ألوذ أحياناً, من تعبٍ وقلقٍ وحيرة, بما يسميه
البعضُ – نظرية المؤامرة - وأتساءل : هل يغضّ المجتمعُ الدولي النظرَ عن جرائم
النظام السوري, فيتعامل مع ما يحدث بهذه اللامبالاة الصفيقة, والتحرك البطيء
المشبوه, بهدف إعطاء القتلة الوقتَ الكافي ليتخلصوا من خيرة شباب سوريا, و من
القسم الأكبر من احتياطيها البشري المبدع, وبالتالي الوصول إلى سوريا محطمة ثكلى
لا تجيد سوى الندْب والعويل ورعاية الريحان على قبور الشهداء ..؟؟!
أقول هذا لأن النظام السوري مابرح, منذ تسعة أشهر,
يلاحق ناشطي الثورة وعناصرها الموهوبين الأكفاء, ويقوم بتصفيتهم بكل خسة ولؤم,
وبأشكال بربرية لم تعهدها أكثر مراحل التاريخ دموية واستهانة بالجسد البشري, وذلك
من دون أن يعتريه – النظام - أدنى إحساس بالقلق من المحاسبة, أو التردد حيال هول
الخسارة وفظاعة الجريمة.
* * *
لقد طور شبابُ الثورة السورية أشكالاً من الاحتجاج
والرفض والعمل الميداني, تقوم في جوهرها على أمرين:
الأول: انتزاع المجال العام المصادَر من قبل النظام
البربري بالكامل, سعياً لتحويله مجالاً حراً ومناسباً للتعبير عن بلاغة جديدة
تبدعها الثورة, وتحمل مطالبها الجذرية. ( التظاهر والاحتجاج في شوارع وساحات المدن
والبلدات مع كل البلاغة الجديدة المرافقة من أغنيات وشعارات ولافتات...الخ ).
والثاني: إقامة ما يشبه المؤسسات المؤقتة البديلة
لمؤسسات الدولة المختطفة من قبل النظام التسلطي, وتشغيلها بما يخدم أهداف الثورة
الشعبية من جهة ( إعلام الثورة مثلاً كبديل عن الإعلام الرسمي), وتلبية لحاجات
ميدانية ملحة فرضتها الوقائع اليومية للحراك الشعبي والرد الأمني القمعي للنظام,
من جهة ثانية. ( المشافي الميدانية على سبيل المثال).
في قلب هذين الميدانين للمواجهة بين الشعب والنظام
التسلطي, أبدع شباب الثورة في ابتكار أشكال من التعبير والاحتجاج والتنظيم
والمبادرة. وبرز خلال ذلك ناشطون – نجوم – كانت إسهاماتهم ذات طابع استقطابي ورمزي
فائق الأهمية والتأثير على الوقائع الميدانية والفضاء الأخلاقي القيمي للثورة
السلمية. إن أكثر المؤمنين بقدرات الشباب العربي حماسة وتفاؤلاً, لم يكن ليتوقع
منهم هذا الفعل التاريخي النادر في تكامله واتساقه أخلاقياً ومطلبياً .
من جهته, لم يجد النظام البربري سبيلاً للجم هذا
الحراك العظيم, سوى تصفية هؤلاء الناشطين الشبان النجوم, كاشفاً بذلك عن الجانب
الأكثر خسّة وغباء في وجهه الاستبدادي القمعي البشع. ومن الواضح أن النظام السوري
يطبق – بالضبط - الأسلوبَ الإسرائيلي الذي اتُبع – منذ السبعينيات - في تصفية
القيادات الفلسطينية, وتفريغ الفضاء المقاوم من نقاط الارتكاز والحركة الفاعلة
فيه, والقادرة على إدارة الصراع بكفاءة واقتدار ورحابة في الرؤيا والعمل.
هكذا تمت تصفية إبراهيم القاشوش و غياث مطر ومحمد
الشيخ وفراس برشان و فرزات الجربان... ومئات من الناشطين والقادة الميدانيين,
الذين امتلكوا مواهب وإمكانات خاصة وكفاءة ميدانية لافتة, مكّنتهم من إنجاز المشهد
العظيم للثورة السورية, بكل دلالاته وملامحه البطولية والأخلاقية النادرة.
* * *
مثال الطبيب – إبراهيم عثمان – (د. خالد الحكيم )
يبدو جاهراً في هذا السياق. شاب في أواسط العشرينيات من عمره, يترك دراسة الاختصاص
في الجراحة العظمية, ويلتحق بالثورة واضعاً كل حماسته وخبرته وشجاعته ومنظومة
القيم الأخلاقية والإنسانية التي يؤمن بها, في خدمة أهداف الثورة وحراكها الشعبي.
ومن الواضح أن هذا الشاب امتلك طاقة إنسانية تعاطفية هائلة, تنبع من تربية أخلاقية
تقوم على النخوة والاستعداد المستمر لتقديم العون للمحتاجين. ويُذكر في هذا السياق
أنه منذ السنة الأولى في دراسته الطب العام, سارع لامتلاك أدوات الطبيب الإسعافية
الأساسية, وكان يسأل باستمرار: في حدا بدو افحصه؟؟ في حدا بالحارة مرضان لروح
شوفو..؟؟!
لكن موقف الحكيم خلال الثورة, يتوفر على ما هو أبعد
من النخوة, ومن الملمح الفدائي في شخصيةٍ تتمتع بالحيوية والدأب وحسّ المبادرة
والمشاركة. لقد أراد الحكيم أن يعيد إنتاج المؤسسة الطبية بعيداً عن هيمنة النظام
التسلطي, وأن يطلق من جديد الدورَ المعهود والطبيعي للمستشفى والطبيب, مسعفاً
ومعالجاً وضامناً لحق الدفاع عن الحياة في مواجهة الموت. وبكلام آخر أقول: أراد
طبيب الثورة أن يخوض معركته في ميدانٍ بقي عقوداً تحت السيطرة المطلقة للنظام, من
دون أن يجرؤ أحد على مواجهته فيه. إنه ميدان المؤسسة ودورها إزاء المواطن. لقد
احتكر النظام مؤسسات الدولة ومرافقها, وجعلها أداة من أدوات تكريس سلطته القمعية
البوليسية, بدءاً من المؤسسة العسكرية والتشريعية, وانتهاء بالمستشفى والمدرسة
ومؤسسة البريد...الخ. وخلال الأحداث الأخيرة تحديداً, تجلى بوضوح الاستخدامُ
القمعي المتوحش لمؤسسات الدولة ضد الثورة وشبابها السلمي, الذي أنشئت هذه المؤسسات
أساساً لخدمته. فصارت المدرسة والملعب سجناً ومقراً للقتل والتعذيب, والمباني
الحكومية منصات قنص وسواتر للقتلة المرتزقة, والتلفزيون الرسمي منبراً لتزوير
الحقيقة, وصار المستشفى الحكومي مسلخاً بشرياً بكل ما للكلمة من معنى.
في جميع المناسبات التي أتيح خلالها للحكيم أن يتحدث
للإعلام, تطرق إلى موضوع الدور القذر للمشافي الحكومية, والموظفين الكبار فيها,
المتعاونين مع نظام القتلة. وفي اتصال هاتفي مع صحيفة الشرق الأوسط قال الحكيم عن
المستشفيات الحكومية : تبدو بمعظمها تابعة للنظام, وتعمل في الوقت الراهن كجهاز
استخباراتي!!. وبالتالي فهو يوضح المغزى الحقيقي للمستشفيات الميدانية التي أقامها
مع مجموعة من زملائه الأطباء : استعادة المؤسسة – تقنياً وإنسانياً - وتشغيلها ضد
محتكرها الأوحد – النظام – خدمة للحراك الشعبي ومطالبه العادلة.
وهو يذهب أبعد من ذلك عندما يقول لمراسلة CNN أروى دامون:
إن هدفنا أبعد من مجرد علاج المصابين, إننا نعمل على توثيق جرائم النظام..!!. وفي
تصريحه السابق لصحيفة الشرق الأوسط أشار بوضوح إلى أن تنسيقية أطباء دمشق – وهو
كان من مؤسسيها الرئيسيين والناطق باسمها – " تعمل على توثيق الانتهاكات
والإصابات تمهيداً لرفعها في وقت لاحق إلى الجهات المختصة".
لقد وجد إبراهيم عثمان في الفضاء الإسعافي للمستشفى
الميداني فرصة نموذجية نادرة للتدبر في الوقائع الميدانية الملموسة لعمليات
التصفية الجسدية والتعذيب والإطلاق المباشر لآلة القتل ضد المحتجين العزل. حيث
كانت الحالات التي تصله يومياً بالعشرات, لشهداء وجرحى ومصابين, بمثابة وثائق حية
عما يحدث في سوريا . لقد استعاد الحكيم المؤسسة من النظام, واستعاد معها الرواية
الحقيقية للوقائع. وبينما كان المستشفى الحكومي مجالاً للتصفية الجسدية, ولتزوير
الحقيقة في آن معاً, جعل الحكيم من المستشفى الميداني البديل مكاناً لانتشال
الأجساد من هوة الألم والنزف حتى الموت, ومجالاً لالتقاط الحقيقة من شهود الرعب
والجريمة والألم.
* * *
يبدو الطبيب إبراهيم عثمان مثالاً نموذجياً للناشط
الميداني القيادي في الثورة السورية. يعطي– غالباً – المجال العام حقه من المشاركة
الفاعلة في التظاهر والاحتجاجات, قبل أن ينتقل إلى ممارسة اختصاصه المحدد في
الصفوف الخلفية للمواجهة ( التقت به مراسلة CNN في المرة الأولى داخل المظاهرة, قبل
أن يرافقها ليطلعها على المستشفى الميداني السري الذي أقامه في دمشق). وهو يتنقل
بين مناطق مختلفة في سوريا, وحيثما وجد الحاجة إلى كفاءته وخبرته . لقد شارك
الحكيم في عمليات إسعاف وتأمين مستلزمات طبية وأدوية, في كل من : بابا عمرو-
الرستن- تلبيسة - القابون- برزة – ريف دمشق ...وكان في حماه خلال المجزرة التي
ارتكبتها قوات النظام في رمضان الماضي ( قارن مع تنقل المنشد الساروت بين ساحات
مدن عديدة).
وعندما سألته أروى دامون عن اللحظة الأصعب في هذا
كله أجاب:
" كل مرة أخرج من
منزلي أودع والدتي أشعر أحياناً بأنني لن أعود لأراها مرة أخرى. أشعر بالأسى أيضاً
عندما أرى أناساً يُقتلون من أجل حريتهم, حتى وأنا أخيّط جروحهم يظلون ينادون
للحرية..." .
استشهد إبراهيم عثمان على الحدود السورية التركية في
10/12 / 2011 , وفي ذلك إحالة رمزية إلى معنى جديد من معاني حياته القصيرة, لكن
الحافلة بقيم الشجاعة والتضحية والإيثار: يصبح الوطن وحشاً يلتهم أبناءه ويسحق
أجسادهم, حتى وهم يسعون نحو أرض غريبة بحثاً عن الأمن والنجاة, فيلتقطهم في الخطوة
الأخيرة قبل وعد الحرية, ويزرعهم من جديد في تراب جُبل, بالفعل لا بالاستعارة
والتمثيل, بدم أبنائه .
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية