بينما كان قادة أحزاب الجبهة الوطنية التقدمية في سوريا ، ينعمون بسياراتهم الفارهة ويحلمون بمزيد من المكاسب السلطوية ، والشهرة النضالية ، مطمئنين إلى أن قائدهم باق إلى الأبد وأن رياح الربيع العربي لن تصل إليهم قبل أجيال ، حتى رائحة شواء لحم ( ابوعزيزي ) لن تصل إلى أنوفهم ، فأين منها رائحة شواء جسد ابن المقفع؟! وبينما كان قدري جميل يعد الخطط ويسدد الضربات لسحب بساط الشيوعية من تحت أقدام رفاق الأمس ( حنين نمر أو عمار بكداش) ليحوز شرف تمثيل اللون الأحمر في الجبهة ، وفي الوقت الذي كان رموز إعلان دمشق والمجتمع المدني يراجعون بياناتهم السابقة ( وهي موضع احترام على كل حال ) لعل شيئاً في صياغتها اللغوية يفسر عدم قدرتها على اسقاط النظام وتحقيق الانتقال السلمي الديمقراطي للسلطة ،وفي الوقت الذي كان فيه رموز المعارضة المنفية أو المهاجرة في الخارج ، كانوا يبددون الملل من فنادق مدن الغرب بشئ من البيانات والتصريحات المتفرقة والمتباعدة ، مع كل ما سبق وحدهم أطفال درعا لم يكلفوا عقولهم فوق وسعها ، لم يدرسوا وضعية المعارضة داخلها وخارجها ،ولم يكلفوا أنفسهم عناء فهم المعادلة الدولية التي افرزت قناعة غربية بأن النظام السوري قوي وباق ولا أمل في اهتزازه، لا من خلال معارضة ولا بالضغوط الخارجية، معبرة عن هذه القناعة بعودة الانفتاح على النظام السوري عن طريق دعوته المفاجئة ليكون ضيف الشرف في الاحتفال بذكرى الثورة الفرنسية ( ثورة الحريات والديمقراطية ) بعد قطيعة طويلة قادتها أمريكا وفرنسا، هؤلاء الأطفال ضربوا بعرض الحائط بكل هذه الحسابات وكتبوا ما في ضمير الشعب على جدران مدرستهم ، فأذا بهذه الكلمات تتحول إلى معاول جبارة تدك جدار قمع النظام وتهز أركانه وأساساته ، ولكن( للأسف) كان لهذه الضجة أن تزعج صفو نوم أحزاب الجبهة ، واستفاقت عليها أيضا أحزاب المعارضة الداخلية والرموز المعارضة في الخارج،وهي مذهولة لا تدري ما تفعله
احزاب الجبهة حزموا أمرهم بسرعة واختاروا أن يساندوا النظام بأي ثمن وتحت أية ذريعة وحجة ، حتى أن صحيفة حنين نمر قالت من الأسبوع الأول أن مطالب الجماهير قد استجيب لها ولم يعد من مبرر للتظاهر ، أما معاضة الخارج وجبهة التحرير والتغيير (قدري جميل – علي حيدر) فقد جمعتهم نقطة واحدة رئيسية ، وهي النظر للداخل من موقع الخارج ولكن من زاويتين مختلفتين ، جبهة التحرير رأت أن جوهر المشكلة هي المؤامرة الخارجية والتي تهدف إلى إنهاء دور سورية الممانع وتتكئ هذه المؤامرة على المطالب ( المحقة ) للشعب السوري لذلك كان موقفهم المعلن : رفض شعار إسقاط النظام ثم الدعوة للحوار من أجل دفع النظام لاصلاحات تلبي المطالب المحقة ، لكنهم في الواقع لم يكونوا إلا مع النظام لأنهم كانوا يبررون كل تصرفاته ويهللون لكل إعلان اصلاحي خادع ، ولم ينددوا يوماً بعمليات القمع الاجرامي للمتظاهرين بل على العكس كانوا يغطون هذا القمع بالحديث عن العصابات المسلحة منذ اليوم الأول ، يوم كانت سوريا كلها لا تحتوي إلا على مسلحي النظام وشبيحته وقواته
المجلس الوطني ، ايضاً نظر للداخل من موقع الخارج ،وحلم باستنساخ التجربة الليبية ، كأقصر الطرق لاسقاط النظام ، دون أن يتعب نفسه في دراسة حسابات الدول الخارجية ومصالحها ، هذا إذا افترضنا أن أعضاء هذا المجلس لديهم القدرة على مثل هذه الحسابات ،والتي أثبتت الأيام أنهم لا يملكونها أصلاً ، صدقوا وعود الخارج واندفعوا في مسار لا يهدف إلا لإقناع الغرب بالتدخل العسكري ، اتكؤا على غوغائية أردوفان ، واستغلوا حماس المنتفضين وفورة الدم المراق من أجل استدراجهم لطلب التدخل الخارجي ، ظناً منهم أن مجرد تشكيل المجلس الوطني فإن الغرب سيسارع للاعتراف به ويعد الجيوش من خلال مجلس الأمن أو من خارجه ليغزو النظام السوري في عقر داره ، لكنهم لم يحصدوا إلا الخيبة والخداع والتسويف
وحدها هيئة التنسيق كانت الأكثر انسجاماً مع ذاتها، عندما كانت تطرح شعار اسقاط النظام (الأمني الاستبدادي ) مع معارضتها للتدخل العسكري الخارجي وإن كانت لا تمانع الضغط السياسي والحماية الدولية من خلال منظمات الأمم المتحدة أو الجامعة العربية ، لكن للأسف لم يكن لهيئة التنسيق قوة على الأرض ولا فعالية دبلوماسية في الخارج ، ولقد حجمت دورها من خلال انغماسها في مناكفة المجلس الوطني ومنافسته على الاعتراف الخارجي ومطاردته من مكان لآخر من أجل عرقلة مساعيه وإثبات موجوديتها
هكذا وقع الشعب السوري المنتفض بين براثن أحزاب تشتري رضا النظام بالمساومة على دمائه ، ومعارضة بالخارج تتعلم هواية السياسة وسلوك الصالونات والمؤتمرات الصحفية ،وتشتري وتبيع بدم الشعب المنتفض، وجبهة تحرير وتغيير أقل ما يقال فيها أنها جبهة انتهازية وتضليل، وخير من يعبر عنها شبيح الاعلام الاستراتيجي مخائيل عوض ،وهيئة تنسيق تجتر ذكريات النضال السالف ويتباهى رئيسها في الخارج هيثم مناع ببحثه عن الطهر الثوري من خلال طروحات أكاديمية يستغلها شبيحة إعلام النظام ويستشهدون بها في نقاشاتهم دون أن يمنعهم ذلك من وصفه بأقذع العبارات عندما يقول كلاماً لا يعجبهم ،
شباب الانتفاضة الأبطال تعرضوا لأبشع آلة قمعية عرفها التاريخ ، يتباهى مجرموها بجرائمهم علناً ، بل أن نفسيتهم الإجرامية تدفعهم لتصوير جريمتهم وتوزيعها ، مؤكدين أن الاجرام خاصية متأصلة في تركيبتهم الوراثية وليست طارئة بحكم الواقع الميداني ، لم يستطع هذا الشباب أن يفرز قياداته السياسية من رحم تحركه حتى ترسم له الأفق السياسي الذي يمكنه من تجاوز كل الأحزاب التقليدية الهرمة والمجلس الوطني الهاوي المراوغ وهيئة التنسيق المتصابية ، ذلك أن عناصر الصف الأول والثاني وربما الثالث قد تمت تصفيتهم قتلاً أو اعتقالاً
الشعب السوري المنتفض ، وقع رهينة لطموحات الدب الروسي الذي يسير ببطئ قاتل نحو حلم امبريالي منافس للأمريكان ودافعاً الصراع بعيداً عن حدوده ، منسقاً بذلك مع صديقته اسرائيل ومتفاهماً معها على الملفين الأخطر في المنطقة ( السوري والنووي الايراني )، يحمي النظام سياسياً بفيتو مجلس الأمن ويمده بكل ما يلزم من أدوات القمع والقتل والإجرام ، وترى عيونه معسكراً صغيراً لتدريب المقاتلين السوريين في الغياهب السحيقة للصحراء الليبية ، ولاترى المجازر التي يرتكبها النظام السوري بحق الشعب المطالب بالحرية وبأسلحة روسية وصلت حديثاً وبتوجيه استخباراتي روسي مباشر في الميدان ،
فيتو روسي امبريالي في مواجهة امبريالية غربية أمريكية، يعطي الفرصة لنظام للاستمرار في قمعه ، ويهئ المعارضة التي تتعرض للقتل والتنكيل واليأس لأن تكون جاهزة نفسياً وواقعياً لاستقبال ما يقدم لها من سلاح، سلاح ستدفع أمريكا إلى تقديمه وإن يكن بطريقة غير مباشرة كي تظمن استمرار الأزمة وكي لا تنكسر أمام الروس ، طالما أن فاتورة المال والدم يدفعها غير الامريكان ، فيتو روسي يعطي الغطاء للغرب عموماً وللأمريكان خصوصاً بالإختباء خلفه أمام الرأي العام لشعوبهم ويستطيعون من خلاله مسايرة التخوفات الاسرائيلية دون أن يظهروا أمام الشعوب العربية ( التي دخلت رقماً مهماً في المعادلة الامريكية هذه الأيام) بمظهر المتواطئ على مصالحها، هذا التواطؤ الذي يبدو واضحاً من خلال التفويض الذي أعطي لكوفي عنان والذي أعطاه مهلة ستة أشهر لحل الأزمة ، مما يعني أن الأمريكان يبشرون شباب الانتفاضة السورية بأنهم لن يسمحوا بانتهاء الأزمة السورية قبل انتهاء الانتخابات الامريكية ،فاستمرارها يححق لهم هدفين ، فمن جهة لا يعطون الروس فرصة الانتصار، ومن جهة ثانية لا يجازفون بمحاولة حل قد يؤثر على نتائج الانتخابات الامريكية
مسكين شعبنا السوري ، خرج إلى الشارع مطالباً بالحرية ، فإذا الكل يتآمر عليه ، ، فللمرء أن يتصور سوء قدر هذا الشعب الذي ليس له بارقة أمل إلا بانتظار مبادرة صينية هزيلة ، أو بعض السرعة والتفهم من الدب الروسي لافروف ، أو نجدة من أوباما المراوغ أو ساركوزي المعتوه أو انتصاراً لحريته من حكام قطر، أوفزعة من أردوفان الانتهازي، أو ينتظر أن يفهم دروس قدري جميل بالاقتصاد والثنائيات على أمل تشكيله لحكومة الوحدة الوطنية ذات الصلاحيات الواسعة، أو يعمل بتنظيرات رفيق نصرالله بالخطط العسكرية أو استراتيجيات أنيس نقاش وتضليلات حسن نصرالله وقرف العرعور ، أم عليه أن يتمعن أكثر بافتتاحيات قاسيون؟! ...
إنها المؤامرة على الشعب السوري
وتتكشف خيوط المؤامرة على الشعب السوري... علي هاشم أبو هاشم

تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية