أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

مفهوم المجتمع المدني ... زينة حلبي

مركز الشرق للدراسات الليبرالية وحقوق الأقليات

1. نشوء المجتمع المدني

بُنِيَت أوروبا في العصر الوسيط على نظام اجتماعي تراتبي يستند إلى مبدأ توزيع الأرض بالتمييز الواضح بين ملاك الأراضي وبين العاملين فيها. ويربط إطار عمل النظام القديم، الإيديولوجي، السلطة بالقداسة ويحسب لها، سواءٌ أكانت سلطة دينية أو سلطة سياسية أو سلطة مطلقة. فـ "مبدأ الحق الإلهي" الذي كان يتمتع به الملوك لم يكن إلا نتاجاً لـ "النظام القديم".
فق

د اهتزَّت بُنى "النظام القديم" الاجتماعية، بادئاً، لتنهار وتتحطَّم مع اندلاع الثورات الإنكليزية والهولندية والفرنسية التي شهدت سقوط طبقة النبلاء. وباتت السلطة الإكليركية نفسها موضع نظر لتنامي اللامساواة في المراتب التي تتضمَّنها. ومع القرن الثامن عشر، أصبحت البرجوازيات الرأسمالية الأوروبية الصاعدة ضرورة لأداء مجتمعات ما بعد الثورة التي بدأت تستقل بنفسها تدريجاً عن الكهنوت وطبقة النبلاء (العلوي، الصوراني).
ولقد ترافق تشكُّل البرجوازية الأوروبية مع انتشار قيم هذه الطبقة الجديدة ومعتقداتها انتشاراً واسعاً. وبالفعل، فقد شكَّل التنوير والمذهب العقلي (rationalism) والتطورات العلمية تأثيرات العصر، حيث نمت المعرفة خارج رحم سلطة الكنيسة وعالم القداسة. إذ لم يقم المجتمع المدني، كما عرَّفه "روسو" (Rousseau) بدايةً، بما يتوافق و"المدني" ("civil", civilian)، بل بما يوافق العلمانية (secularism).


2. المجتمع المدني في العصر الكلاسيكي

لا يمكن تحديد تطور مفهوم المجتمع المدني بلحظة تاريخية خاصة (أو نوعية) أو بمكان أو بمُوجِدٍ وحيد. ومن الأفضل، بدلاً من ذلك، أن نفهم هذا المفهوم على أنه تراكم للمعرفة متزاوج مع التغيُّرات الاجتماعية الحاصلة في أوروبا تدريجاً والمؤثِّرة في بنائه.
لقد طوَّر نقاش "روسو" و"هوبس" (Hobbes)، المتعلق بطبيعة دولة الإنسان مقابل دولة الثقافة، التنظير للمجتمع البرجوازي. ففي حين يرى "هوبس" أنَّ طبيعة دولة الإنسان الما قبل مجتمعية (pre-societal state) تكمن في "حرب الجميع ضد الجميع"، يؤمن "روسو" بمبادئ الخير والعدالة التي تنطوي عليها طبيعة الدولة المُدينة لطبيعة المجتمع الفاسدة المُقدِّسة للملكية الخاصة. إن تخالف "هوبس" و"روسو"، في ما يتعلق بالدولة ذات الثنائية الطبيعة/ الثقافة، لا يمنعهما من التوافق على ضرورة إيجاد "العقد الاجتماعي" بين الأفراد.
حُدِّد العقد الاجتماعي بأنه اتفاق إرادي في ما بين طرفين على احترام سلسلة من المبادئ. وهذا العقد الاجتماعي، كما جرة تصوُّره، يحمي أيضاً حقوق كل فرد ويحدِّد واجباته. وعلى الرغم من النقاش الذي تناول مفهوم العقد الاجتماعي، فقد حدث سجال مفاده أنَّ المفهوم أصبح المبدأ الأساس في نشوء المجتمع المدني.
هذا، وتشكِّل مساهمة "جون لوك" (John Locke) في العقد الاجتماعي أسس تحديد المجتمع المدني. والواقع أنَّ العقد الاجتماعي في رؤيته ينفي العبودية والإذعان، ذلك أنَّ هدفه يكمن بالتالي في حمايته الأفراد والملكية الخاصة. ويؤدِّي العقد الاجتماعي إلى إلغاء الحكم المطلق الذي يتناقض وروح المجتمع المدني القائم هو نفسه على مبدأ الإرادة الحرة. فالعقد الاجتماعي في تعريف "لوك" مرتبط بحماية الملكية الخاصة. أما تطوير "سبينوزا" لمفهوم "المواطن" فقد جاء تأكيداً على أَفْهَمَة (conceptualization) "لوك" للعقد الاجتماعي والملكية الخاصة. وأما الديموقراطية فقد عُرِّفت بكونها مثالاً أعلى سياسياً يمكنه أن يُوحِّد، في مرحلة واحدة، بين الحرية وبين حكم القانون. فالديموقراطية هي أيضاً نموذج يمكنه أن ينقل السلطة إلى أولئك الذين أعلنهم الشعب مناسبين لتولِّيها.
إنَّ الروابط الوثيقة بين الملكية الخاصة والمواطنية والديموقراطية التي بناها فلاسفة القرنين السابع عشر والثامن عشر أدَّت إلى تأسيس العقد الاجتماعي بوصفه مبدأً جامعاً في المجتمعات الصناعية الأوروبية الجديدة. وكان المجتمع المدني قد استمدَّ قوته في العصر الكلاسيكي من هذا السياق المنطقي ومن الشرعية السياسية القوية (العلوي، 1991: 58).


3. المجتمع المدني في العصر الصناعي: بين الماركسية والليبرالية

تأسَّست الإيديولوجيتان الليبرالية والماركسية من ضمن إسهامات عصر التنوير الفلسفية، التي حدَّدت مفاهيم الملكية الخاصة والمواطنة والديموقراطية، بحيث كوَّنت حجر الزاوية في فهم المجتمع المدني. وبالنظر إلى تأثيراتهما الفلسفية المشتركة، التقت هاتان المدرستان الفلسفيتان على نقطتين رئيسيتين في فهم تأثيرات الثورة الصناعية، تقوم أولاهما في كِلا فهمهما للدولة، فيما تقوم الثانية في فهم المجتمع الصناعي.
فالدولة في تعاليم كلٍّ من الليبرالية والماركسية تشكِّل جهازاً إدارياً غير مُشَخصَن، قائماً على بُنىً تراتبيةٍ وقوانين صارمة. فالبيروقراطية في ذلك الفهم هي التضمين الصارم المُقيِّد لذلك النظام. فالجيش هو مؤسسة تتطوَّر بالتوازي مع المجتمع المدني أو مجموعة المواطنين وبالاستقلال عنهما. وقيام الدولة الحديثة يستلزم أيضاً الفصل بين كلٍّ من السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية.
هذا، ويتميَّز "المجتمع الصناعي"، بالنسبة إلى كلتا الإيديولوجيتين، بالفصل الواضح بين المجال "الوراثي/العائلي" والمجال "الاحترافي" (professional). ويُعرَف هذا المجتمع، بالقدر نفسه، بتقسيمه الواضح للعمل وتراكم رأس المال. وإدارة توسُّع وزيادة رأس المال تتطلَّب، بالتالي، انتهاج سلوك عقلاني من ناحية، وخلق طبقة العمال من ناحية أخرى. وفي حين أنَّ كلتا الإيديولوجيتين تتفقان على تحديد مشترك لبنية الدولة والمجتمعات الرأسمالية الحديثة، إلا أنهما تفترقان بامتياز في ما يتعلق بالدور المُتَعَيِّن لكل عنصر مكوِّن من عناصر الدولة الحديثة والمجتمع والروابط الاجتماعية والقانونية التي تحكم ديناميتها. إنَّ مفهوم الملكية الخاصة الذي تتمحور حوله المجتمعات الرأسمالية الصناعية، يشكِّل نقطة النزاع والتَّخالف بين الإيديولوجيتين الليبرالية والماركسية.
إنَّ مفهوم الفكر الليبرالي عن الملكية الخاصة يرى فيها مصلحة ينبغي حمايتها. فالملكية الخاصة تُعتبر عاملاً مُواطَنياً ومصدر أمن وازدهار، وتصبح حمايتها واجباً من واجبات الدولة. وهذه الأخيرة تستمدُّ شرعيتها في الفكر الليبرالي من واجب حمايتها مصالح مواطنيها الخاصة وملكياتهم الخاصة. والدولة الليبرالية ليست دولةً تُدَخُّلية (non-interventionist)، وهي تعمل وفقاً لمبادئ العقد الاجتماعي كيما تحمي مصالح مواطنيها أو مكوِّنات "المجتمع المدني"، الذي يشكِّل في الفكر الليبرالي المنطقة الحاجزة ما بين العائلة والدولة.
بيد أنَّ هذا الطابع اللاتَدَخُّلي والحِمَائي للدولة الرأسمالية الليبرالية جُوبِهَ بتحدٍّ جذري من قبل الإيديولوجيا الماركسية التي ترى إلى الدولة على أنها ليست سوى انعكاسٍ لإيديولوجية الطبقة السائدة من حيث الحكم والسيطرة. فالدولة تصبح هنا حامية مصالح الطبقة المهيمنة بالسيطرة على وسائل الإنتاج. والدولة المثالية هي دولة البروليتاريا الماركسية اللينينية، الرامية إلى محو الاختلافات الطبقية. وبالاختلاف عن الدولة الليبرالية اللاتدخُّلية الحامية، تتدخَّل الدولة الشيوعية وتوجِّه وتخطِّط حتى تتمكن من حماية مصالح البروليتاريا.
وتكمن نقاط الخلاف بين الفكرين الليبرالي والماركسي، كما أوردنا آنفاً، في دور الدولة. فمعه يأتي تعريف المجتمع المدني بأنه المجال الحاجز بين المجال الخاص (العائلة) وبين المجال العام (الدولة)، وحتى تتسنَّى حماية المصالح الخاصة من أيِّ سيطرة محتملة للدولة. والماركسية ترى في المجتمع المدني حقل نزاع اجتماعي-اقتصادي، حيث تستغل الطبقةُ الحاكمةُ الطبقةَ العاملة بقوة الإيديولوجيا التي تكوِّن أساس الدولة الرأسمالية (العلوي).


4. المجتمع المدني بوصفه سيطرةً

لا تضع مساهمة "غرامشي" (1891-1937 Gramsci) المجتمع المدني على مستوى البنية التحتية، ولكن على مستوى البناء الفوقي بالتوازي مع "المجتمع السياسي" للأحزاب السياسية أو الدولة. فالمجتمع المدني، الذي يتموقع على مستوى بناء الإيديولوجيا الفوقي، ذو وظيفة "هيمنية". وفي حين أنَّه يمارس سيطرة غير مباشرة، يمارس المجتمع السياسي (أي الدولة وأجهزتها) وظيفة السيطرة المباشرة" أو "القيادة" المعبَّر عنها في دور الدولة والقضاء. وبحسب هذا التأويل، تعمل بنية المجتمع المدني الراهنة في اتجاه تحقيق مصالح البرجوازية الرأسمالية الحاكمة من خلال جمعياته التطوُّعية النُّخَبيَّة. ومع ذلك، فإنَّ ما ينتصر "غرامشي" له هو مجتمع مدني يدمج الطبقة العاملة بنقاباتها والجمعيات العمالية والأطراف التي تكوِّن كلها أساس الدولة التي تخيَّلها مثالاً. وهكذا، يدخل "غرامشي" الثقافة أو الإيديولوجيا باعتبارها حقلاً جديداً يرفع المجتمع المدني إلى التعبير عن الاغتراب الرأسمالي واضطهاد الطبقة العاملة (بشارة، 1998: 200-210).
إنَّ مناقشة التطوير النظري لمفهوم المجتمع المدني وضع عن قصد قبل إطلاق مناقشة التأويل أو التفسير العربي للمفهوم، حتى يتسنَّى لنا مناقشة أنَّ تطوير مفهوم المجتمع المدني حدث بوجه خاص في أوروبا أثناء مرحلة تاريخية تمت خلالها مزاوجته مع كل التطوُّرات على المستويات العلمية والاقتصادية والسياسية والفلسفية. وإذاً، فإنَّ أيَّ فهمٍ لمفهوم المجتمع المدني يجب أن يشدِّد على خصوصية المجتمع المدني التاريخية.
والمهم أيضاً أن نتذكر على هذا المستوى أنَّ نشوء مفهوم المجتمع المدني الأوروبي أثار العديد من التساؤلات التي تحمل تضمينات ميتودولوجية حول أًفْهَمَة المجتمع المدني عربياً. فقد رأينا في النقاشات المبسوطة آنفاً أنَّ الفكر الليبرالي يربط صعود المجتمع المدني بالرأسمالية والليبرالية الاقتصادية والفردانية (individualism) والإرادة الحرة. فقد تطوَّر مفهوم المجتمع المدني مع البرجوازية الأوروبية التي استفادت من التغيُّرات الحادثة في صِيَغ الإنتاج المنبثقة مع صعود الرأسمالية ونشوء الدول الأوروبية. وهذه الأخيرة نشأت على قاعدة التعارض الأساسي مع النظام الديني، حيث أصبح المجتمع المدني اتحاداً حراً بين أناس أحرار بعيداً من سيطرة الثيوقراطية والكنيسة.
وأخيراً، يحدِّد التعليم الماركسي المجتمع المدني باعتباره تعبيراً عن اضطهاد الطبقة العاملة، أكان ذلك على أساس أو مستوى إيديولوجي، حيث تشكِّل الأحزاب السياسية جزءاً جوهرياً وفعلياً من دور المجتمع المدني الثوري. وسنرى على امتداد هذه الورقة أنَّ الدولة والأحزاب السياسية والليبرالية الاقتصادية والجمعيات الدينية أثَّرت في تأويل مفهوم المجتمع المدني وتفسيره عربياً. والمقطع التالي يقدِّم للمجتمع المدني في الخطاب الفكري العربي.


5. عودة مفهوم

جاء مفهوم المجتمع المدني، كما رؤي إليه في المقاطع السابقة من هذه الورقة، في سياق أوروبي تاريخي خاص. وقد رأينا كيف ربطت التغيُّرات الاجتماعية والسياسية العميقة التي حدثت في أوروبا خلال عصري التنوير والثورة الصناعية مفهوم المجتمع المدني بالعقد الاجتماعي وبالدولة-الأمة والعلمانية والرأسمالية والليبرالية الاقتصادية. فقد استخدم التعليم الماركسي المجتمع المدني، آنذاك، كأداة مفهومية وضعته في حقل الصراع المجتمعي الداخلي.
بمَ تُفسَّر العودة إلى استخدام مفهوم المجتمع المدني في أوروبا وإعادة تفسيره في العالم العربي؟ سيقدِّم المقطع التالي تعليلاً موجزاً لاستعادة مفهوم المجتمع المدني الحديثة في العالم العربي. فثمَّة جدال حول أنَّه في الوقت الذي ارتبط فيه ميلاد المجتمع المدني بسياق تاريخي خاص في أوروبا، فإنَّ عودته تعكس أيضاً التغيُّرات الاقتصادية والتاريخية التي حدثت في القرن الواحد والعشرين.
ترك الفكر الليبرالي الكلاسيكي حيِّزاً بسيطاً للمجال العام خارج معادلة المواطن-الدولة-السوق، حيث كل شيء مجال عام وليس دولة يكون سوقاً، وحيث كل شيء ليس مجالاً عاماً يكون سوقاً. لقد فَقَدَ المجتمع المدني، الذي تضمَّن نظرياً تجمُّعات اجتماعية في ظل اقتصاد السوق وخارج الدولة، مميِّزاته الأساسية مع تحققها الكامل وانصهارها ضمن الديموقراطيات الليبرالية التي نجحت في التأثير على تأويل المجتمع المدني وتمظهره.
يكمن المشروع الماركسي في انصهار الدولة في المجتمع. ومع إنجاز ذلك المشروع، ولا سيَّما في روسيا والكتلة الشرقية، تزاوج تلاشي المجتمع المدني مع تلاشي الدولة البرجوازية بالضرورة (بشارة، 1998: 11). لقد أُجبِر المجتمع المدني في أوروبا الشرقية على التلاشي. وظل الوضع على هذا النحو حتى السبعينات، عندما برزت الحاجة إلى خلق إطار عمل نظري، كي يتسنَّى فهم حركة جماهير المجتمع المدني البولوني التي تحدَّت الدولة الشيوعية وجمعت النقابيين والطلاب والمثقفين [2]. أصبح المجتمع المدني بديلاً من الدولة الاستبدادية وشرطاً ضرورياً لازماً لبناء الديموقراطية. كان هذا هو تفسير المجتمع المدني الذي تبنَّاه العالم العربي. وسيحاول المقطع التالي شرح وسائل إدماج المجتمع المدني في الخطاب الفكري العربي.
شهدت الخمسينات والستينات نشوء الدول العربية في مرحلة ما بعد الاستعمار. ومع أنَّه كان للاستعمار آثار مختلفة على المجتمعات العربية، إلا أنَّه أسهم في صوغ الخطابات القومية العربية (كالبعث والناصرية مثلاً)، التي رأت في سلطة دولة الأمة الحل لمعالجة آثار الحكم الاستعماري. فالخطابات القومية العربية الراديكالية لم تعالج بالشكل الملائم وظيفية المجتمع المدني وعمله، ذلك أنَّ تعريفات الخطاب القومي لمفهوم "الأمة" ربطت بشكل عضوي بين كلٍّ من الفرد والمجتمع والدولة، نافيةً بذلك مبدأ الفصل بين المجتمع المدني وبين الدولة (بشارة، 1998: 11).
أجرت الدول العربية في مرحلة ما بعد الاستعمار في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا إصلاحات زراعية وسياسية من خلال سياسات مدنية وتحديثية. وشارك المثقفون القوميون العرب في الإصلاحات وفي بناء الدولة، حيث لم تكن دولة الشعب الموحَّدة سوى نموذجٍ أو مثالٍ لم يتحقَّق بعد. ومع تصاعد التوتر بين مختلف التيارات القومية العربية (الناصرية والبعث) وضمن التيار نفسه (كما كان الحال بين كِلا البعثين السوري والعراقي) بدأت التصدُّعات تظهر في النموذج الإيديولوجي القومي العربي.
وعلاوة على ذلك، عمَّقت أحداث حرب عام 1967 والاتجاهات التوتاليتارية في الأنظمة العربية الشقة بين الدولة والمجتمعات، وسرَّعت المطالبة بالدمقرطة والمجتمع المدني. وبدلاً من الانتقال من الإصلاحات التى ترعاها الدولة إلى الإصلاحات المؤسسية الكلية، فقد ظلت الدمقرطة في العالم العربي مقيَّدة بنزعات الأنظمة التوتاليتارية. وساد التيار الإسلامي في المجتمعات مع انكباح المشروعات القومية والاشتراكية ومع إخفاق مشروعات بناء الدولة العربية والشروط التي أملاها النظام العالمي الجديد. فالمثقفون العرب، الذين كانت تشكل السياسة والمؤسسات السياسية حقل اهتمامهم، نقلوا المعركة من أجل الديموقراطية إلى المجتمع المدني الذي رأى فيه العديد منهم مهمة تهدف إلى عملية لاتسييس (إزالة للسياسة (depoliticization.
وقد أعادت الليبرالية الاقتصادية -التي ترافقت مع أفْهَمَة المجتمع المدني الليبرالية- والاتجاهات التوتاليتارية ضمن كل نظام عربي، طَرْحَ مفهوم المجتمع المدني الذي يتضمن مباشرة مسألة دور الدولة وتفُّحصه. والمقاطع التالية تحاول اكتشاف الطريق الذي أُدمج المفهوم عبره في الخطاب الفكري العربي.



II. المجتمع المدني في التيارات الفكرية


1. المجتمع المدني في الفكر الليبرالي

في المقاطع السابقة رأينا كيف تطور مفهوم المجتمع المدني وكيف تشكَّل في عصر التنوير بالتحديد، وكيف بات مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بالعقد الاجتماعي وبالمُواطَنة وبالديموقراطية. ومع أحداث الثورة الصناعية، نظرت مدرسة الفكر الليبرالي، مع ذلك، في السوق بوصفه مستوى جديداً بين المجال العام (الدولة) وبين المجال الخاص (العائلة). وقد نوقش أنَّ إدماج مفهوم المجتمع المدني عربياً تبنَّى تعريف المجتمع المدني الليبرالي.
سيبيِّن المقطع التالي أنه على الرغم من أنَّ الرؤية الليبرالية اعتُمِدَت على نحوٍ واسع في الخطابات الفكرية العربية، بيد أنَّها تتضمن تأويلات متابينة ومتنوعة. والواقع أنه حتى في الفكر الليبرالي كانت هناك اختلافات في تحديد وزن وأهمية كل عنصر مكوِّن من عناصر الفكر الليبرالي: المجال الخاص، المجال العام، السوق. ومن خلال دراسة الرؤى الرئيسية الثلاث ضمن المدرسة الليبرالية والمواقف الفكرية العربية حيال البُنى التقليدية والمجتمع السياسي والسوق، سيُعمَد إلى توضيح هذه النقطة.

أ. الرؤيتان التحديثية والسياسية
تضرب جذور الإيديولوجيا الليبرالية وتأويلها للمجتمع المدني –كما رأينا- في الحداثة وفي زوال "النظام القديم". والواقع أنَّ العديد من الكتاب يفهمون المجتمع المدني بهذه الروحية. فهذا الأخير، ووفقاً لتلك الرؤية، على علاقة متوترة بالبُنى الاجتماعية التقليدية (الدين، الإتنية، القبيلة والعشيرة، إلخ..)، فضلاً عن أنه يعزِّز التطوعية والزمنية (أو المدنية، عكس الروحية: secular- المترجم) والولاءات المتحقِّقة للعملية السياسية، بما في ذلك الأحزاب والنقابات.
إنَّ الرؤية التحديثية –كما أورد م. ك. السيد- تعتبر أنَّ المجتمع المدني غائب في المجتمعات ذات التقسيمات الطبقية التي تعود إلى زمن قريب، والتي ما تزال تظلَّلها الولاءات الإتنية والقبلية (السيد، 1995: 141). وهذه الرؤية ترى في صعود المجتمع المدني معارضة للبُنى التقليدية. كما يمكن للمرء أيضاً أن يقرأ مقترحات تتمحور حول عملية التطور من مجتمع "تقليدي" إلى مجتمع "طبقي". وفي مقابل البُنى التقليدية ترى وجهة النظر هذه أنَّ المجتمع المدني "يقوم أيضاً على أرضية السوق الاقتصادية الحرة ومطلب البرجوازية بالتمايز السياسي عن الدولة" (Norton, 1995: 8). وهذا التصور يذكرنا بالنقاشات التي دارت حول المجتمع المدني والحداثة وتطور المجتمعات الإيجابي.
وبالإضافة إلى رفض البُنى الاجتماعية التقليدية في تحديدها المجتمع المدني، تعتبر هذه الرؤية هذا المجتمع "خليطاً من الجمعيات والنوادي ونقابات الصناعيين والتجار والنقابات الأخرى والاتحادات والأحزاب والمجموعات التي تجتمع مع بعضها لتشكِّل منطقة عازلة بين الدولة والمواطن" (Norton, 1995: 7). وهذه الرؤية تقدم، إذن، صورة أو نسخة للمجتمع المدني حيث تحكم المجتمع البُنى الحديثة المُحَقَّقة (كالجمعيات والأحزاب السياسية والاتحادات النقابية، إلخ...) في مواجهة البُنى التقليدية (كالقبيلة والإتنية والمجموعات الدينية، إلخ...)

ب. الرؤية التحديثية واللاسياسية
يُدافع الكتاب الذين اعتمدوا الحداثة في تعريفهم المجتمع المدني، في مواجهة البُنى الاجتماعية التقليدية، عن الرؤية التحديثية اللاسياسية. كما تفصل هذه الرؤية أيضاً المجتمع المدني عن العملية السياسية، وبشكل رئيسي عن دور الدولة والأحزاب السياسية. وفي سياق تحرِّي العلاقة بين المجتمع المدني العربي وبين عملية التطور في العالم العربي، حافظت شهيدة الباز بشكل واضح على هذه الرؤية في موقفها أولاً تجاه الدولة، وثانياً تجاه البُنى التقليدية.
لقد صُوِّرت العلاقة بين كلٍّ من الدولة والمجتمع المدني العربي في تعريف الباز للمجتمع المدني، الذي هو تعبئة الجماهير في منظمات قوية نافذة تشكِّل أساس الخدمة أو الخدمات التأييدية أو الإنتاجية، والعمل في اتجاه زيادة وعي التطور (التنمية). والتعبئة مطلوبة من المجتمع المدني، لأنَّ تعبئة الدولة على المستوى الوطني تتَّسم بالضحالة بوجه عام، ولا ترقى إلى مستوى تغيير القيم الثقافية الشعبية التي تعرقل التنمية، ولأنَّ المجتمع المدني أكثر قدرة على ترجمة الحاجات المحلية إلى أهداف وخطط عمل، وخصوصاً تلك الأوثق ارتباطاً بالمجموعات المحلية والحركات الاجتماعية والأقرب منها (الباز، 1998: 5).
يثير هذا التعريف للمجتمع المدني في علاقته بالدولة تضميناتٍ خطيرة. وبإعلان "ضحالة" تعبئة الدولة، تقترح الكاتبة، بالتالي، أنَّ المجتمع المدني أقدر من الدولة، إن لم يكن أقوى منها، وأنَّ التعبئة يجب أن تحدث دون تنسيق مع الدولة. وهذا يضع الدولة خارج عملية التنمية، بل في مواجهتها على الأغلب.
وبطابعه التحديثي يقرر هذا التعريف أيضاً أنَّ القيم الثقافية الشعبية تعرقل التنمية. ولكنَّ هذه الرؤية البالغة من حيث حداثيتها ووضعيتها لا تفسِّر كيف تقف البُنى التقليدية (وقيمها الثقافية) حجر عثرة في طريق التنمية، بل كيف ينبغي تغييرها ووفق أي نموذج؟

ج. الرؤية اللاسياسية
ناقشت المقاطع السابقة الرؤى الليبرالية المختلفة التي تحدِّث فهم البُنى التقليدية وتقويضها دور الدولة في ما يتعلق بالمجتمع المدني والعملية التنموية ككل. وثمَّة نوع جديد لإطار العمل الليبرالي في فهم المجتمع المدني الناشئ في خطاب المنظمات والمؤسسات الدولية، الذي تبناه العديد من منظمات المجتمع المدني العربي العاملة عن كثب مع المنظمات الدولية. وهذا الخطاب يعيد إلى الذاكرة البُنى الاجتماعية التقليدية ويقلِّل من شأن دور الدولة والأحزاب السياسية ويُدخِل المجتمع المدني في عولمة السوق وسلطان القطاع الخاص.
هذا، ويعتقد برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP) أنَّ منظمات المجتمع المدني (CSO) تشمل: منظمات المجتمعات المحلية (community based org.) ومنظمة حقوق المرأة والمجموعات البيئية ومراكز البحث الفكري والتكتلات الدينية والحركات الشعبية الأهلية (indigenous people's movements) .
يشمل هذا التعريف للمجتمع المدني البُنى الاجتماعية التقليدية (منظمات المجتمعات المحلية) والمجموعات الدينية والإتنيات (الحركات الشعبية الأهلية)، وتربطه علاقة متوتِّرة بالتصوُّر الحداثي للمجتمع المدني الذي يرى في هذه البُنى التقليدية عرقلة للعملية التنموية (الباز، 1995: 5).
ويبدو أنَّ هذه الرؤية تستثني مع ذلك الأحزاب السياسية والنقابات المهنية باعتبارها لاعبين حيويين في المجتمع المدني. وعلى الرغم من ذلم، فهذا الاستثناء ليس مصادفةً، بل إنه مرتبط فعلاً ببخس دور الدولة في العملية التنموية على نحو أوسع.
"لقد تعاملت الأمم المتحدة فيما مضى مع الحكومات فقط. ولكننا الآن نعرف أنَّ السلام والازدهار لا يمكن تحقيقهما دون عقد شراكات تضم الحكومات والمنظمات الدولية ودوائر الأعمال والمجتمع المدني إنَّنا ففي عالم اليوم نعتمد على بعضنا" [3] .
وبحسب هذه الرؤية تصبح الدولة لاعباً كأيٍّ من اللاعبين الآخرين في العملية التنموية، حيث يشكِّل القطاع الخاص (أي السوق) مساهماً أساسياً في المجتمع المدني. كما أنَّه تُشجَّع المجموعات التقليدية أيضاً للمشاركة في المجتمع المذكور على حساب النقابات المهنية والأحزاب السياسية.


2. المجتمع المدني في البُنى التقليدية

إنَّ الإيديولوجيا الليبرالية التي تقلِّل من أهمية دور الدولة وترى إلى المجتمع المدني بوصفه "حديثاً" أو هو ضد البُنى الاجتماعية التقليدية، ناقشها العديد من المثقفين العرب. وهذا المقطع يناقش مواقف المفكِّرين الذين يرون في البُنى الاجتماعية التقليدية الراهنة بُنىً عريقة الوجود (القبائل والعشائر والمجموعات الدينية والإتنية) تعبيراً عن المجتمع المدني.
اتَّسمت الرؤية الليبرالية التحديثية بالإشكالية على المستويين الميتودولوجي والمفاهيمي في استيراد المفاهيم، التي تتحدَّد بلحظات جغرافية وزمنية نوعية خاصة، ومحاولة البحث عن جذور لها في المجتمعات العربية. فتعريف المجتمع المدني بالمنظمات التطوُّعية والنقابات والجمعيات المهنية ومجموعات حقوق الأقليات هو تعريف محدود، ذلك أنَّ عدد هذه المجموعات والجمعيات قليل في العالم العربي، أو هي على الأقل لا تمثِّل البُنى الاجتماعية الموجودة. وإذا جرى تبنِّي هذا التعريف الحداثي فقد يؤدِّي ذلك إلى استنتاج أنَّ المجتمع المدني في العالم العربي هو على الأغلب غير موجود.
وهذه بالتحديد هي الحجة التي دفعت بالمثقفين إلى إعادة النظر في المجتمع المدني ووضعه في سياق التراث الاجتماعي العربي. والواقع أن بعض الكتاب يعتقدون بأنَّه يجب التركيز على المجموعات الاجتماعية التقليدية (العائلية، القبلية، الدينية، إلخ...) التي تؤدِّي الوظيفة نفسها التي للمجتمع المدني في العالم العربي. وهذا سيؤكِّد على منظومة أوسع من المنظمات التي تؤلِّف رباطاً مع الدولة، وهو ما لن يكون مقبولاً على وجهٍ آخر (Schwedler, 1995: 16).
لقد أيَّد "السيد" وجود بديلٍ من المجتمع المدني، كما فهمته الرؤية الحداثية، حيث إنَّ المجتمعات العربية لم تعرف تشكيلات مدنية معادلة فحسب، بل عاشت من خلالها. فالأفراد عوَّلوا على هذه التشكيلات [التقليدية] لهويتها وبسبب حاجاتهم الأساسية على الأغلب، وقد عزلتهم عن التعاطي المباشر مع السلطة السياسية (السيد، 1995: 32).
هذه الرؤية لا ترى، إذن، بدائل من الرؤية الحداثية إلى المجتمع المدني فحسب، بل تؤمن أيضاً بأنَّ هذا المجتمع، بكل ما يتضمَّنه من مؤسَّسات قبلية ودينية وإتنية، كان دائماً موجوداً في المجتمعات العربية حيث شكَّل جزءاً أساسياً منها.
وقد طوَّر هذه الرؤية برهان غليون (1991: 740) في نقده تعريف المجتمع المدني الحداثي المستورد، ليحتجَّ بالقول إنَّ التطور لا يستتبع الاستعاضة عن بنية بأخرى؛ بل إنه يتطلب بدلاً من ذلك اكتشاف وقائع جديدة في البُنى الموجودة أصلاً. وبالنسبة إليه يجب أن تزوِّدنا الحداثة بأدوات مفاهيمية حديثة تمكِّن من شمول البُنى التقليدية ضمن أيِّ فهمٍ للمجتمع المدني.
ويؤكِّد غليون، علاوة على ذلك، أنَّه ليس في الإمكان تصوُّر نشوء الدولة العربية الإسلامية الأولى دون وجود البُنى التقليدية (القبائل ونظامها القِيَمي)، التي استخدمها الإسلام ليبنيَ دولة مركزية جديدة قامت على أساس إيديولوجي. كما يعتقد أنَّه ليس ثمَّة تناقض بين دولة الأمة وبين البُنى الاجتماعية، مجادلاً بالقول إنَّ الدولة لا تحتاج إلى إلغاء البُنى التقليدية، بل إلى جمعها تحت منطقٍ جديدٍ، وهذا هو الدولة الوطنية (أو القومية)؛ ذلك أنها تحتاج إلى جمع التناقضات الموروثة في البُنى التقليدية وعقلنتها. وبهذا المعنى، فإنَّ البُنى التقليدية الموجودة التي تكوِّن المجتمع المدني تسهم في بناء دولة الأمة الحديثة، وإنَّ الدولة نفسها تضبط البُنى التقليدية تحت شعار وحيد هو الوحدة الوطنية (ص 740).
وهذه الرؤية المتعلقة بالمجتمع المدني تتحدَّى التفسيرين الليبرالي والحداثي للمجتمع المدني، اللذين يعتبران أنَّ البُنى التقليدية قديمة ورجعية، هذا إذا لم تعرقل العملية السياسية. وبالإضافة إلى نقدها للإيديولوجيا الحداثية تُنشئ هذه الرؤية مجتمعاً مدنياً عربياً يستطيع أن يضم البُنى التقليدية، القبلية والإتنية والدينية، إلى العملية السياسية. وبعد توضيع البُنى التقليدية في علاقتها بالدولة، فإنَّ ما تفتقر إليه هذه الرؤية مع ذلك هو الفهم الواضح لعلاقة هذه البُنى التقليدية نفسها بالقطاع الخاص والسوق. ويبقى تحليل ديناميَّة البُنى التقليدية مع السوق شرطاً لقياس نجاح نظريةٍ ما تقترح بديلاً من مفهوم المجتمع المدني الليبرالي والحداثي.

بونجور شام
(134)    هل أعجبتك المقالة (126)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي