الخطاب الإسلامي الجديد في العالم العربي :
تحولات تاريخية في الفكر السياسي الإسلامي ... أم دعاية انتخابية؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تستخدم النخب الثقافية والسياسية المذعورة من صعود الإسلام السياسي بنتيجة ثورات الربيع العربي, أسلوبَ الإسلاميين أنفسهم في مراحل سابقة, ولكن في اتجاه مختلف. فبينما كان " الإسلاميون يخوّفون شعوبَهم من التغريب ومن أشكال الحداثة الجديدة والصادمة واعتبارها تهديداً مباشراً للهوية الإسلامية والدين " كما عبر الدكتور خالد الحروب, فإن النخب المذعورة الآن تحاول – باسم الديمقراطية والعلمانية - تخويفَ شعوبها من لجوء الإسلاميين, في حال تسلمهم السلطة وإشرافهم على وضع دساتير البلاد المحررة من الاستبداد, إلى التنكر للمبادئ الديمقراطية والانقلاب على مبدأ التداول باحتكارهم السلطة بالقوة, والرجوع إلى شعار – الإسلام هو الحل – في أكثر أشكاله قسراً وانفصالاً عن متطلبات التطور التاريخي. ويلتقط هؤلاء المذعورون تصريحاً من هنا , وإشارة من هناك, صادرَيْن عن قيادات سياسية - إسلامية, ليثبتوا مشروعية تخوفاتهم, بخاصة فيما يتعلق بشكل الدولة القادمة وحقوق المرأة, وأوضاع أتباع الديانات الأخرى في ظل حكم الإسلاميين...الخ.
إن المذعورين من صعود الإسلام السياسي, الصادقَ منهم ومدعي الذعر لمآرب مختلفة, جميعُهم يغضّون النظر عن تحولات كبيرة وحاسمة طرأت على خطاب الإسلاميين عموماً, والمعتدلين منهم على وجه الخصوص. ويصرون على خطاب التخويف وبث الريبة والقلق تجاه نوايا الإسلاميين ومآل البلاد إذا ما صعد هؤلاء إلى سدة الحكم.
وتُسارع الأنظمة المستبدة إلى استخدام نبرة التخويف نفسها, بهدف لجْم فئات عديدة عن الانخراط في الحراك الشعبي ومطلب التغيير السياسي والاجتماعي والحقوقي. وقد وجد بعضُ المثقفين في نغمة التخويف والتحذير هذه وسيلة أيضاً للهروب إلى الأمام من المسؤولية التاريخية والأخلاقية التي تتطلب منهم تحديد موقعهم وموقفهم مما يحدث الآن. وهم يعلمون تماماً أن نغمة التخويف هذه لن تصبّ إلا في مصلحة الأنظمة المستبدة القائمة حالياً, والتي لا تقل, كما أثبتت التجربة الملموسة, سوءاً وفحشاً وضرراً على المجتمع, من أسوأ السيناريوهات المستقبلية المحتمَلة لحكم الإسلاميين, والتي يحذر هؤلاء المذعورون منها.
يتجاهل المذعورون, كما تقدم , الكثيرَ من المؤشرات التي تعكس تحولاً ليبرالياً ديمقراطياً مهمّاً في مواقف الإسلاميين إزاء العديد من القضايا السياسية والمجتمعية. وهذا التجاهل – في السياسة ومنطقها – ليس إلا المعادل الملطف للإقصاء وقمع الآخر ورفض مبدأ المشاركة. وهو ما يؤدي في نهاية الأمر إلى عرقلة مسيرة الديمقراطية والتعددية والاحتكام إلى الاقتراع الحر لتحقيق مبدأ التداول وصياغة توجهات المجتمع المختلفة. وهي مسيرة تتعمق وتتأكد كخيار مجتمعي عام بعد ثورات الربيع العربي.
* * *
من بين أهم المؤشرات عن هذا التحول في مواقف الإسلاميين, ما صدر عن الأزهر الشريف مؤخراً في وثيقتين وبيان بينهما, وهي جميعها تندرج في سياق واحد متكامل, يتناول طبيعة العلاقة بين الدين والدولة, والموقف من الثورات العربية ومشروعية السلطة الحاكمة, ثم أخيراً منظومة الحريات الأساسية في المجتمع. ومجرد نظرة سريعة إلى مضمون هذه الوثائق , تؤكد أن الأزهر فيما صدر عنه, قد سجل واحدة من أهم لحظات تجديد الفكر السياسي والاجتماعي في الإسلام, إن لم يكن أكثرها تجاوزاً وحسماً وشجاعة.
تحرص النصوص المذكورة على تأكيد المشاركة الكاملة للمثقفين المصريين " على اختلاف انتماءاتهم الفكرية والدينية " جنباً إلى جنب مع علماء ومفكري الأزهر, في تدارس مقتضيات اللحظة التاريخية, واعتماد منظور - القواسم المشتركة بين الجميع - للخروج بالتصورات المستقبلية عن الدولة والحريات وقضايا السلطة والاختيار والمواطنة والتشريع والشرعية...إلخ . وفي إشارة لافتة تؤكد الوثيقة الأولى على أن المجتمعين لم يستلهموا في مناقشاتهم التي أفضت إلى الصياغات النهائية للأفكار والمواقف " روحَ تراث أعلام الفكر والنهضة والتقدم والإصلاح في الأزهر الشريف " فحسب, وإنما " استلهموا في الوقت نفسه إنجازات كبار المثقفين المصريين, ممن شاركوا في التطور المعرفيّ والإنساني, وأسهموا في تشكيل العقل المصري والعربي الحديث في نهضته المتجددة, من رجال الفلسفة والقانون والأدب والفنون...! ". إن التخلي عن نزعة التعالي والإقصاء واحتكار معرفة الحقيقة وإنتاجها, والإيمان بمبدأ المشاركة, وتوسيع قاعدة المرجعية المعتمَدة للمنظور السياسي والاجتماعي الجديد...الخ, كل ذلك مما تتميز به الرؤيا الجديدة للأزهر. وعبر لغة جديدة كلياً تعكس التحولات الأعمق في بنية التفكير لدى الإسلاميين العرب, تضمنت الوثائق إشارات متكررة إلى المشترك بين قوى المجتمع, والتوافق المجتمعي, ونهج الاعتدال والوسطية, والمرجعية الإسلامية النيرة, وعملية التحول الديمقراطي ...الخ.
في مقاربة موضوع الدولة المنشودة تشير الوثيقة الأولى إلى اعتماد – إستراتيجية توافقية - " ترسُم شكل الدولة العصرية المنشودة ونظام الحكم فيها ". وهذا تحول حاسم في موقف الفكر الإسلامي من موضوع الدولة والحاكمية. ويتعين هذا التحول بشكل جلي عندما تذهب الوثائق مباشرة إلى تحديد شكل الدولة المنشودة المتوافق عليها : " الدولة الوطنية الدستورية الديمقراطية الحديثة التي تعتمد على دستور ترتضيه الأمة يفصل بين سلطات الدولة ومؤسساتها القانونية الحاكمة". وفي هذا السياق تلتفت الوثيقة إلى إدانة الدولة الكهنوتية, مما يحيل بشكل غير مباشر إلى تنحية مطلب الدولة الدينية, لصالح الدولة المدنية التي تكون فيها سلطة التشريع لنواب الشعب, وتكون إدارة شؤون البلاد بالقانون – والقانون وحده !!, كما ورد حرفياً في الوثيقة الأولى.
وبالنسبة لشكل الحكم تشير الوثيقة الأولى إلى " اعتماد النظام الديمقراطي، القائم على الانتخاب الحر المباشر، الذي هو الصيغةَ العصرية لتحقيق مبادئ الشورى الإسلامية، بما يضمنه من تعددية ومن تداول سلمي للسلطة، ومن تحديد للاختصاصات ومراقبة للأداء ومحاسبة للمسئولين أمام ممثلي الشعب، وتوخي منافع الناس ومصالحهم العامة في جميع التشريعات والقرارات ". وقد تكامل هذان المحددان لشكل الدولة والحكم, مع إشارة مباشرة إلى (المواطنة) باعتبارها مناط المسؤولية في المجتمع, ورفض أية تفرقة في الحقوق والواجبات بين جميع المواطنين.
يتحدد مفهوم المواطنة في خطاب الأزهر, بصفته تعبيراً حقوقياً وسياسياً مؤسساً لبناء المجتمع الحديث. فحق المواطنة الكاملة للجميع يقوم في جوهره على المساواة التامة في الحقوق والواجبات, كما أشارت الوثيقة الثانية. وحقيقة الأمر أن احتفاء الوثيقة الثانية – صدرت في 8/1/ 2012 – بمنظومة الحريات الأساسية, يهدف إلى تأكيد مبدأ المواطنة واعتبارها العلاقة الحاكمة الأرأس في النظام الديمقراطي والدولة المنشودة. من هنا تطرح الوثيقة الثانية منظومة الحريات( حرية العقيدة, حرية الرأي والتعبير,حرية البحث العلمي والإبداع...الخ ) بوصفها منظومة حقوق مدنية وسياسية واجتماعية للأفراد, تكفلها مقاصد الشريعة الغراء من جهة, وروح التشريع الدستوري الحديث من جهة ثانية. وتشير الوثيقة إلى " متطلبات اللحظة التاريخية الراهنة, والحفاظ على جوهر التوافق المجتمعي, ومراعاة الصالح العام في مرحلة التحول الديمقراطي " كمحددات فاعلة في المبادئ والضوابط الحاكمة للحريات الأساسية. إن التدقيق المتبصر في تناول الوثيقة الثانية لمنظومة الحريات, يكشف الانحياز الكامل إلى متطلبات التاريخ الملموس والمتعين, على حساب السطوة المفترضة للنصوص وقراءاتها السابقة.
بين الوثيقتين أصدر الأزهر " بيانَ دعم حراك الشعوب العربية الشقيقة نحو الحرية والديمقراطية ". وقد تضمن هذا البيان أفكاراً هامة جداً حول شروط اكتساب أو سقوط شرعية السلطة الحاكمة. مع تمييز نابه ودقيق بين معنى المعارضة الوطنية الشعبية, وبين مفهوم البغاة في الإسلام. كل ذلك على ضوء أحداث ثورات الربيع العربي, وبما يتفق مع توجهات الشعوب العربية في التحرر من أنظمة الاستبداد والفساد.
يتأسس فهم البيان للشرعية على مفهوم العقد الاجتماعي بين السلطة والمجتمع. من هنا يؤكد البيان على أن شرعية السلطة الحاكمة تعتمد على رضا الشعوب واختيارها الحر الذي يستعلن في شرط الديمقراطية الكاملة . ويشير البيان إلى أن الشرعية ليست شيئاً يُمنح مرة وإلى الأبد, وإنما هي شيء تمنحه الأمة أو تسلبه تبعاً لمدى التزام السلطة بشروط العقد, وعلى رأس هذه الشروط توفير الحرية والعدالة. أما العامل الحاسم في سقوط الشرعية عن السلطة الحاكمة فهو مواجهتها " أيّ احتجاج وطني سِلميّ بالقوّة والعُنفِ المسلَّح، وإراقة دماء المواطنين المسالمين ". إن " انتهاكُ حرمة الدَّم المعصوم هو الخطّ الفاصل بين شرعية الحكم وسقوطه في الإثم والعدوان ".
بهذا الشكل يكون الأزهر قد ربط شرعية السلطة, وجوداً أو انتفاءً, بممارساتها. وهو في المقابل يمنح الشرعية للمعارضة الوطنية الشعبية – السلمية – ولقوى الثورة والتجديد والإصلاح. ويرد على فقهاء السلاطين الذين اعتبروا أن معارضي السلطة الحاكمة ينطبق عليهم توصيف البغاة وحكمهم الشرعي في الإسلام. لكن البيان يربط أيضاً شرعية المعارضة وقوى الثورة والتغيير, بالتزامها بالسلمية, والابتعاد " كليًا عن كل ما يؤدى إلى إراقة الدماء، وعن الاستقواء بالقوى الخارجية أيًا كان مصدرها ".
* * *
إن الهدف الأساسي من هذا العرض المطول لمضمون وثائق الأزهر الصادرة مؤخراً, هو القول بوجود خطاب إسلامي جديد كلياً, حول قضايا سياسية واجتماعية عديدة. وأرى من الضروري التعامل مع هذا الخطاب بكثير من الجدية والاهتمام, من قبل القوى السياسية العلمانية والليبرالية الديمقراطية في العالم العربي. سيتردد القول هنا وهناك, من قبل هذه القوى ونخبها السياسية والثقافية, بأن هذه الوثائق لا تعبر بالضرورة عن رأي الإسلام السياسي, وأنها تظل حبراً على ورق ما لم يتهيأ لها التحقق في صياغات قانونية دستورية, وممارسات ملموسة على الأرض, حيث التطبيق هو المعيار والمحك. وسيطرح آخرون مسألة توقيت صدور هذه الوثائق, مع ما يعبر عنه بعض قيادات الحركات الإسلامية من مواقف قريبة في توجهها من مضمون الوثائق, ليستخلصوا بأن ذلك ليس أكثر من دعاية انتخابية تأخذ بعين الاعتبار مآلات الأوضاع بعد الربيع العربي...الخ. كل ذلك ربما كان صحيحاً ومبرراً, لكن المشكلة في أن تتحول هذه الملاحظات, أو الهواجس, إلى موقف عصابي إقصائي يحول دون القبول بأبسط معايير الممارسة الديمقراطية التي يتبناها هؤلاء, ويتخوفون باسمها من الإسلاميين, أعني القبول بالمشاركة, والإقرار بحق الآخر في التعبير عن حضوره السياسي وممارسة السلطة, وفق آليات ديمقراطية تعددية تداولية يبدو أن الجميع بات مؤمناً بها الآن.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
⃰ كاتب وباحث سوري مقيم في الرياض.
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية