كانت جارتي المفضَّلة.. تعارفـْنا منذ خمسةٍ وعشرين عامًا، وامتدّت صداقتنا بلا انقطاع، فعند الصباح تحييني بابتسامةٍ فيها مفاتنُ الكون ِ وصخبُ الأطفال، وحيوية الشباب، وحين يخيّم الليل، ويهاجرُ النّورُ إلى مدنٍ أخرى أطلُّ من شرفتي، فأرى وجهَ جارتي مضيئـًا بالحبِّ والحكمة، ويبدأ بيننا السَّمر:
-كيف كان يومُكَ يا جاري الحبيب؟
-أخفضي صوتَكِ، فالجيرانُ يراقبون، و...
-دعْكَ منهم، فأنا امرأة حرّة..
-والآن، قل لي: هل كان الرزقُ جيدًا؟
-الحمدُ لله، ولكنْ..
-أعرفُ.. تريدُ أن تقول: إنَّ الغلاءَ يبتلعُ الأرزاق..
-هذا صحيح، ولكنْ..
-ماذا بعد؟ هل كرهْتَ مهنة َ التعليم؟
-لا واللهِ، ولكنْ..
-ماذا حلَّ بكَ؟ حيَّرتَني..
-أشعرُ أنَّ التعليمَ صارَ نوعًا من التجارة.
-وهل تريدُ العملَ مجّانـًا؟
-حبّذا لو أستطيع ذلك، فالحياة ُ لا ترحم، والمطالبُ كثيرة
-تمنياتكَ تؤكّد أنَّكَ لم تتجرّدْ من الرحمة...
أحبُّ مثاليَّتكِ، وأتوقُ إلى مجاراتكِ
-لن تقدرَ يا جاري، فلا تحمِّلْ نفسَكَ فوق طاقتِها
-لماذا لا أقدر؟
-لأنَّ المثالية يناسبها الثبات، وأنتَ بحكم تكوينكَ متحوِّلٌ، قادرٌ على التـَّأقلم مع الزمان الجديد، أما أنا فلا..
-لا أحبُّ هذا الزمانَ المادي المتعجرف.
-قال غيرُكَ الكلامَ نفسَه منذ آلافِ السنين، وظلَّ الزمانُ يتابعُ التجدّد.
-مع ذلكَ صمدْتِ له، فلمَ لا أصمد؟
-أنتَ واهمٌ، فلا شيءَ يصمد أمام الزمان، ألا تراني أتمايلُ كلّما هبَّتْ رياحُه الهوجاء؟
-الله... ما أجملَ تمايلكِ!
-أعرفُ، أعرف أنكَ في الشتاء تراقبني من خلفِ الزجاج، وتختارُ الثيابَ المناسبة لرقصاتي..
في الصباح ألقيتُ التحية على جارتي المبتسمة، فقالتْ لي: تذكَّرْ أنا امرأة حرّة..
وقبيلَ منتصفِ الليل، جهَّزتُ نفسي لمسامرةٍ جديدة، فإذا بأصواتٍ هاربةٍ من جهنّم تحطِّمُ السكون، فخرجتُ إلى الشرفةِ خائفـًا لأرى العمَّالَ يقطّعون بالمناشير الآليّة أوصالَ جارتي الحبيبة، ويهدرونَ دمَها، وعلى رأسهم الصاحبُ الجديد للبيت العربي القديم الذي جمَّلتـْه جارتي الحلوة مئة َ عام، ومع سقوطِ شجرتي البطلة، صعدتْ غمامة ٌ من العصافير التي أرعبَها أبناءُ الزمانِ الجديد، ولكنَّ جارتي لم تخفْ، فهي (امرأة حرّة)...
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية