تعتبر محافظ إدلب نموذجا مصغراً عن سوريا من جميع النواحي " الديموغرافية و الجغرافية و التاريخية " و أي حديث عن هذه المحافظة لايمكن الإحاطة به في مقال صغير بل يحتاج لورقة بحثية متكاملة نظراً لأهمية هذه المحافظة و دورها في الحراك الشعبي و الثورة السورية ..
أعتقد أن العقل الأمني للنظام و غرف عملياته القذرة فضلت التعامل بطريقة مختلفة مع هذه المحافظة تحديدا , و التي تقدر مساحتها بأكثر من 60 ألف كم2 , و تتمتع بطبيعة جغرافية مختلفة تماما عن المدن و المحافظات الأخرى , حيث تتنوع تضاريسها ما بين هضاب و وديان و سهول في قلب الوادي و تنتشر فيها جبال متعرجة بارتفاعات متفاوتة , و هذه البيئة الجغرافية الفريدة من نوعها يصعب فيها إحكام السيطرة العسكرية و الأمنية , و قد عمد القائد السوري ابراهيم هنانو في ثورته ضد الفرنسيين على استجرار قوات الاحتلال إلى هذه المناطق , و نصب العديد من الكمائن لها لاسيما في منطقة عين السخنة و وادي العاصي , و حقق انتصارات عديدة فيها مستغلا خبرة الثوار من أهالي المنطقة بالتضاريس المحلية و مستفيدا من جهل الفرنسيين بها , و أغلب الظن أن النظام يضع هذا الإعتبار أمام ناظريه فبدا حذراً في التعامل بتكتيك مختلف تماماً عن طريقة تعامله مع المدن و المناطق الأخرى.

إن هذا التنوع الجغرافي جعل من مناطق المحافظة ملجأ حقيقياً لعناصر الجيش السوري الحر و كل المنشقين عن قوات النظام .
تتميز محافظة إدلب بكثافتها السكانية العالية و التي تزيد عن مليون و نصف منتشرين في أربع مدن رئيسية هي إدلب و حارم و أريحا و جسر الشغور و في مدن صغيرة مثل دركوش و سلقين و معرة النعمان و خان شيخون و كفر تخاريم و غيرها إضافة إلى انتشار كثيف في القرى و الأرياف و المزارع , و الكثير من هذه القرى و المزارع متقارب من بعضه البعض , و إذ يعمل أغلب سكان المحافظة بالزراعة نظرا لخصوبة الأراضي على كامل أرض المحافظة فإن هذه المنطقة غنية بالتنوع الديني و الإثني و تحوي فيها كل ما تحويه سوريا من طوائف و أديان و قوميات , كما يوجد فيها انتشار واسع لمختلف التيارات الفكرية و الأحزاب السياسية و خلال تاريخ المحافظة لم يعرف أي أحداث طائفية جرت على أرضها بل أنها على العكس من ذلك أثبتت تآلفاً خاصا بين مكوناتها المختلفة و مجمل الصراعات كانت ضمن الدوائر السياسية حيث شهدت المحافظة بأريافها حراكاً سياسياً مبكراً نظراً لنزوع أهلها للتعليم و التحصيل العلمي و ميله للحالة المدنية نظراً لجذوره التاريخية , و يتميز السكان فيها بالتآلف الاجتماعي و الاتجاه نحو الانفتاح المعتدل و في الوقت نفسه تعتبر خزاناً بشرياً قام بمد مختلف المدن السورية بالعنصر البشري و الكوادر الوظيفية و الحزبية و العسكرية و الخدمية , ومنها يوجد العديد من القيادات و المسؤولين في السلطة منذ بداية تشكيل الدولة السورية الحديثة حتى قبل انفصال المحافظة إدارياً عن حلب سنة 1961 .
و نذكر هنا بأن العديد من قيادات حزب البعث و الأحزاب العلمانية هي من محافظة إدلب و تسجل التيارات الدينية حضوراً ضئيلاً رغم نزعة التدين الموجودة في بعض المناطق.
من المعروف أن أغلب كوادر شرطة المرور في سوريا من محافظة إدلب و ذلك بحسب التقسيم المتعمد من النظام في توزيع الوظائف على المناطق و الطوائف السورية فشغل أغلب سكان منطقة جبل الزاوية العمل في وزارة الداخلية و شرطة المرور لاسميا في مدينة دمشق فضلا عن أن قطاع الخدمات في مدينتي دمشق و حلب يعتمد على العنصر البشري القادم من هذه المحافظة.
كما تقوم إدلب و نظرا لقربها من حلب بمد الأخيرة بالعنصر المهني و الوظيفي للمحافظة و يوجد تقارب كبير بين المدينيتن من حيث مجمل العادات , و يوجد في مدينة حلب أحياء كاملة من مدينة إدلب و ريفها و ليس من قبيل المبالغة أن نقول أن أغلب الأحياء التي ثارت في مدينة حلب يوجد فيها كثافة سكانية عالية من مناطق إدلب خاصة الريف الشمالي لإدلب أو الجنوبي كمناطق سلقين و دركوش و كفرتخاريم و أرمناز و حارم و جسر الشغور و أريحا و معرة النعمان و معرة مصرين و ئطمة و سرمدا و غيرها و التي يقيم الكثير من سكانها في حلب.
تتاخم محافظة إدلب الحدود التركية بطول يقدر بـ 150 كم2 و هذا الامتداد سهل حركة التهريب خاصة في بعض المناطق و القرى مثل حارم و خربة الجوز , ويعرف عن المهربين بأنهم يعملون تحت إمرة كبار تجارة التهريب من آل النظام و دوائره الضيقة و مع بداية أحداث الثورة ارتكب النظام عدة أخطاء بحق حلفائه من المهربين فانقلبوا ضده قبل و خلال أحداث جسر الشغور ما أدى إلى تراجعه عن فكرة التصادم معهم خاصة في منطقة حارم حيث قام بغض النظر عن كل تصرفاتهم بل عمد على توثيق تحالفاته معهم لضمان عدم انضمامهم للثورة تماما كما يحدث مع بعض مناطق إعزار في حلب.
هذه المعطيات جعلت العقل الأمني للنظام يتعامل بحذر مع هذه المحافظة و شكلت مدينة جسر الشغور تجربة مريرة له , فعمد على تطويق مناطق المحافظة بأشكال مختلفة عبر حصارها أمنياً و تجزئة عملية الهجوم عليها على طريقة المربعات الأمنية فحاول إطباق السيطرة بشكل تدريجي من خلال إخماد المناطق الملتهبة و عزلها عن الجانب التركي منعاً لنزوح المزيد من اللاجئين و الهاربين فنشر الجيش هناك و زرع الألغام و فتح سد الرستن لإغراق بساتينها و إرهاق سكانها , و اعتمد سياسة أخرى في استمالة بعض المناطق فيها و ضرب بيد من حديد مناطق أخرى في حين قام بتجاهل العديد من المناطق التي لايمكن أن يسيطر عليها إلى أن يأتي دورها على القائمة.
إن محافظة إدلب التي لن تتأخر عن اللحاق بركب الثورة و قدمت للمدن الأخرى مداً معنويا عالياً كما ساهمت في التخفيف عن حصار بقية المدن و قامت بدعمها غذائياً و طبياً.
عبر التاريخ كانت المحافظة بمناطقها ممراً للغزاة و الفاتحين و المارّين كما أنها كانت عبر التاريخ مقتلاً للغزاة و الفاتحين و المارّين و لا يزال أبناء ممالك آرام و إيبلا و أحفاد كروم التين و الزيتون يحرثون أراضيهم " بالئدوم " و " يشحلون " و " يعئرون " أشجارهم إلى يومنا هذا و عند كل مساء صيفي يعصرون العنب التموزي و " يدبكون .. "
سوف تكون إدلب إختباراً حقيقياً لحماقات النظام المتتالية و سوف تؤدي أي رعونة منه إلى تحرك جديد غير مسبوق لامتدادات المحافظة سكانياً في دمشق و حلب , كما أن هذه الرقعة الفريدة من نوعها و التي تشكل نموذجا مصغراً لسوريا سوف تكون تحدياً يؤكد مجدداً بأن الشعب السوري واحد و أن أي اعتداء على إدلب سوف يحرك الكثير من الفائت الصامتة في بقية المدن الكبرى منها خصوصاً ..
ما يمكن أن يقوم به النظام في الأيام القادمة بمحافظة إدلب كفيل بإثبات صحة ما تدعيه الجغرافية و الديموغرافية و التاريخ ..
هامش أخير :
للمرة الأولى أُبدي إعجابي بمحافظة إدلب .. و هذا ليس تحيزا لمنطقتي لأني منحازاً لسوريا كلها دفعة واحدة .. إلا أنه لابد من القول بأن إدلب بأهلها الأحرار تؤكد للمرة المليون بأنها منارة من منارات ثورتنا .. لم تتأخر منذ البداية عن اللحاق بركب الثورة .. و تقديم القرابين فداء للحرية .. و تكشف في كل يوم عمق انتمائها لسوريا و الإرث الإيبلاوي الدفين الذي تضعه تاجاً .. إدلب التي تحاشاها النظام " نسبيا " تثبت في كل يوم سلمية الثورة .. و تثبت في جنبات أخرى من مدنها و أريافها صحة قوانين الفيزياء في الفعل و ردة الفعل ..
إدلب .. قوس قزح الثورة السورية ... و أكثر
صحفي سوري*
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية