الحديث عن مؤامرة تجري ضد سوريا، ليس بالجديد، فهي مقولة طالما سمعناها منذ زمن بعيد، انه حديث يمتد إلى تلك الأيام التي استطاع نظام عائلة الأسد أن يخدعنا فصدقناه جميعا، وهو "حديث المؤامرة" لم يشكل مفاجأة لنا ولا لغيرنا عندما تم ترديده بعد أن ابتدأت الثورة في سوريا قبل ما يقارب العام.
المؤامرة التي "اتخمنا" البعض بها ممن يؤازرون نظام العصابة في دمشق، ابتدأت كما يعلم الجميع ومنهم هؤلاء الذين يروجون للمؤامرة، عندما قامت مجموعة من الفتية بما قامت به في درعا والتنكيل الذي وقع على هؤلاء، وكانت النتيجة التي بات يعرفها القاصي والداني والتي أججت الأوضاع منذئذ وحتى اللحظة، حيث سقط آلاف القتلى وعشرات آلاف الجرحى وأكثر منهم من المعتقلين في سجون العصابة الحاكمة في سوريا.
الربيع العربي بمفهوم هؤلاء البعض، ابتدأ "بمؤامرات" تحركها إسرائيل ومنظومة الدول الغربية الاستعمارية، كان أولها في تونس حينما استجاب البوعزيزي "لمشغليه من أجهزة المخابرات الغربية"، فأقدم على إحراق نفسه إرضاءً لهم وتنفيذاً لأوامرهم من اجل تحقيق مآربهم في السيطرة على تونس، وكأن الغرب لم يكن مسيطرا عليها ولا هي كانت محطة من محطات الموساد وال سي آي إيه في عهد الرئيس الفار زين العابدين بن علي.
الحديث عن المؤامرة امتد ليشمل ميدان التحرير في القاهرة، وكذلك في ساحات اليمن "السعيد" الذي لا ندري إذا ما زال سعيدا أم ان نظام علي عبد الله صالح حوله إلى يمن حزين، وقد يطول حزنه إلى أمد بعيد، وكذلك الحال في ليبيا التي استطاع العقيد الراحل بمواقفه "المجنونة" ان يضع البلاد من خلالها تحت رحمة الغرب الاستعماري، لتأتي بعد ذلك مؤامرة الفتية في درعا السورية، هؤلاء الذين يبدو انه تم توظيفهم من قبل أجهزة المخابرات الإسرائيلية والغربية بدون علم أولياء أمورهم.
في سياق الحديث عن المؤامرة، لا بد لنا من ان نعود بالزمن إلى ما يزيد عن العقدين بقليل، عن "أم المؤامرات"، عن الربيع العربي المبكر الذي انطلق في فلسطين، عندما انطلقت مؤامرة شبيهة في قطاع غزة، حيث استغل بعض المرتبطين بإسرائيل والغرب، حادثة دهس لمجموعة من العمال الفلسطينيين لتنطلق شرار الانتفاضة المجيدة في العام 1987، وحيث ان نتائج تلك الانتفاضة لم تؤت ثمارها كما يجب، وحيث انه لم يتم استثمارها بالشكل المطلوب من قبل القيادة الفلسطينية، كما انها "الانتفاضة" لم تستطع انجاز التحرير، وكل الذي أثمرت عنه لم يكن سوى هذا الاتفاق الهزيل المسخ والمسمى أوسلو، فلا شك انه كان في الموضوع مؤامرة من قبل كل الذين شاركوا في تلك الانتفاضة، ولا شك انهم كانوا ينفذون أجندات صهيونية وغربية وغير وطنية بامتياز.
الذين لا زالوا يطبلون للمؤامرة على وطن العرب وأمة العربان، يحاولون جاهدين ان "يِتوًهونا" في "سراديب" الحديث عن الأمة والوحدة والقومية العربية، وان من ليس معهم فهو ضدهم بحسب مقولة بوش الصغير "كما سماه الإعلام العراقي عهد صدام"، لم يحاول أي من هؤلاء ان يجيب على التساؤلات التي تتناثر أمام وجوههم ومن حولهم،لأنها تساؤلات حقيقية وصادقة وهي أيضا محقة.
وإذا كان هنالك ثمة مؤامرة مستديمة ضد العربان ودولهم، فلم لا يجيب هؤلاء عمن هو المسؤول عن تلك المؤامرات، وبأيدي من يتم تنفيذها، لم لا يتحدث هؤلاء عن رئيس يجلس في مكانه على مدى عقود من الزمن ويرفض المغادرة إلا بعد ان يحول البلاد إلى مقبرة للشعب، أو عن رئيس لا يغادر ويبقى في مكانه حتى لو لم يبق من شعبه من يسبح بحمد الله، ولم لا يتم الحديث عن رئيس يربط بلاده بالغرب بشكل لا يمكن تصوره من خلال معاهدات واتفاقات سرية وعلنية لتبقى تحت رحمة الأجنبي.
لم لا يتم الحديث عن رئيس وافق على تقسيم بلاده وسلخ جزءا عزيزا منها من اجل البقاء في سدة الحكم، وهي مرشحة لسلخ جزء عزيز آخر في المستقبل ربما القريب وليس البعيد - في السودان-.
لم لا ينظر هؤلاء حولهم ليشاهدوا أن في هذا الجزء من العالم فقط يجلس السيد الرئيس في مكانه ولا يقتلعه من مكان إلا عزرائيل، هل هنالك من يدلنا على أي من دول العالم لا يتغير الرئيس فيها خلال ستين عاما أو يزيد إلا ثلاث مرات، في اثنتين منها بعد الوفاة والاغتيال، والثالثة بثورة - في مصر-.
لم لا يحكم البلد خلال أربعة عقود في نظام يفترض انه جمهوري سوى الوالد، وبعد ان يموت يخلفه الابن في تمثيلية مسرحية هزيلة مقيتة من تغيير مزعوم للدستور، وعندما يثور فتيان درعا يتحدث الجميع عن مؤامرة تستهدف البلد الصامد الممانع المقاوم المدافع عن العروبة وعزها، وهو الذي أذل العرب وتآمر عليهم من بيروت وما حولها، إلى حفر الباطن فاحتلال بغداد، تاجر بالدم والمواقف والمبادئ كما لم يفعل سياسي ولا حتى تاجر "شاطر أو متشاطر" من قبل، ولن يأتي مثله ولا مثيله من بعد.
لم لا يتجرأ هؤلاء على قول الحقيقة حول ما جرى للعراق، وان نظاما حكم البلاد لما يقارب أربعة من العقود، منع خلالها كل أنواع الحرية، ومنع الكلام، وحتى الهواء عن الناس، وصار أيٌِ "صعلوكٍ" فقط لأنه من مسقط رأس الرئيس يحكم كما الإمبراطور، ومارست أجهزة قمعه ما مارسته ضد أبناء العراق العظيم، بحيث أصبح نظاما مكروها من قبل الشعب، وعندما دخل الأجنبي لم يجد حوله من كان يطبل ويزمر له، وتخلى عنه حتى اقرب مقربيه، ولم يتوان اخلص "الخلصاء" من الوشاية به وتسليمه إلى الأعداء.
الم يكن هؤلاء الذين يروجون للمؤامرة هم من شد من أزر نظام الحكم في العراق إلى ان جرى ما جرى للعراق، وبعد، ماذا فعل هؤلاء للعراق بعد ان تحول إلى حديقة خلفية لإيران ومعسكر متقدم للولايات المتحدة الأمريكية.
الم يرغب هؤلاء بالقتال ضد الغزاة، وأن لا مشكلة كانت لديهم في أن يضحوا بكل أبناء العراق، فيما هم يتشدقون عن الحرية والاستقلال والقومية من فنادقهم ومقراتهم وصالوناتهم الفاخرة والمكيفة بالأجهزة الأمريكية، ما هو موقفهم الآن، الم تكن مواقفهم أحد الأسباب التي حولت العراق إلى تابع ذليل لدولة فارس، والى دولة تسير في الفلك الإيراني نخرها الفساد والدم الذي لا يمكن إلا أن يجر بحورا من الدم.
ألم يقل هؤلاء بأن من يحكم العراق الآن، ليسوا سوى "جواسيس أمريكا وبريطانيا وإيران"، وعندما تحرك هؤلاء "الجواسيس" للتوسط في الموضوع السوري، لم نسمع استنكارا ولو واحدا، ولا إشارة ولو واحدة عن ارتباطات هؤلاء، لا بل كل ما سمعناه من ثلة المطبلين، هو الترحيب بمثل هذا التدخل من قبل هؤلاء الذين روجوا ان حكام "العراق الجديد" ليسوا سوى جواسيس لأميركا وبريطانيا وإسرائيل، فجأة أصبح هؤلاء هم علية القوم وأكثرهم صلاحا ووطنية.
السيناريو الآن يتكرر في المشهد السوري، فلا زال هؤلاء يتحدثون وينظرون عن القومية والوطنية، فيما يقوم نظام عصابة "القرداحة" بذبح الشعب السوري الأعزل، نعم الأعزل، لان من يقوم بالقتال هم أبناء الجيش السوري الحر، ومن يقتل في الأغلب هم من المدنيين العزل، أطفالاً ونساءً وشيوخ، ولأن من حول الانتفاضة في سوريا إلى "عسكرة في بعض جوانبها" هو بطش العصابة الحاكمة.
لم لا يقول هؤلاء لسيدهم في القصر الذي حلقت من فوقه طائرات إسرائيل، وانتهكت أجوائه، وهاجمت ودمرت ما قيل انه مفاعل نووي، أو مشروع لمفاعل نووي في دير الزور، أن كفى، استقل واترك الحكم، لم لا يقول هؤلاء لسيدهم، ارحل، أنت لم تعد مقبولا من شعبك واهلك، ودع هؤلاء القوم يقررون ما يشاؤون، وما، أو من، يريدون، أم ترى عليهم "أبناء الشعب السوري" أن يكونوا كما أبناء العراق ضحية لمزايدات ثلة من الأفاقين والكسبة والمرتزقة والمنافقين.
لم على أبناء سوريا ان يقضوا بقية حياتهم "كعبيد وأقنان" في ظل نظام يدعي منذ عقود، انه يقاوم ويمانع ويقاتل ويحمي حمى الأمة؟ والجميع يعلم ان لا صحة البتة لكل هذه الشعارات، ولماذا على هؤلاء – أبناء سوريا- أن يعيشوا في ظل اقتصاد "حربي وعسكري" بحجة المقاومة والممانعة، بينما تسرق البلاد وتنهب على أيدي العصابة الحاكمة، والشعب لا يرى من شعارات المقاومة سوى دبابات تجوب شوارع المدن والأرياف السورية، أسلحة كانت في المخازن، ولم يرها هؤلاء، ولم تخرج إلا لقتال أبناء سوريا وذبحهم.
هل إذا ما هب الشعب مطالبا بالحرية والتخلص من نظام هو اقرب إلى نظام العصابة منه إلى نظام سياسي، جثم على صدر هذا الشعب لعقود، يصبح شعبا متآمرا مرتبطا بالاستعمار وإسرائيل والغرب، وهل يمكن لشعب من العبيد ان يقاوم العدو وان يحرر الأرض التي احتلت في حرب مخزية؟.
إذا كانت حجة البعض ان من يقوم بقيادة المعارضة السورية من أولئك الذين يقيمون في الخارج، فهذا لا يعني بالضرورة ان هؤلاء الذين شتتهم أصلا النظام في منافي الدنيا، أصبحوا جواسيسا للغرب، حيث لا زلا الداخل السوري هو أصل المعركة وبؤرة الثورة، وهذا الداخل يعرف ما الذي يريد، وهو على أية حال لن يتردد في القيام بالثورة والخروج إلى الشارع ضد من سيأتي ليبيع سوريا في سوق "العمالة" للغرب.
إن خير دليل على ربيع العرب، أن شباب الثورة في تونس، وروادها في ميدان التحرير، وكذا في ساحات اليمن، لا زالوا في الميدان، وليس المطلوب من هؤلاء الشباب ان يغيروا العالم في سنة أو اثنتين أو حتى عشرة أعوام، وعندما نقول هذا، فلأننا نعلم ان سنوات عشر في أعمار الشعوب لا تعني شيئا، خاصة عندما نعلم ان هؤلاء يحاربون على جبهات عديدة، ليس اقلها الثورات المضادة، وإرث طال لعشرات السنين، حول خلالها "أباطرة" العرب بلادهم إلى أوكار للرذيلة والفساد والإفساد والتبعية للأجنبي.
القاعدة تقول ان فاقد الشيء لا يعطيه، وعليه فان شعبا مستعبدا "بغض النظر عمن يقوم بالاستعباد"، لا يمكن ان يقوم بمهمة التحرير والمقاومة والممانعة، وهو لن يتمكن من ذلك، إلا إذا حرر رقبته بداية من الظلم والاستبداد الممارس ضده منذ عقود، ترى هل يمارس الشعب السوري أو أي من الشعوب العربية المؤامرة ضد نفسه، إذا كان الأمر كذلك، فمرحبا بالمؤامرة.
28-1-2012
[email protected]
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية