أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

لماذا الجامع ... سهيل ابو بصمة


منذ انطلاقة الحراك الشعبي في سوريا ، والنقاشات تدور حول تسمية هذا الحراك وطبيعته ، ولماذا انطلق من الجامع تحديداً ؟

في توصيف الحراك:
حراك شعبي، انتفاضة، ثورة، ثورة شعبية، ثورة الحرية، ثورة المواطنة... كلها أسماء اصطبغت بها الأحداث الجارية في سوريا ولسنا نجد تحديداً متفق عليه، وإن كان مصطلح الثورة السورية هو الأقرب والأعم، والذي يبدو أنه أخذ اسمه من تسمية صفحات الفيسبوك أكثر مما هو في حقيقته توصيفاً (فلسفياً وسياسياً) دقيقاً لما يجري.
إن أي مصطلح لا بد وأن يأخذ اسمه من الواقع الذي ينطلق منه، وبالنظر لطبيعة الأحداث التي جرت في المنطقة والمقصود بها الربيع العربي، فلقد برز على الساحة السورية التوق الدافن للانعتاق من الحكم الاستبدادي والذي أحكم قبضته الفولاذية على كافة مناحي حياتنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية بما تحمل من تبعات لا يمكن توصيفها هنا لضيق المجال. من هنا لم يعد من المهم بتقديري تسمية هذا الحراك بقدر تحديد أهدافه التي تتمثل في التخلص من أركان هذا النظام الاستبدادي وآلته القمعية.

في توصيف الجامع :
لا بد من التعريف بالجامع والمسجد والتفريق بينها وعلاقة كليهما بالإسلام السياسي منه أو الفقهي. فالمسجد (من كلمة سجد) هو المكان الذي يقوم فيه المسلم بالسجود لله تعالى في صلاته وفي مناجاته لرب العالمين، وهو ليس محصوراً في مكان معين، ففي البيت، وفي المكان الذي اعتدت على القيام بالصلاة فيه، قد صنعت (أوجدت) مسجداً لك ولعائلتك أو من يصلون معك، فالمسجد هو المكان الذي تتم فيه عملية السجود لله تعالى.
أما الجامع فهو المكان (الجامع) للجموع، والذي (برأي) تطور عبر التاريخ الإسلامي من مكان السجود لبضعة أفراد إلى مكان جامع لجموع أكبر وخاصة في أيام الجمع وخلال شهر رمضان لما لصلاة الجمعة من خصوصية لدى المسلمين ومثلها شهر رمضان. وميزة الجامع أنه لا يخص فئة محددة من (المسلمين) تحديداً بل هو مكان لإقامة الشعائر الدينية لكل مؤمن مهما كانت عقيدته ( فالخليفة لا يدعى أمير المسلمين بل أمير المؤمنين ) ( الصادق النيهوم– إسلام ضد الإسلام، شريعة من ورق الطبعة الثانية ص30) من هنا نجد الفروق في التسميات بين الجامع والمسجد فمثلاً : المسجد الأقصى – المسجد الحرام أو جامع الأمويين– جامع الإيمان – الجامع الكويتي (في دمشق)، وفي هذا جدال طويل حول الإسلام السياسي والفقه الإسلامي، لسنا بصدد الدخول فيه.
مما سبق، وبالنظر للطبيعة الدينية لشعوبنا، ولكون الجامع هو المكان الذي يجمع أكبر قدر من الناس، والأهم والمؤثر أن هؤلاء يجتمعون بدون دعوة من أية جهة كانت، ولكون صلاة الجمعة يعقبها خطبة يناقش خلالها أحوال الدين والعباد، والتي في الحقيقة بدأت تبتعد عن مناقشة شؤون العباد إلى مناقشة شؤون الدين فقط، وأخذت أمور العباد تنتقل من أوساط الجامع (الجموع) إلى أوساط الدولة ورجالها ممثلين بالمختار أو مدير الناحية انتهاءً بالوزير، ولم يعد بإمكان حفنة من رجال الحي الاجتماع أمام الجامع لمناقشة أمور الحي خوفاً من أزلام النظام ، فانتقل الجامع كما ذكر إلى الاقتصار على مناقشة أمور الدين فقط!!. وبرغم ذلك بقي لإمام الجامع دوره الحيوي بين الجموع داخل الجامع أو خارجه.
إن إغفال دور الجامع في مناقشة الجموع لأمورهم الحياتية في كافة مناحيها هي سياسة عملت كل الأنظمة غير الديمقراطية على إتباعها لأسباب كثيرة تصب كلها في الحفاظ على رقابة هذه الأنظمة على الجموع وبالتالي ضمان بقاء استمرار سيطرتها، هذا من جهة ومن جهة ثانية أصبحت مجالس الشعب أو النواب المكان الأكثر حيوية لمناقشة أمور العباد، وبخاصة أن بلداً كسوريا لا تسمح طبيعته بالاقتصار على دور العبادة لمناقشة أمور العباد، وإن بقيت هذه العادة معمولاً بها في القرى والنواحي والتجمعات السكانية الصغيرة نسبياً، أذكر أن الجامع هو المكان الوحيد الذي تستعمل مكبرات صوته للمناداة على بعض الشؤون التي تخص المقيمين جواره كالإعلان عن فقدان طفل أو وفاة أحدهم، أو الدعوة لاجتماع بخصوص أمر ما.

في محرك الحراك :
لقد أفرغ النظام الاستبدادي الحياة السياسية في سوريا من كل محتوى، وأصبحت الجبهة الوطنية التقدمية ومجلس الشعب وحتى التنظيمات النقابية ديكوراً للنظام ليس إلاّ، وبالطبع لا ننكر الأصوات الوطنية الحقة التي كانت وما زالت موجودة لدى التنظيمات النقابية خصوصاً.
من هنا نجد أن هذا الحراك لم يكن وراءه أي تنظيمات سياسية، بل إنه أحدث شرخاً وقطيعة ما بين الجماهير وأحزاب المعارضة التقليدية، فهو بطبيعته حراك غير مسيس، حتى أنه لا يوجد و(للحظة) برنامج معارضة واضح تلتف حوله هذه الجموع، فما الذي يحركها إذن؟
إنه التوق للحرية، للكرامة الإنسانية المهدورة، ولعل أحداث درعا هي أبلغ دليل على ذلك، فقد كان الشعار الذي انطلق بدايةًً هو الحرية والكرامة، وعندما أقدم النظام على القتل بدأت دائرة الاحتجاجات بالتوسع موسّعة معها شعار الحراك إلى الأقصى ألا وهو إسقاط النظام.

لماذا الجامع بدايةًً ؟
وأين غير الجامع؟ هذا برأيي هو السؤال !
إن الطبيعة الدينية لمجتمعنا وغالبيته المسلمة، وفي ظل غياب أي تنظيمات وأحزاب معارضة ، وفي ظل الافتقار لأدنى مبادئ الديموقراطية، كان لا بد أن يكون الجامع بجموعه نقطة انطلاق للتظاهرات، وقد يطرح البعض ماذا عن الطوائف غير المسلمة؟ ماذا عن النسبة الكبيرة التي لا تجد في الجامع موئلاً لها؟
باختصار: تاريخياً، وعبر كل التجارب الثورية فإن الأقليات لا تشترك بكاملها في الحراك الشعبي منذ انطلاقته بل هي تلتحق بالركب فيما بعد ، وفي سوريا نجد أن الأقليات تحركت متأخرة نسبياً، وتحديداً في اللحظة التي شعرت أن النظام بدأ باللعب على أوراق الطوائف والأقليات. ناهيك عن القمع والترهيب الشديدين لهذه الطوائف والأقليات ومحاولة إخافتها من الآخر وإقناعها أنها من دونه هي آيلة للزوال. أما بالنسبة للشرائح الواسعة من الشباب والمثقفين والتي لا تجد في الجامع موئلاً لها فلقد شاركت بهذا الحراك من أمام الجامع، وهنا أتساءل: ما هي الأسباب التي جعلت أطراف المدن الأسبق إلى خوض هذا الحراك؟ ولماذا لم تكن الجامعات (كمثال) مركز الانطلاق؟
لعل العامل الأهم هو الاقتصاد، فالسياسة الاقتصادية التي اتبعها النظام في الريف والتي أفقرت الجموع، وعلاقة اقتصاد المدينة بالريف والتي أدت إلى هجرة كبيرة باتجاه المدن (خصوصاً المدن الكبيرة - دمشق وحلب) على حساب تطوير الريف وبخاصة الزراعة كل ذلك أدى تفاقم الأوضاع نحو الأسوأ، والمعضلة أن عدم الاهتمام بالريف أثّر حتى على المدن الكبيرة، ففقدت الكثير من تجانسها بسبب الهجرة إليها، وبخاصة استقرار الموظفين الجدد والمنخرطين في الجيش مع عائلاتهم في المدن الكبيرة وبخاصة دمشق (وهذا أثر بطبيعة الحال على الحراك)، حتى أصبحت المدينة في حالة من المدنية والريف، مما شكل تضاد بين الريف والمدينة، وازدادت معدلات البطالة بين أهل المدن، وبدأت تكبر رويداً رويداً المدن العشوائية وحتى مدن الصفيح على أطراف المدن. كل ذلك جعل من الريف البيئة الأكثر إقبالاً على خوض الثورة لاستعادة كيانها.
إن طبيعة هذا النظام والآلية الأمنية التي يدير بها الأمور، والتي أصبح قتل الإنسان فيها أو اعتقاله وتعذيبه سمة مميزة له، جعلت من غير الممكن أن تكون الجامعات مراكزاً للانطلاق، فهذا النوع من الحراك بحاجة للاستمرارية أولاًَ وهذا ليس بمقدور الطالب الجامعي الاستمرار به، فمن جهة يلجأ الطالب الجامعي إلى الالتحاق بمنظمات النظام نفسه كالاتحاد الوطني لطلبة سوريا، لضمان دراسة آمنة وثانياً هو بحاجة لرافعة اجتماعية متجانسة كماً ونوعاً تضمن له الاستمرارية من جهة وتستطيع حمايته وتأمين مستلزمات الرعاية الطبية (العيادات الميدانية) والاجتماعية (التآزر والتآخي وتقديم المساعدات) والأمنية (إخفاء المطلوبين) له.

فما هي النقاط التي جعلت من الجامع نقطة الانطلاق:
1- لعل أهم الأسباب هي الطبيعة الدينية للمجتمع السوري بكل فئاته، حيث يلعب الدين عامل تعاضد وعصبية مركبة. وتمركز (هذه العصبية) بعيداً عن مراكز المدن، والتي ساهم النظام بإهماله للريف باستفحالها للأسباب الآنفة الذكر.
2- التجمعات الكبيرة والتي تؤمن الحماية لبعضها البعض لمنع القوى الأمنية من اعتقال أعداد كبيرة أثناء التظاهر على الأقل.
3- تحديد توقيت انطلاقة التظاهرة، والتي تأتي عقب انتهاء صلاة الجمعة.
4- سهولة الاتفاق على مكان التجمع وبخاصة للنشطاء والأفراد الملاحَقين من قبل الأمن والمخابرات. حتى أصبحت بعض المساجد المكان الطبيعي لتجمع الشبيبة للتظاهر أمامها (مثل جامع الحسن في الميدان).
5- لما كانت نسبة كبيرة من موظفي الدولة ما زالت مرتبطة اقتصادياً بالنظام فلا ملاذ أمامها للتظاهر سوى أيام الجمعة والعطل.
6- اعتقاد الجماهير أن دور العبادة هي أماكن مقدسة، ولا يمكن (أو لم يتصوروا) أن يقوم النظام باقتحامها وتدنيسها.
الآن وقد مضى على هذا الحراك خمسة أشهر هل ما زال الجامع المنطلق الوحيد للتظاهرات؟ أعتقد أن الجامع بدأ يفقد هذا الدور للأسباب التالية:
1- التوسع الكبير العمودي والأفقي للحراك والذي أخذ ينتهز أية فرصة للنزول إلى الشارع، وفي بعض المدن كدير الزور ودرعا وحمص نجد أن هذا الحراك يتواصل عبر النهار، وبدأ في شهر رمضان يصل نهاره بليله.
2- مشاركة المذاهب الإسلامية من غير السنة والطوائف الدينية الأخرى في الحراك، وبشكل فاعل كما نجد في قطنا والسويداء والسلمية وهنا لا بد من التنويه بالسيدين جورج صبرا ونذير صطيفي، الذين انضما إلى المتظاهرين في الجامع في قطنا، رغم كونهما مسيحيان، فهذا يدل من جهة على إدراكهما العميق لطبيعة هذا المجتمع، ومن جهة للتأكيد على لا طائفية التحرك ، وإلا لماذا يرفعهم المتظاهرون على أكتافهم؟
3- طبيعة الجموع التي تنزل إلى الشارع، والتي تجمع ما بين أقصى التدين إلى أقصى العلمانية، والتي تجمع كل ألوان الطيف السياسي والديني والقومي. عدا عن نزول النساء أيضاً.
4- حراك الشارع في ردات فعله على خطب أو قرارات أو مراسيم النظام، أو على بعض الأحداث الفارقة كاقتحام حماه، فقد لاحظنا أن الجموع وبعد كل خطاب للرئيس تهب مباشرة نحو الشوارع.
5- بعد أن أخذ الأمن يحاصر المساجد ويغلقها أحياناً، أصبحت التجمعات تتخذ من محيط الجامع نقطة انطلاقها، لأنه وكما ذكرنا أصبحت مواعيد التظاهر ثابتة عند الجموع. وأصبحنا نرى كيف أن التظاهرات قد أصبحت تبدأ من مكان بعيد عن الجامع، وتتجه نحوه لملاقاة جموع المصلين الخارجة منه. ففي حي الميدان مثلاً، بدأ التحرك مساءً خارج أوقات الصلاة وغالباً في مظاهرات طيارة وفي عدة أماكن في الحي بوقت واحد مما شتت القوى الأمنية برغم حصارها الشديد على الحي.
لقد لعب الجامع وما زال دوراً كبيراً في هذا الحراك وتجلى هذا الدور بشكل كبير خلال شهر رمضان المبارك. لقد أخذ توقيت صلاة الجمعة والتراويح دور (جرس التنبيه) للنزول إلى الشارع، وبكل الأحوال لا بد إن تراجع اليسار يفسح الطريق لتقدم اليمين وبالعكس. وفي هذا مقال آخر، ومثله عن الإسلام الذي نريده.
ملاحظة: كتبت هذه المقالة منذ شهور، ولأسباب خاصة لم ترسل في وقتها.

(113)    هل أعجبتك المقالة (103)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي