ليس من الممكن أن ننسى بعد 11 شهرا من عمر الثورة السورية اللغة الطائفية، وتحديدا في خطاب الأسد، 30 مارس 2011، الذي سبقه "نزول الملايين العفوية" ودماء مذابح درعا لم تجف بعد. صحيح أن بثينة شعبان مهدت للخطاب الذي سنراه مجسدا على الجدران وفي منازل المواطنين وأي مكان وصلت إليه أيادي الديكتاتور لتذكر بأن سوريا قبل 15 آذار لن تعود لما كانت عليه قبله.
من الطبيعي أنه بعد مذبحة حماة 1982تراكمت في النفوس الكثير من الأوجاع، وبالطبع لم يُجري المجتمع السوري، الرازح بظل ديكتاتورية واستبداد، مراجعة واحدة حقيقية بعيدة عن رواية الديكتاتورية عن "الأحداث"، وهي تسمية تتسم بالسخف لما حملته من إهانة لمجريات مذبحة فاقت فظاعتها ما ارتكبه الصهاينة في صبرا وشاتيلا بعد 7 أشهر من تاريخ مذبحة حماة.
في البيت السوري، وحسب التصنيف الفكري والمذهبي، كان النقاش ولا شك يدور حول رواية أخرى غير رواية السلطة الديكتاتورية عن "الاخوان المسلمين" وتحالفهم مع الأميركي والصهيوني... لذلك تم دك حماة، رغم أن من حمل السلاح فيها بضعة مئات، وتسوية مبانيها بالأرض مع فظاعات يعرفها الناس الآن بمشاهدتهم لما يجري هذه الأيام.... وبالتأكيد ما جرى في حماة قبل 3 عقود ربما يكون الصورة الأوضح للنهج الذي يريده بشار الأسد ومن حوله من العصابة الحاكمة لهذه الثورة السورية... قبل 3 عقود صمت العالم بما فيهم من تم اتهامهم تلقينا في المدارس ووسائل الإعلام عن وقوفهم وراء "مؤامرة الإخوان المسلمين" فلم يتحدث أحد بشكل صحيح وصريح عن المذابح التي أودت بحياة آلاف الضحايا والمهجرين والمفقودين حتى تاريخه.. ولم يجري فتح ملف مذابح سجن تدمر... ولم يجري التركيز على الثمن الذي دفعه النظام السوري لشراء هذا السكوت المريب...
لم تشهد حماة أبي الفداء والحوراني تدميرا ومقابر جماعية وسحل ونفي وتغييب فقط لمن يقدمهم النظام في روايته الرسمية من المسلمين... كنائس سويت بالأرض... قتل شيوعيين من كل الطوائف... وتم في حينه محاصرة المدن السورية بترويع لا مثيل له في أنظمة فاشية إذ كانت اللحية سببا لمزاجية اعتقال أية دورية أمنية لك... لا سؤال عن الانتماء الفكري أو الديني...
همسا كانت الناس تتحدث بعد فترة عما جرى... "القائد الفذ" ممنوع الاقتراب منه نقدا أو تساؤلا أو حتى الإتيان باسمه في الجلسات العامة، ليس فقط داخل سوريا بل وفي خارجها حيث يوجد سوريين... هذا أمر جعل السوريين في المنافي أكثر حذرا وخوفا وهمسا وقد دفع الكثيرون وعوائلهم حياتهم ثمنا لتقرير ما يرسله مخبر متطوع أو مأجور... هذا ما جرى مثلا لمصطفى خليفة صاحب رواية القوقعة الذي كان يدرس في باريس وأُخذ من مطار دمشق لدى عودته بجريرة تقرير من تلك التقارير فأودع في مسالخ الديكتاتورية 12 سنة تقريبا بتهمة الإخوان المسلمين وهو المسيحي الذي كان مثله الكثيرين ممن قضوا شنقا وقتلا بقانون يسمى 49 وهو قانون عار في جبين تاريخ سوريا الحديث...
ينفي جزار سجن تدمر وزعيم سرايا الدفاع حينها، والفرقة الرابعة هذه الأيام، رفعت الأسد عم الأسد الحالي أية علاقة بالمذبحة...
جرى توريث بشار لتبقى مذبحة تدمر ممنوعة في الملفات السرية التي يراد محوها من الذاكرة... اليوم ما يزال الفلسطينيون يقيمون كل عام ذكرى لمذابح قامت بها العصابات الصهيونية ودولة العصابات فيما بعد، منها كفر قاسم ودير ياسين والطنطورة التي اكتشفها مؤرخون يهود جدد... لم تغب عن البال صبرا وشاتيلا... وبخجل يتحدثون عن تل الزعتر وجسر الباشا... مذابح لا تنسى وهي ما تزال تتوارث شفويا...
ما ظن الحكم الفاشي في دمشق أنه قادر على طيه بتجميل مدينة حماة بعد ذبح عوائل بأكملها وتشييد ساحات وحدائق فوق جماجم المقابر الجماعية جاءت الثورة السورية لتقول له: لم ننسى!
هو غير قادر اليوم باستعادة فظاعات ومذابح الأمس في حماة أن يخضع سوريا، تغير الزمن وتراكمت أشياء كثيرة في نفسية السوريين... ولم يعد مسموحا التعتيم ولو كان آصف شوكت وبشار الأسد غاضبان ممن يصور ويبث مذابح ترتكب اليوم... يصبون غضبهم على شتى المدن السورية والقرى النائية ظنا من الديكتاتورية أن استخدام قوة النيران والترويع ستمنع الناس من الحديث والتضامن فيما بينها... ولم يستوعبوا بعد أن ما جرى من استفراد بحماة لا يمكن أن يمر اليوم...
اليوم نحن أمام ثورة شعبية، فيها جيش حر ومتطوعون حملوا السلاح مؤخرا للدفاع عن النفس بحاضنة شعبية كبيرة، يواجهها هذا النظام بما هو أفدح مما واجه به حماة... إنها لعبة الطائفية والأفلام التي يسربها عمدا... لجر الناس إلى المربع الأسهل... علويون يقتلون السنة... سنة يخيف بهم ما يطلقون عليه أقليات.. تفجيرات بوصفة حبيب العادلي... قصف للمآذن بشكل ممنهج وليس كما يدعي الديكتاتور أخطاء فردية في حضرة مشايخه باحتفال رمضاني... كتابة على الجدران وتأليه لشخصه وإهانة لمعتقدات الشعب ( مهما كانت هذه المعتقدات)... فشعار "لا إله إلا بشار" و "الأسد أو لا أحد"... مع غيرها وغيرها عن أحفاد معاوية... لا تستهدف المسلمين فحسب... فحتى الذي لا يؤمن بالدين تستفزه شعارات ربوبية الأسد وصناعة العبودية التي يبثها عن وعي وليس غباء...
الخطورة أين؟
أن يذهب البعض إلى مؤتمر في أربيل بشمال العراق ليرحب بهم بارزاني "في عاصمتكم" فهل دمشق بالنسبة للأحزاب الكردية الانتهازية تتاجر بالدماء السورية تارة باللعب على ورقة التحالف مع النظام وازاحة الناشطين من أمثال مشعل تمو والعشرات من الأكراد الناشطين بايد كردية وتارة أخرى بإرسال رسائل يشتم منها رائحة لي ذراع الثورة لاستحلاب تنازلات لا تمت بصلة لسوريا الموحدة والجديدة التي تريد الثورة منها أن تكون دولة مواطنة لكل مواطنيها مع كامل الحقوق القومية والثقافية للكرد؟
في الآونة الأخيرة ظن البعض بأن التشاطر عبر الألفاظ بالتصريحات النارية والفعل الثوري المتردد أو المُخوف بأحزاب يعدها الاستبداد بما لا تستحقه دماء السوريين فيسيل لعاب هؤلاء ليقدموا خطابا يدمر منجزات ثورة شعب بتحويل مطلبها الجمعي إلى مطالب فئوية في مناطق جغرافية تحت مسمى "فيدرالية" كمقدمة ربما لنموذج كردي عراقي تحت بند " حق تقرير المصير" الذي يساء استخدامه لعزل الذات عن المحيط العراقي الآخر لغة وثقافة وتواصلا... يسأل البعض: أين كنتم في 2004؟ وببساطة يمكن عكس السؤال: أين كانت سوريا في عام 82 حين كان يجري تدمير حماة وذبح أهلها؟ وهو سؤال ساذج جدا بالنظر للعوامل الموضوعية والتاريخية...
أظن أن النظام الديكتاتوري وبعض من يسمي نفسه معارضة يحاولون المساومة على الثورة السورية بمسائل مفضوحة للجميع، وما الخط الذي ينتهجه السيد هيثم مناع الذي طاف الدنيا مدافعا عن حقوق الإنسان يقف متمترسا عند رواية "السلاح" وعند كاميرا قناة العالم ظانا أن الجماهير في سوريا سترفعه على الأكتاف لأنه يرى نفسه المنقذ "للأزمة الوطنية"... فهذه الثورة "أزمة" في خطاب هيئة التنسيق... وسيظل السؤال المريب: كيف يجد هيثم مناع أن صراعه ليس مع الديكتاتورية، التي ترتكب المذابح والتي كان يفترض به رفع ملف بشار وعصابته الى المحاكم الدولية ، بل مع "أسلمة الثورة وتسليحها"؟
إلى الآن لا أفهم ما معنى "أسلمة الثورة"؟
وما معنى "عسكرة الثورة"؟
أليس هيثم متاع من تحدث عن السلاح في شهر مارس في بداية الثورة عن عروض من 3 جهات لادخال السلاح؟ بينما كانت جماهير حوران ما تزال تخرج سلمية وبصدور عارية؟ ثم سيكون مطلوبا من مناع أن يشرح في قادم الأيام من هي تلك الجهات التي عرضت عليه السلاح، ولماذا هو تحديدا وليس أحمد صياصنة مثلا؟ المتهم بأنه "القائد الارهابي" الذي رأى بعينيه المسلحين حسب حديثه لقناة الدنيا وهو يغرز اصابعه في عيناه ليقول للمشاهد: أيها الناس اعذروني على ما أقول من مشاهدات سيناريو قناة الدنيا وأنا الضرير!
صحيح أن الثورة السورية تواجه مخاطر كثيرة، وصحيح أننا نشهد مذابح حماة متكررة رغم خطوط أردوغان الحمراء ورغم أن المجتمع الدولي حاول أن يمنح هذا الديكتاتور فرصة اثر فرصة للقضاء عليها كما فعل دوما وبدون مساءلة في 82 وفي تدمر وصيدنايا والسويداء وفي القامشلي وعامودا.... وصحيح أن مدعي المعارضة ممن يلهثون وراء ما ترميه موسكو من خطط سخيفة لتثبيت النظام الفاشي في مكانه يعتقدون أنهم الوحيدون القادرون على تشخيص المعضلة ومن خلالهم فحسب يكون المخرج... وصحيح أيضا أن الشعب السوري يصرخ بغضب على عالمه العربي والاسلامي وعلى المجتمع الدولي ودعمه في الاشهر السابقة عراقيا وايرانيا ومن بعض الخليجيين والروس واللبنانيين عسكريا وماديا وديبلوماسيا... إلا أن الأصح في كل ما يجري يكمن في معادلة بسيطة: هذه ثورة شعبية سورية وليست ثورة طائفية ولا ثورة فئوية ولا مناطقية.
النظام يلعب ورقته المحروقة عن العصابات المسلحة والنظام يبث الآن عبر أبواقه بالوكالة شيء يفوق تسمية "المؤامرة الكونية" وهو يظن بأن الحرب الطائفية كفيلة بانقاذه... ينجر البعض من كل الطوائف وراء ما يرميه هذا النظام... لكنه نظام نسي بفعل غطرسة القوة عن الفاشيين والديكتاتوريين أن شيئا لا يمكنه أن ينتصر على إرادة شعب تتوسع ثورته مع كل شهر تودعه ومع كل شهيد يقتله ومع كل قذيفة تسقط على منازل السوريين ومع كل كمية كذب يتم ضخها عبر وسائل دعايته...
مأساة حماة 82 أن الشعب السوري لم يكن منخرطا بثورتها... اليوم لا نجد ناحية ولا حارة في سوريا لا يوجد فيها حراك ثوري... ويكفي استحضار وصول الثورة إلى حالة الدفاع عن النفس ليفهم هذا النظام بأن كل ما بثه عبر أبواقه عن "المجموعات المسلحة" ستحتاج في القريب العاجل لمراجعة لأن كل ما قاله بدأ الآن يحدث وتحديدا بعد أن أدرك السوري أن أحدا غير سواعده وتضامنه يمكن أن يسقط هذا الديكتاتور!
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية