الى أين يمكن أن توصلنا هذا التعابير (عبادة العبادة ) ا( التزمت في العبادة ) ( الإرضاء الكلي لله) ) . مع ما يرافقها من عمليات ، لوخز ضمير المؤمن ، وحثه ، على الاستمرار بالعبادة بشكل دائم وقاسي ، وتحويل كل ثانية ودقيقة خارج هذا المجال ، الى جريمة وكفر وخطيئة مميتة .
ان وخز الضمير ، والذي يتعرض له المؤمن المتعبد ، لمجرد تفكيره ، بمتعة ما ، أو تسلية ما ، ما هو الا أسف لا فائدة فيه ولا فاعلية . فهو التمني ، لو أن تلك الدقيقة أو الثانية ، لم تضع في غير طريقها الحقيقي ، والذي هو تسبيح الخالق وتمجيده .والتألم من عجز المؤمن عن ارجاع عقارب الساعة الى الخلف ، فيتألم المتعبد في داخله وهو يقول : آه لو استطعت أن لا أُضيع دقيقة واحدة من حياتي ، في تسبيح وتمجيد ربي ---آه يا للأسف لقد أضعت بعض الوقت في العمل واللهو والتسلية . ويحبس نفسه هكذا في دائرة أسف مغلقة لا جدوى منها ولا نفع ، وعندما يستسلم هذا المتعبد الى تبكيت الضمير الذي يصنعه بنفسه ، يقع فريسة شعور قلق باطني ينهشه ، ويقض مضجعه بهموم فاسدة لا ثبات لها ولا قرار .
إن متعبد تبكيت الضمير الدائم هو شخص الضيق ، ضيق خفي يصاحبه إحساس بأن الله يتلذذ بهذا الألم ويُسر به . ويصل الى مرحلة ، يؤمن فيها ، بأنه كلما ازداد ألمه ، ازداد حب الله له . حتى يبلغ الذروة ، عندما يؤمن أن تفجير نفسه ، وتمزيق جسده ، الى أشلاء ، هو قمة اللذة وقمة ارضاء الخالق .
(( الآب السادي )) : وهو التعبير الذي وصف به فرويد الله الذي يستمتع ويستلذ بآلام الإنسان .
الهوس في العبادة ، الهوس في ارضاء الخالق ، ما هو الا احدى صور الأمراض العصبية . وهو حركة تكرارية يقوم بها المتعبد مرغماً ، إذ أنه ينقاد لها تلقائيا ، مثل حمار يدوّر حجر الطاحون . إنه يدور ويدور وما من أحد يوقفه .
ثم يأتي الوسوااس العبادي ، إذا صح اطلاق هذا التعبير عليه . وهو الذي لا يخلو من صلة بالأسف ، على كل ما ضاع من أوقات ، توقف فيها (المتوسوس) عن عبادة الخالق وتمجيده . وإن ازدادت شدة الوسواس ، يمكنه أن يؤدي إلى أخطر درجة من التوتر العصبي ، وهو ما يسمى : ( الانهيار العصبي ) . وهنا يكمن أحد أخطار هذا الانهيار والذي يتمثل في هذه الحالة في عودة عقيمة الى ماض بال ، يستذكر فيه المؤمن ، الأوضاع الأولى لكل المتعبدين ، وكفاحهم ونضالهم وقتالهم وتضحياتهم . فيصبح منبعاَ لا ينضب ، لتفعيل روح الثورة والاقتداء بالسلف ، ويقود الى انشغال فكري حتى درجة (الهوس) ، يوقف تقدم هذا المتعبد ويجمده .
ويشعر هذا المتعبد المتزمت بأنه غارق في عبادته المضنية ومحبوس في عالم مغلق لا يستطيع الخروج منه ، وغائص في مستنقع يناضل فيه ويغطس . والنهاية الطبيعية لهذا كله هي اليأس ، لا بل الانتحار ، وتفجير النفس .
ليس لهذا المتعبد المتزمت مستقبل آخر غير ماضيه ، وهو ماض ينتصب أمامه كالجدار ، ويرخي كل ثقله على كتفيه ، ويشعر هذا المتعبد المتزمت ، بأنه مهما كانت أعماله ، لا يستطيع أن ينجو من قبضة الماضي ، الذي رهن روحه ونفسه وكل كيانه له . هذا الماضي ، الذي يقبض عليه من رقبته ، ويحتل مساحة كبيرة من وعيه . إنه مكبل بماضي المتعبدين الأوائل ، وبطريقة عيشهم ، وحتى لو كان ما يفصله عنهم مئات السنين . فهم أبدا ، ماثلون في مخيلته ، يجرونه الى زمنهم ، مربوط للأبد بسيرهم ، يجرونه مثل كرة حديدية . وإذ إنه سُمر في مكانه ، فلا يستطيع أن يتقدم ، فيبدو هذا المتعبد وكأن الحياة توقفت فيه . لا بل أصبح يكرهها ، فهي ، لا تقدم له الا الشقاء والألم والتعاسة . ولأن الحياة ليست إلا تدفقاَ وعبوراً وولادة جديدة وتجدداً أبدياً وقدرة على القيامة من الموت واستعادة لفرح الشباب ، يعجز المتعبد المتزمت أن يفعل هذه الأمور . ولأنه أوقف في نفسه الحياة وظل بعيداً عنها ، فهو محكوم عليه بالموت . إنه ميت حي ، إنه سجين ماضيه ، ومكبل ((بماكان وما حصل) .
يقول نيتشه : لقد جعل الماضي واقعاً ثابتاً وزمناً لا يتغير ، جامداً للأبد .
هذا التعبد المتزمت هو الماضي الذي تحول إلى مشهد ، وأصبح نموذجا ً أو صورة .
سارتر : النظرة هي ما يثبت ويجمد . فالنظر إلى شخص هو تثبيته في صورة لا تتغير ، وتحويله إلى تمثال من ملح ، وجعله لوطا آخر . فالمتعبد المتزمت ينظر الى نفسه ، ويشعر في الحال بأن كل الناس ينظرون اليه ويراقبونه . فبين هذين الموقفين علاقة وطيدة . حين ننظر إلى أنفسنا ، نظن أن الآخرين ينظرون إلينا وكذلك الله . وتصبح هذه النظرة في الوقت نفسه إدانة وحكما ًنهائياً لا استئناف فيه .
هناك ما يدعو إلى الهلع والرهبة والجمود والتصلب أمام صورة لله كهذه . ولكن ، أليس هذا هو إله طفولتنا ، إله دراستنا، إله رجال ديننا ؟ إله منتقم . إله جبار . إله جاسوس. إله عقاب يُراقب كل تحركاتنا وسكناتنا ، يُرعبنا، ويلحقنا (الله يراك)) .
للمقال بقية
بونجور شام - القامشلي
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية