدوس على صدرها ، ورفضوا المشاركة في مظاهرة الاحتجاج على هذا التصرف ،كي لا يعكروا صفو فوزهم بالانتخابات، وأكثر من ذلك راح مطلقي اللحى وحليقي الشوارب يلومون المرأة الضحية لأنها لم تلبس السروال الشرعي تحت ثيابها تحسبا للطوارئ!!؟؟
أما اليسار فقد اتسمت ردات فعل فصائله بخيبة الأمل والحنق ، لدرجة أن الأمر وصل ببعضهم لرفض الانتفاضات العربية بالمجمل والتشكيك فيها بل ووضعها في إطار المؤامرة على الأمة والمنطقة ونظمها التقدمية والوطنية! وصرنا نشاهد على الفضائيات شخصيات يفترض أن تؤيد حرية الشعوب، نراها تدافع عن الظلم والاستبداد ورموزه، بحجة مقاومة المشروع الغربي المتآمر، وكأن الوطنية لا تكون إلا بقمع الشعوب واضطهادها
والحقيقة أن مراجعة اليسار لذاته ستبين له أن ارتباطه بالدكتاتوريات هو الذي أفقده تأييد الجماهير ، فلقد قامت فلسفة اليسار في الحكم على الشرعية الثورية والتي تقضي بمصادرة بعضاً من حريات المجتمع ، لصالح السلطة الثورية تلك ، كي تتمكن من إنجاز التحول الثوري للمجتمع الذي يسمح للسلطة بعد ذلك من تعويض الناس عن حرياتهم المصادرة بمزيد من الرفاهية والعدالة الاجتماعية والحرية والكرامة الوطنية، لكن الذي حصل على الواقع أنهم صادروا الحريات ونهبوا الثروات واضعفوا الأوطان بوجه أعدائها ، وتحوًل رموز السلطة من مناضلين من أجل التغيير والحرية إلى فاسدين وناهبين لقوت الشعب ومتلاعبين بمصيره ومستقبله، وإلى أصنام مفروض على الجماهير عبادتها وتقديسها
حتى الفصائل اليسارية التي كانت خارج السلطة لم تستطع أن تكون على موقف عدائي من القمع والدكتاتورية ، لنأخذ مثلا العلاقة بين تيارين قوميين أساسيين ( البعث والناصرية) فالأحزاب الناصرية كانت مقموعة تحت حكم البعث ومع ذلك لم تكن لتأخذ موقفا واضحا ضد القمع ومصادرة الحريات، جُل ما كانت تعمل له هو السعي لمصالحة مع الحكم يضمن لها مصالحها الذاتية، أي أن الخلاف كان على المكاسب ولم يكن على شكل الحكم ومضمونه ، الشئ ذاته يقال عن البعث في مصر الناصرية فقد كان لعبد الناصر موقفاً يصل لحد العداء لحزب البعث ومع ذلك لم يكن موقف البعثيين في مصر يتعدى مستوى الصدى للخلاف الذاتي بين حكام البعث وعبد الناصر ،
أما الماركسيون فقد كانوا مقموعين وملاحقين من قبل البعث والناصرية ومع ذلك لم يكن للماركسيين أن يقفوا من هذه الأنظمة إلا موقفاً مندداً بالقمع الذي يطاولهم هم فقط، مع حفاظهم على وصف هذه الأنظمة بالوطنية والتقدمية والدعوة للوقوف معاً في صف واحد ضد الامبريالية والصهيونية العالمية ، أي أنهم لم يرفضوا القمع بالمطلق كأسلوب حكم إنما رفضوه باعتباره ضدهم فقط مع تبريره إن كان ضد (أعداء الشعب) ، لدرجة أن الأحزاب الماركسية وافقت على مقولة النظامين السوري والمصري بأن عدوان حزيران قد فشل لأنه لم يستطع إسقاط النظامين التقدميين في سوريا ومصر ، وكأن احتلال الجولان وسيناء لم يكن نجاحاً للعدوان ولا احتلال الضفة الغربية نجاحاً للتمدد الصهيوني الاستيطاني ، وعندما تجرأ الحزب الشيوعي المصري وطرح مقولة أن الأنظمة العسكرية المستندة إلى البرجوازية الصغيرة قد فشلت في انجاز المهمات الوطنية والتنموية ، وفشلت كذلك في التحول الاشتراكي، تماشياً مع الوصف الماركسي لهذه الطبقة المتذبذبة والانتهازية ، فقد اعتُبر ذلك من قبل الأحزاب الماركسية الأخرى موقفا متطرفا يسارياً،
هكذا كانت القوى اليسارية تتعامل مع الأنظمة القمعية والديكتاتوريات بعقدة العشق من طرف واحد ، تتلقى الضربات والقمع بكل رحابة صدر وتساهم مع تلك الأنظمة في الضغط على الجماهير للسكوت على الظلم وقبول مصادرة الحريات بحجج ما أنزل الله بها من سلطان ،ففي الوقت الذي كان نظام البعث يزج بالشيوعيين السوريين في السجون كان الحزب الشيوعي السوري يدعو بل ويستجدي جبهة وطنية تقدمية مع النظام ، وعندما قُتل أحمد الزعبي تحت التعذيب كان لخالد بكداش وزيران في الحكومة ، ولم يأخذ الشيوعيون موقفاً جذرياً من نظام عبد الناصر الذي أذاب زبانيتُه فرجَ الله الحلو بحمض الكبريت والذي أرسى نظام الدولة الأمنية وحكم المخابرات ، وظلوا ينشدون المصالحة معه بحجة الجبهة العريضة لمعاداة الامبريالية والصهيونية دون أن ننسى مطلب الصداقة العربية السوفيتية، وتعودنا على تفسير الشيوعيون لأي احتجاج أو تحرك شعبي بعبارات ما زالت مستخدمة حتى اليوم في خطابهم السياسي ، على شاكلة : لمصلحة من هذا التحرك " في إيحاءٍ بمصلحة الامبريالية أو إسرائيل" أو لِما هذا التوقيت لهذا الاحتجاج أو ذاك التحرك؟ ، ووضع أي تحرك مطلبي في سياق الصراع العربي الإسرائيلي أو حتى بسياق الحرب الباردة بين المعسكرين!.... هكذا ارتبط تاريخ القوى اليسارية بعلاقة مباشرة أو غير مباشرة ومتواطئة مع الأنظمة القمعية والدكتاتورية ، وعندما اختارت الجماهير القوى الإسلامية في الانتخابات الأخيرة (مغرب، تونس ، مصر ) لم يكن ذلك لأن الجماهير تهوى التطرف الديني وتعطي الإسلاميين( شيكاً) مفتوحاً ولا لأنها تكره الحداثة والتطور الاجتماعي ، إنما لأنها اختارت من رأت فيه بعداً عن العلاقة مع الأنظمة القمعية، باعتبار أن الإسلاميين كانوا ملاحقين من تلك الأنظمة سابقاً وعلى الأقل لم يكن لهم صفقات مكشوفة معها على نمط الجبهات الوطنية التقدمية ، ومن جهة ثانية أرادت الجماهير أن تعاقب من ساوموا على حريتها وكرامتها وأيدوا أنظمة قمعية متسلطة فاسدة وحاولوا أن يتغطوا بعباءة معارضة واهية شكلية ، لقد ارتبط اليساريون مع تلك الأنظمة بعلاقة عشق من طرف واحد فدفعوا ثمنها..... متمنياً أن يصحوا لفعلتهم ويراجعوا سياساتهم ومقولاتهم وأفكارهم التي صارت خارج التاريخ
دكتوراة علوم سياسية
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية