أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

حمص عاصمة الثورة والشاعر وصفي القرنفلي ... سهيل ابو بصمة


تحية إلى روح الشاعر وصفي القرنفلي وإلى أهل حمص العدية
مقدمة:
يا شعبُ، يا شعبي ... وبعض القول لا يحكى فيضمر
حسبي وحسب الشعر، بيتٌ، في شفاه الشعب، يذكر

لقائل هذه الكلمات وصفي القرنفلي سطوري، ولأهل حمص، ليست بدراسة، ولكنها إهداء لأهل مدينته عن أحد شعرائها، والذي آمن بالمطلق بالحرية والإنسانية. لذلك سأختار القصائد التي ترتبط بمجريات ثورتنا، والتي أرى من خلالها أن وصفي القرنفلي ما زال بين ظهرانينا، يحمل القلم في يده تارة، واللافتة تارة أخرى، وحنجرته تصدح: حرية.
فمنذ أن بدأت الثورة السورية في منتصف آذار، ومن اللحظة التي هبّ فيها شعب حمص تضامناً مع إخوتهم في درعا، وأنا أجد نفسي مدفوعاً للكتابة عن هذه المدينة التي أضحت بحق عاصمة الثورة عبر التضحيات الكبيرة التي قدمتها وعبر هذا الإصرار الأسطوري والعجيب بآن، للمضي قدماً في خضم الثورة حتى نهايتها المنشودة.
عرفت هذا الشاعر أول مرة خلال دراستي الثانوية من خلال قصيدته (كبر السؤال) والتي مطلعها (فقراؤنا قد حطموا حكم القناعة واستفاقوا) فنقلت إعجابي لوالدي بهذه القصيدة لأفاجأ أنَّ مطلع القصيدة محرّف والصحيح (فقراء مكة حطموا حكم القناعة واستفاقوا) ومذ ذاك قررت السفر إلى حمص للتعرف على هذا الشاعر وكان ذلك، والتقيت أيامها الشاعر ممدوح سكاف الصديق الشخصي لوصفي القرنفلي، والذي زودني بما احتجته، فكانت أولى كتاباتي الجادة (والتي لم تستمر)، ولما كانت مقالتي هذه مخصصة لنادي فناننا علي فرزات، أذكر أنه في نفس الفترة أجريت لقاءً معه، ولهذا مقالة أخرى مع نادي أصدقاء علي فرزات.
وصفي القرنفلي:
ولد في مدينة حمص 1911 حيث درس في مدارسها حتى الصف الحادي عشر، ليلتحق بعدها للعمل في دائرة المساحة في حمص. انكب على المطالعة بشغف وتلقى دروساً في اللغة العربية على يد الأستاذ يوسف شاهين الذي كان مديراً للمدارس الأرثوذكسية في حمص، وكذلك على يد الأستاذ جرجس كنعان. بدأ بنظم الشعر وهو في السادسة عشر من عمره، سافر إلى القاهرة ليطلع على الحركة الأدبية فيها وهناك نشر بعض إنتاجه في الصحف والمجلات المصرية. عاد بعدها إلى حمص حيث توطدت علاقته بالأديبين نصوح الفاخوري وعبد السلام عيون السود، وبمشاركة نصوح الفاخوري أصدر كراساً بعنوان (موعد وعهد) في العام 1954.
أحيل على التقاعد في العام 1964 نتيجة وضعه الصحي وأصيب بالشلل في العام 1967. منحته الحكومة السورية بتاريخ الخامس من آب 1969 وسام الاستحقاق السوري من الدرجة الأولى تقديراً لدوره في حركة الشعر المعاصر ومناداته بالعدالة والمساواة الإنسانية .
وفي نفس العام أصدرت وزارة الثقافة والسياحة والإرشاد القومي (كما كانت تسمى) ديوانه الوحيد (وراء السراب). توفي عام 1972 متأثراً بمرضه وأطلقت مديرية التربية بحمص اسمه على إحدى مدارسها ( ثانوية وصفي القرنفلي ) في حي باب تدمر ـ شارع عمر المختار .
شكل مع الشاعرين عبد السلام عيون السود وعبد الباسط الصوفي ثلاثياً مميزاً في حركة الشعر السوري المعاصر وانتهى كل واحد منهم نهاية مأساوية مما دعا الشاعر الراحل نزار قباني إلى القول: إنني أبحث عن حادثة فرح واحدة في الشعر العربي، فلا أرى إلا حشرجات عبد السلام عيون السود وسقوط عبد الباسط الصوفي منتحراً في كوناكري، وانطفاء وصفي القرنفلي كشمس شتائية، فهل كُتب على حمص منذ ديك الجن إلى اليوم أن تقدم وحدها كل ضحايا الشعر وأطهر قرابينه.

وصفي القرنفلي والثورة السورية:

أهي مصادفة تكون قصيدة (الدرب) أولى قصائد الشاعر في ديوانه الوحيد، والتي يقول في تقديمه لها:
وتقسم الإنسانية، أن تشق الليل، وتخط الصبح، وأن تصل.
نضال أبدي، منذ وعى الإنسان عوامل الاستبداد، والظلم الأسود، والشعار واحد:
في سبيل الحرية نحو غدٍ أفضل.
وفي التقديم أيضاً:
آمنت بالإنسان، آمنت بالصبح.
ونحن الطريق، ونحن غد.
ومن هذه القصيدة اخترت الأبيات التالية التي يصف فيها توق الشعب إلى الحرية:
تلمظتِ النار، فاجـتاحـها، وهوّم، في شدقها، يبتردْ
إذا طأطأت، كبرياء اللهيب، أراق الدماء، وقال: اتقد
وسار، يعضّ على جرحـه، ويمضغ، في ناجذيه، الكبد
على شفتيه ظـلام القبـور، وفي مقلتيه، ظلامٌ أشد
إلى أيـن؟ كــلا، ولا رِدةٌ، إذا الدرب سار، فما من مرد
نــداءٌ يرنّ: وراء الجرح، وراء الطريق، مع الصبح غد

وفي قصيدته (موعد وعهد) يقول:
ونحن قد جئنا من المشرق براعم الصبح، وراء الظلامْ
ماذا؟ ألا نـوجز تـاريخنا؟ نحن بقايا السيف، نحن الشآمْ
وفيها:
يا حسرتا للشعب، في شـرقنا يمتصه الإقطاع، والحاكمْ
لم ينضب الشعب، ولم يرتووا والشعب، ثوّار بهم، ناقمْ
وفيها:
وشعبنا، كالطيب، عضت به قارورةٌ، محكمةْ، فاختنقْ
إن القوارير غداً، شــظيةٌ، تحت نعال الشعب، إذ ينطلقْ

ومن بديع قصائده (قلم للبيع) والتي يفضح بها الصحف الصفراء والأقلام الكاذبة المشتراة من الحاكم، فهي خير تصوير لشبيحة الإعلام في وقتنا، وفيها يقول:
من يشتري القلم المنضر، حلو الرفيف، تقول جوهر
عبدٌ، بأمرك، طيع، قل: هات لي رأياً، فيحضر
يرضيك في سوق البيان، كأنه المهر المضمر
من كل لون، فيه حبرٌ، متقن، كالأصل، مظهر
إن شئت أخضر، كان أخضر كالربيع، وكان أصفر
أو شئت كان الخدعة الكبرى، أتذكر أمس؟ أحمر
يا رحمتا لدم الشباب، يحول ألفاظاً، ويهدر
من يشتري القلم، المجرب في الدعاية، والمشهّر
لسِن، يلوك اللفظ، والأفكار، تدجيلاً، ويجتر
مسحَ الخيانة، بالبطولة، فانتشت عِرقا، وعطَّر
نفض البيان، على الظلام، فخلته الصبح المنوّر
قلمٌ، يخدّر شعبه، ويعله السم المُقطّر
إيه يا خيانة، أسرفي، كلٌ على دمنا مسطّر
الشعب يمضغ جوعه، حقداً، سنطلقه، فيثأر
للشعب يقظته، وثورته، رويد غدٍ، تفجّر
فإذا بكم ... ماذا؟ وحسبي أن أقول، دم معفّر
الشعب لا ينسى، معاذ الحقد، يا شعبي تذكّر
يا شعر، قل للوغد، للقلم الأجير، غداة أسفر:
السيلُ ... أنصت، هل سمعت دويه؟ السيل فاحذر
إنّي أراه، كما أراك، يجيش أعماقا، ويزأر
سيل، يدمر رجسكم، ويخط عالمنا المنضّر
الصبح يفرش دربه، نوراً، ويغسله فيطهر
وكأنما خصب الربيع، عليه، ماج به، فأزهر
يا شعبُ، يا شعبي ... وبعض القول لا يحكى فيضمر
حسبي وحسب الشعر، بيتٌ، في شفاه الشعب، يذكر

وفي قصيدته (تزوير) إيجاز عمره ثلاث وستون عاماً لما يحصل اليوم، التاريخ واحد: ظلم واستعباد ثورة وانتصار. تابعوا هذه الأبيات الجميلة:

أطبق الظلــم والظــلام علـى الشعب، فنادى يستنفر الأحرارا
فاستجبنا خطىً، وشعراً ورُحــنا نلقّم الليل والطواغيت نارا
فعوّى السوط، والذئاب الضـواري أغمدت، في خناقنا الأظفارا
لقفتنا سـجون تــدمر والمـزة، لـقف المــجاهد الـكفارا
مزق السوط من وجـوه الصناديد فبعضٌ أبى وبعضٌ هارا
فاستنمنا، ولـم ننـم، وانطـوينا ننسج الحقد والجراحات ثارا
مـوعد نلتقي مـع الصـبح فيه، يوم ينقضُ شعبنا، إعصارا

ويصف الحكام ومراسيمهم المتأخرة، المرتقة، فيقول:
أتخموا الشعب بالمراســيم ألفا ظاً وِضاء، وذهبوها، إطارا
صبغوا بالبيان، ســود الدياجير فحالت – أما تراها؟ - نهارا
ومضوا في نضالهم دَجلاً محضا تلوّى، كالأفعوان وسارا
ناعـماً، ناغـماً، كجنة إبلـيس تراءت سمومها، أزهارا
يسـلب الشعب قـوتـه، ويمنيّه وعوداً نُضْرا، وقولاً نُضارا
وتغنوا بمــجدهم، يا لمــجدٍ، شيّد السوط، ركنه، والجدارا

وفي انحيازٍ لا لبس فيه إلى الشعب، يقول في (عتاب):

أنا للشعب ما حييت، وللـدرب يميناً لا تعرف التأويلا
أنا للكـادحين، منهم، وفيهم، سل جبالاً زرعتها، سل سهولا
بـي من البؤس، مـا بــهم ومكاني بينهم حيثما تولوا سبيلا
قصتي قصة (الملايين) مـنهم كتل البؤس، حقدنا، تكتيلا
نتنادى على الطريق، طلاحـا لم نهن عزمةً، ولا مأمولا
نسأل الشعر أن يكون شـعاعاً هادياً، في طريقنا، مسئولا
كلّـما أنت الجــراح هتفنا: دربنا الدرب، أو نخط الوصولا
إن يـوماً نمشيه، إما وصلنا، يُعقب الخِصب، للملايين جيلا

ويدعو المترددين، والصامتين لقول كلمتهم في وجه النهب المنظم لحيتان المال وطغيانهم، يقول في قصيدته (تحت الرماد):

أي صمتٍ هذا، وأي انخزال وانطواء، قد حال بالصمِتِ، عارا
قد سئمنا، هذي التماسيح، تجتر دماء الشعب الفقير، اجترارا
واُتخِمنا ذلاً، وكاد الدم الميت، وراء السياط، ينهلّ نارا
ثورة، تزحم السماء، وحقد، ينفُض الظالمين، فيها غبارا
أيها الشعب، ثر بجلادك الوغد، وهيا بنا، نقُدّ الإسارا
أنت دنيا، إذا تحفّزت، مادت تحتك الأرض، خشية وانذعارا
ثر بهذا النظام، واعصف ببيانه، وقوّض، من حوله الإسارا
ربّ ضعفٍ، إذا تكتل في الأفراد، يرتد عاصفاً جبارا
هل رأيت الوعاء، يضغطه الماء، وراء اللظى، فطارا انفجارا؟

ويختتم هذه القصيدة الطويلة، بقوله:
وطن المرء شعبه، ومداه عيشه الحر، منتجاً معمارا
حيث كان الإنسان، فهو أخو الإنسان، إما صحا، وإمّا استنارا

ولأن يومنا يوم الثورة، يقول في (لا هوادة):
يومنا، الثورة، التي حلم الأحرار فيها، والشعر، دهراً فدهرا
ليس بالحر، شاعرٌ لم يخضها، صاح وانهلّ، مضمر الحق، جهرا
مرحباً بالنضال، يا شعب خذني، خذ دمائي في سِفرك الضخم، سطرا

ويبشر بانتصار الثورة في (غدنا):
اسرِ، يا حقد، في دم الشعب، واعصف، أوشك (اليوم) أن يشق الزمانا
ويخطّ الغد المخلِّص، بل خطَّ، فكنا دماءه، أو كانا
وكأن الغد، المخضب بالنار، على مقلتي، أراه الآنا
ثورة كالقضاء، حتماً، تدك الظلم دكاً، وتسحق الطغيانا

وكأن به حاضرٌ بيننا نحن (الجراثيم) فيرد النعوت على أصحابها، ويصف صنّاع الثورة ومآلها، يقول متابعاً في (غدنا):
نحن يا صبح للحضارة، نُذْكيها، وللأرض، تستحيل جنانا
نحن خلف انتفاضة الحقد، أسمى من رأت أرضنا، ضميراً وشانا
ثورة للحياة، تبدأ تدميراً ورعباً، وتنتهي بنيانا
تنقذ الأرض من جراثيمها السود، وتبني فترفع الإنسانا

ويذكر أحرارنا بتاريخهم المشرف، في (مع السلم)، يقول:
كل تاريخنا انتفاضة أحرارٍ، وشعرٌ، يستصغر العبدانا
كلما هم فاتح أو غزانا، ضاع في السفح واستطالت ذرانا

ولنا النصر يؤكدها، في قصيدته (لنا النصر)، وبها أختم، حيث يقول:
لنا النصر يا أختُ فاستبشري ألم يضح الصبح للمـبصر؟
جـحافلنا، تملأ الخافـقين، طــلائع، للجـحفل الأكـبر
سنبني الحياة، فمن ناضرٍ، كدرب الربيع، إلى أنـضر
وراء الجرح، وراء الدجى، لنا النصر يا أختي فاستبشري

***

(145)    هل أعجبتك المقالة (129)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي