منذ الإطلالة الأولى في خطابه الرابع واعتلائه خشبة المسرح المكوم بالمصفقين، كان الارتباك جلياً في خطواته باتجاه منصة الخطابة، خطواته متأرجحة لاتخطئها عين، وعلى وقع التصفيق الحاد والهتافات التي شنفت أذنيه الممتدة على جانبي رأسه، وعينيه الزائغتين باتجاه الحشد المكوم أمامه من نخبة أزلام، بادل حضوره التحية بيديه المعمدتين بالدم، مع ابتسامعة مصطنعة فاقعة لونها، أقرب منها إلى التكشيرة، أو كمن اشتم ريحاً لاتسر، كانت فاتحة الخطاب، وأي فاتحة كانت...؟ استهلها بالكذب والجمل التي لم تعرف ترابطاً، وفي كل واحدة منها كان له معها سقطة، ما يعكس ارتباكه الشديد، وعدم ثقته بكل من حوله "فاقد الشئ لايعطيه"، أتحف الجمع والمشاهدين بواحدة من مطولاته الخطابية التي تحتاج إلى أكثر من مؤتمر للتوضيح والاستزادة وفك الطلاسم والألغاز والمقاصد، وما يزيد من مهمة مرقعي خطاباته فذلكاته اللغوية والاستعراضية خروجه على النص المكتوب، على ورقة تسمى "خطاب الرئيس"، حيث استهل الأسد كلمته بتبرير الغياب لمراقبة المشهد وجمع المعطيات ليكون أكثر دقة في التحليل والاستنتاج ومتابعة الأمور "حسب زعمه"، أي ذلك ما دفعة للغياب طوال الفترة الماضية، واسترسل في التنقل بين الورقة المكتوبة وبين فذلكاته وأوهامه ومقارباته واستنتاجاته واستقراءه الخاص بطريقة مفككة غير مترابطة تفتقر إلى أدنى درجات المنطق والعقل، غلب عليه الصوت المهزوز والعيون الزائغة التي تهرب في كل مكان دون ثبات وكأنه يبجث عن شئ أضاعه فجأة، ما يعبر ببشاطة عن شخصية مهزوزة مهزومة مأزومة لاتعرف الاستقرار في حالة انفصال كلي عن الواقع، فكان كلما حاول الخوض في أمر ما يزداد بعداً ويلقي بالمزيد من الأوهام والشك والريبة في نظرته للأمور ويزيد من الهوة بينه وبين شعب يطالب ساتئصاله ورموز نظامه، حتى أنه كان يثير الشفقة في أكثر من وقفة له.
واصل الأسد خطابه المعلن عنه قبل يوم واحد فقط، واستعرض محطات عديدة لاعلاقة لها بجوهر ما يمر به نظام الوريث من أسوأ ورطة عرفها منذ الأيام الأولى لوالده المورث، فاعتمد في تنقلاته وقفزاته البهلوانية بين نقاطه المتعددة على فذلكات لغوية ومهارية مسطحة، تعكس في كل منها ضحالة في شخصية ومكونات وأهلية قائد مفترض فقد كل الأوراق التي كان من الممكن أن يتناولها على أقل تقدير، كانت في أبسط توصيفات لها هي تنفيذ حرفي لمفهوم وقواعد فنون صناعة الكذب، عندما يؤكد على عامل استباق خطط المواجهة لنظامه لما أسماها العصابات الارهابية الافتراضية من وحي فبركة عواجيز مخابراته المقربين إليه، إلى الترهيب والتخويف وتشتيت المتلقي للرسالة، إلى اللعب على العاطفة والوطنية والقومية واستحضار التاريخ، وتوظيف بعض الوقائع والأحداث لتعزيز فكرة ما وصولاً إلى اختلاق وفبركة وقائع دموية تهدد حياة الناس وتمس استقرارهم وتهدد طمأنينتهم، إلى محاولة اجتزاء بعض مقولات لقادة مشاهير ليؤكد مضداقية ما يرمي إليه لدى المتلقي، كما فعل في استحضار مقولة لعبدالناصر على أن سوريا هي قلب العروبة النابض، في الوقت الذي لايمكنه سماع أوقبول ما قاله عبدالناصر في نفس السياق عن ممارسات حزب البعث منذ وصوله السلطة من تعزيز ممارسات الطائفية، وتوزيع المناصب على أتباعة، وتقسيم المجتمع السوري إلى بعثيين وغير بعثيين، إلى آخر ما أنتجته ممارسات البعث من التفاوت الطبقي واتساع الهوة بين طبقات المجتمع، وتعطيل دورالمؤسسات إلى تغول أجهزة المخابرات وتحكمها في مفاصل الحياة اليومية على مدار الخمسة عقود الماضية.
تناول الأسد في خطبته العصماء أبعاد المؤامرة المعشعشة في دفاتر وسجلات مواخير مخابراته، والتآمر المزعوم على عروبة بلاده في ظله وظل والده، تغنى بنرجسية لاحدود لها بالممانعة والوطنية ليفاجأ الجميع بمفهوم منظومته الجديدة للعرب والعروبة، وبعض العربان وصولاً لألفاظ غير لائقة، حتى ألفاظ نابية من تهجم على العرب، والجامعة العربية، والهيئات الأممية، والمنظمات الدولية، وفات الخطيب التطرق لجوهر الأزمة التي يواجهها في الأصل، أو لأي من الحلول أوالتصورات والخطط التي من المفترض طرحها وإن تجاوز الزمن أي طروحات له، فكان خطابه خال تماماً من أي شئ كان من الممكن أن يكون إطاراً لمواجهة أزمة، بل زاد الطين بلة في أنه قدم رؤيته للأزمة على أنها إرهاب يستهدف بلاده، و وجه بالضرب بيد من حديد على يد كل من يحاول إشاعة الفوضى أو يهدد الاستقرار المزعوم ليوزع تهديده في كل اتجاه، وليوحي بالفوضى تعم البلاد والخراب والدمار نتيجة للمخطط المزعوم، والإيحاء بأنه هو ضمانة الاستقرار والأمن والأمان و واهب الخير لأمته وإلا .....؟
وفي كل جملة قالها يتلطى بين حروفها الخوف من المجهول، تعكس فقدانه السيطرة والخوف يعشعش في ثنايا مخيلته، تارة يتسجدي التصفيق، وتارة يستجدي الاستحسان، يستدر العطف بنبرات صوته المليئة بالشجن والخوف على الوطن، في حين كانت حركات رأسه الغير متوازنة وحركات يديه العشوائية في مفاصل حديثه تشير إلى إفلاسه السياسي والأخلاقي وانكار الذات، حينما ناقض نفسه بنفسه باسهابه المطول في استعراض عدد من المواضيع كان يفترض أن لايتطرق إليها إن كان صادقاً في ادعاءه لمحطة ABC News الأمريكية على أن الحكومة هي المعنية بكافة أمور البلد...؟ وهو كرئيس ليس له علاقة بما يجري وأكد حينها أن ما يجري في الميدان هو من اختصاص حكومة بلاده، إلى حد التنصل مما أجادت قريحته ، ويفاجأنا بخلطة تناقضات غريبة عجيبة وبمداخلات تؤكد علمه وصلاحياته باتخاذ القرار في أدق التفاصيل، أي أنه يجمع كافة خيوط اللعبة بيديه، ليؤكد بما لايدع مجالاً للشك بأنه القاتل والمحرض والموجه ومرتكب لكل جريمة بحق السوريين ويداه معمدتان بالدم الطاهر منذ أكثر من 10 شهور من عمر الثورة.
لم يتورع الأسد في خطابه عن الولوج إلى صميم عالم فن صناعة الكذب في التشتيت وتوجيه الأنظار لتشويه صورة المعارضة وكل من قال لنظامه لا من أطياف الحراك السياسي والثوري فقدمهم على أنهم مفاوضون له من تحت الطاولة، وطلاب مكاسب ليس إلا، في محاولة لزرع الفتنة بين المعارضة والشارع الثائر، دون أن يدرك أن ما يقوله لايلقى قبولاً في الشارع حتى بين أتباعه، وأصبح كمن يلعب لعبة الحكواتي في قهوة شعبية، ففي كل مرة يقص نفس الرواية بطريقة مغايرة للمرة السابقة، بل أن مجرد الإعلان عن ظهوره أصبح موضع تندر، وفرصة للترويح عن النفس للمشاهدين وأحياناً بما يثير الغثيان، في الوقت الذي ينتظر جمع من أبواقه للصراخ عبر المنابر الإعلامية لشرح نظريات الرئيس ومكرمات الرئيس وعطاءات الرئيس وإنجازات الرئيس والسباحة في فلك الرئيس، علاوة على جاهزية وزير إعلامه والناطق باسم وزارة الخارجية لشرح وتصحيح مسار تصريحات الرئيس وشرح اللبس فيها، لدرجة المطالبة بترجمة ما قاله الرئيس، ولاندري من هم القادرون على ترجمة ما قاله الرئيس في مطولته الخطابية وخروجه المتكرر بين الفينة والأخرى، ومن هم القادرون على التأويل وإزالة اللبس في كل ما طرح، ليكون للرئيس مع كل إطلالة موال من طعم خاص.
الخطاب الرابع، استرسال للمكرمات والهبات التي من بها الرئيس على شعبه، وحالة الإسهال التي أنجبت حزمة من المراسيم والقرارات في محاولة يائسة منه لتهدئة الاحتجاجات و وأد الثورة، نجمت عن قراءة خاطئة لصناع القرار في قصر الشعب ومن وراءه زبانية الاستخبارات لطبيعة الثورة ضد الطغيان، وانتهاجه الطريق الأمني في المواجهة، يستحق أن يكون الخطاب في مقدمة أدوات التواصل الفاشلة بامتياز لما احتوى من فلسفات وترهات فضح بها عن مكنون نفس منهكة مهدودة، وتخبط كبير يعيشه صانع القرار في مواجهة الثورة، ما وضع الطغاة المتكبرين في زاوية صعبة واستحقاق أصعب، وفي استنتاجاته وقفزاته البهلوانية في خطابه المكتوب الموسوم بعدم الترابط، ومفردات وفذلكات لا لزوم لها، ليبتعد في أي محطة فيه عن أصل المشكلة التي لايقوى على الولوج إليها بعد أن أوغلت قواته في الدم، ورمى كل ما في جعبته من إصلاحات ومراسيم وقرارات واهية ضعيفة ليس لها فعل أو قوة على الأرض دون التطرق للديمقراطية المنشودة التي يطالب بها الشعب المقهور، أو حتى الاقتراب من منصب الرئاسة المحجوز بحكم التوريث باسمه وعائلته، مع سيل من التناقضات في زعمه في قبول التفاض والالتقاء مع المعارضة التي لم يسميها وفي نفس اللحظة لايعترف بوجود أي معارضة لنظامه وما دونه هم مأجورون، وأما الشعب فهو يحكم باسمه ويقصد به من غصت بهم ساحات السبع بحرات من رجال المخابرات، وقوات الفرق العسكرية الموالية له ولأخيه بلباسهم المدني، وقطعان الموظفين المجبرين على الخروج تحت التهديد والوعيد، وهو على حد زعمه يحكم باسمهم...؟ فهم مصفقون، في فلكه سابحون وغير فخامته لايرون، وإن شاء ترك الحكم فعل، نزولاً عند رغبة الشعب المزعوم، وفي الكلمة الكثير من الرسائل، المحشوة بالعنف والتهديد والوعيد، والويل وسوء عاقبة الأمور.... فهل يدرك أو يتدارك رأس النظام بأن الثورة ماضية في طريقها حتى تحقيق الحرية.... والضوء في آخر النفق... وفي كل محاولة خطابية أو ظهور مصطنع مهزوز يدق مسامير أخرى في نعش نظامه؟؟؟
• صحفي سوري مغترب
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية