في الثاني عشر من حزيران/يونيو من عام ستة وأربعين وتسعمائة وألف، أصدر وزير العدل في الحكومة الايطالية بالميرو تولياتي مرسوماً بالعفو العام عن كافة الجرائم المرتكبة بعد توقيع الهدنة مع قوات الحلفاء في الثامن من أيلول/سبتمبر عام ثلاثة وأربعين وتسعمائة وألف.
لقد كان هذا القرار صعباً على سياسي مخضرم مثل تولياتي، ربما لادراكه بأن الفظائع والاهوال التي ارتكبت خلال عقدي الفاشية وأثناء الحرب الكونية، ما كان بالوسع القفز عنها ولا محوها من الذاكرة بمرسوم من حكومة كانت تسعى بكل ما تقوى على النهوض ببلاد ممزقة الاشلاء، مقطعة الأوصال. لكن أسباب الدولة ودواعي الحكم، قضت بتناسي الماضي والعبور فوق الجراح في سبيل بناء مستقبل مختلف لأولئك الذين لم يعرفوا بعد كنه الحرية والحياة المدنية.
أستذكر هذه الصفحات من التاريخ وأنا أقرأ أحداث سورية اليوم، والتي تبرز متسائلة عما تخبئه لنا الاقدار من مفاجآت وعبر، على وقع استجداء الطائفية وتداعياتها، لاسيما في خضم ما تعرضت له حمض الشهيدة من استهداف وحشي، ستكون له مفاعيله على الانسجام الطائفي الذي تميزت به على مدى قرون.
واذ تطالعنا يوماً بعد يوم، نداءات وبيانات من هذه المجموعة الدينية أو تلك، معلنة التبروء مما يقوم به بعض المنسوبين اليها، في سعي للنأي الذاتي عن أفعال ربما تلقي بظلالها الثقيلة على مجموعة أو طائفة بأكملها، فإن السؤال الذي يلح على المتابع هو : من سيعفو في سورية عن من؟
من الجائز للمرء أن يطلق حكم قيمة مستعجل على وقائع مستقبلية قد لا تجد طريقها إلى التحقق، ومن هذا أن يقول قائل: إن القصاص "يجب" أن يحل بكل من تلوثت يداه بدم السوري اياً كان انتماؤه او معتقده. أو : إن الأرواح التي أزهقت والدماء التي سالت في طول البلاد وعرضها لا يمكن أن تظل بلا مسؤول مباشر عنها..
في عام خمسة وتسعين وتسعمائة وألف، تأسست في مدينة كيب تاون بجنوب افريقيا "لجنة الحقيقة والمصالحة" تنفيذاً لمرسوم تعزيز الوحدة الوطنية وقانون المصالحة، حيث كانت وظيفتها الرئيسية جمع وتسجيل شهادات كل من ارتكب انتهاكات لحقوق الإنسان خلال نظام الفصل العنصري، أو أولئك الذين كانوا ضحايا لهذه الانتهاكات، في البلاد.
لقد كانت أهم سمة لهذه اللجنة، التي كان من بين أبرز أعضاءها القس المناضل ديزموند توتو، أنها كانت تمتلك تفويضاً صريحاً بضرورة الاستماع إلى شهادات من كلا الطرفين، بل والحكم على تصرفات السود وعلى وجه الخصوص أعضاء المؤتمر الوطني الافريقي وغيرها من المنظمات المناهضة للفصل العنصري. لكن الهدف الرئيسي الذي ميز هذه اللجنة انه كان يتعين عليها التحلي بأقصى درجات الدقة في إعادة بناء الأحداث، وليس معاقبة المذنبين.
إن التجربة الجنوب افريقية وبدون التورط في اسقاطات لا تجد لها مكاناً، تقدم لنا في سورية، جوانب حرية بالدرس والتأمل، لاسيما وأن الثورة التي يخوضها الشعب منذ آذار/مارس من العام الماضي، هي لكل ابناء الوطن وشرائحه وألوانه الفكرية والعقدية، ولأن (وهذا هو العنصر الأهم) هذه الرغبة الجامحة بالانعتاق لا يمكن أن تكلل إلا بمرحلة تالية من الرقي الاخلاقي، تصبح فيها قيم التسامح والعيش المشترك والولاء للوطن، الركائز الأساسية.
إن دعوات الثأر والانتقام واستحضار وقائع الماضي، لن تفضي إلا إلى أن ترتد البلاد إلى دوامة من التناحر والاقتتال، وإلى درك أسفل من التشرذم والتباغض، ربما ستحتاج سورية إلى عقوداً طويلة بعدها لكي تنجح في الخروج منها، واذا ما تم ذلك فأي سورية ستكون؟
لا تحتاج سورية اليوم إلى صيحات وبيانات التبروء، ولا إلى دفع التهم وتفنيدها من أي مجموعة دينية أو فكرية أو عرقية، بل إلى نزول كل ابناءها متعاضدين متكاتفين، صفاً واحداً، وصوتاً واحداً، يطالب بعنفوان وكبرياء بالحرية وسقوط النظام، وبناء الوطن الجديد لسائر أبناءه.
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية