أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

خطاب مفتوح موجه الى السيد حسن نصر الله .. ملهم الكواكبي

خطاب مفتوح
موجه إلى السيد حسن نصر الله (حلقة أولى)
حضرة السيد حسن نصر الله المحترم
تحية طيبة وبعد

مقدمة
- يشرفنا أن نوجه إليكم هذا الخطاب من رحاب الثورة السورية المباركة. مشفوعاً بالأمل أن يحقق لكم بعض النفع سواء تلقيتموه بعين الاتفاق أو الاختلاف. ونؤكد أن النفع يتسع أو يضيق بحسب اتساع النظر في هذين الحالين معاً, وهذا ما نرجوه لكم ولأنفسنا على السواء.
- ونؤكد أن نية مخاطبتكم لم تولد لهذه اللحظة فقط. بل هي صاحبتنا طيلة مسيرتكم ومحطاتها الكثيرة التي كانت محط الإعجاب بكم حتى التماهي تارةً, أو مدعاة للتأمل والتحفظ تارةً أخرى.
لكن مجموع هذه اللحظات كان أقرب لعلاقات أسرة واحدة يظللها هاجس الدفاع عن أمتنا وتطلعها للحرية والعدالة والكرامة الإنسانية!
.. وها نحن نجد لزاماً مخاطبتكم الآن للسؤال ما إذا كان ما يزال يظللنا هذا الهاجس جميعاً. وهل مازال ممكناً تصويب المواقف والاتجاهات على إيقاع هذا الهاجس ومتطلباته, أم أن الأمر أصبح مقطوعا به لمضي كل منا في طريق ؟!
- في ضوء هذا نؤكد أن حديثنا توجهه غايتان لا تفترقان. إحداهما سياسية والثانية أخلاقية. الأولى تصدر من قلب الواقع وأهدافه ومتطلباته. والثانية تتوخى أقل قدر من التناقض, بل أرفع قدر من التوافق بين الضروره السياسية والضرورةالأخلاقية. بما في هذا تناقض الجزء والكل, أو التكتيك والاستراتيجية, أو الوسيلة والهدف, وخصوصاً الوقتي الذي يزول والبعيد الذي يدوم وينفع الناس!
- أخيراً فقد تعمدنا مخاطبتكم بطريقة علنية لتكون ملكية عامة, وحجة لنا أو علينا أمام الناس جميعاً. بما في هذا أبناء حزبكم, والأقربون والأبعدون, وخصوصاً شعبنا السوري واللبناني!

السيدحسن
- بدأنا الخطاب من رحاب الثورة السورية المباركة لأننا نعني هذا القول ونريده واضحاً نصاً وروحاً. وربما يعود لكم فضل هذا الوضوح أو بعضه لما ألفناه من مواقفكم وخطاباتكم السياسية. في نفس الوقت فهو ينطلق من نظرتنا لطبيعة القضية التي نعرضها وهي علاقة شعوبنا بقضية الحرية والكرامة. ونعتقد أن هذه القضية هي من جنس القضايا التي يليق النظر إليها والتعامل معها من زاوية المبادئ الأخلاقية أولاً. بل واعتبار أن مخططاتها الاستراتيجية وغاياتها البعيدة هي أفضل وأنفع تكتيكاتها على الإطلاق. وهذا على أية حال كان الشعار اليومي الذي تمسك به الإمام الخميني شخصياً في زحمة الثورة الإيرانية ضد نظام الشاه المقبور!
- في هذا الصدد لا تفوتكم أيضاً مأثرة كربلاء. التي لطالما تغنى بها الكثيرون لجهة أبعادها التربوية والأخلاقية. خصوصاً ترفعها عن أي ملكٍ زائل أو نفعٍ وقتي. لأنها تعتبر النفع ملكاً عمومياً للناس جميعاً وهو يشمل الحقوق دون استثناء, بما فيها حق السلطة والسياسة والمواطنة والثقافة والاعتقاد والثروة والوطنية والكرامة . .إلخ ..
ونعتقد أن مأثرة كربلاء ليست دعوة عدمية تجاه هذه الحقوق جميعاً. بل هي دعوة سياسية بامتياز (بقدر ماهي أخلاقية) للدفاع عن هذه الحقوق وجعلها ملكية عامة للناس دون استثناء. ومن بابٍ أولى منع اعتبارها غنيمة واغتصاباً وملكاًُ عضود للطغاة من أي نوع كان!
-على إن مأثرة كربلاء ليست وحيدة في التاريخ أو من صنف فوق بشري. وإلاّ لما كان ممكناً دعوة الناس للإقتداء بها في مكافحة الظلم وتحسين الحياة إنطلاقاً من اجتماعهم المدني ومقدراتهم وقواعدهم الخاصة لتحقيق العدالة والحرية والكرامة الإنسانية!
خلاف هذا فإن هذه المأثرة تمثل فعلاً بشرياً بامتياز لتجسيد هذه القيم. لأنها تنطلق من ثقة أخلاقية عالية بمستقبل الإنسان واحترام قدراته العقلية والأخلاقية لتقرير مصيره. ومن هذه الزاوية فهي حلقة أصيلة في سلسلة المآثر الطويلة التي تشرف البشرية في كل مكانٍ وزمان, وربما تجري إلى جانبنا وتحت أنوفنا أيضاً!
إن هذه المآثر, فضلاً عن قيمتها السياسية, فهي تمثل جداراً أخلاقياً يقوم وسط المظالم والأهواء الفاسدة وأنظمة الطغيان, لإرشادنا كيفية اتباع الأهداف الصائبة والأولويات السليمة لمواجهتها. وإلاّ تجنب إثمها في أقل تقدير.. سواء بواسطة اليد أو اللسان أو القلب.. وهو أضعف الإيمان!
.. خلاف هذا يعني خيانة هذه المآثر وطعنها في الصميم خدمة لصالح الطغيان أو بحثاً عن مآرب زائلة أو نجاحات وقتية. ولنا في حوادث التاريخ (خصوصاً الفتنة الكبرى) أمثلة صارخة لأولئك الذين كان ثمن مآربهم ونجاحهم الوقتي فادحاً جداً في إدامة الظلم وتوريث مجتمعاتنا شروخاً وانقسامات عميقة لأنهم مالؤوا الطغيان تحت ذرائع مختلفة ووصموا الثورة عليه بكل العيوب والأكاذيب بما فيها الفتنة والتخريب وشق وحدة الجماعة, ودون نسيان التآمر الخارجي أيضاً!؟
-ومن المؤسف أن فساد هؤلاء الممالئين لم يستثني بعض المقهورين أيضاً. الذين سعوا لتسويق مظلوميتهم ومواجهة الطغيان بقواعد تبزّه فساداً. ونعني قواعد الجماعة المعصومة والأسرة الوراثية المقدسة التي تملك الولاية والوصاية على مصير الناس وعقولهم وأقدارهم. وبهذا فإن أولئك وهؤلاء شاطروا الطغيان في قطع طريق شعوبنا لتكريس أبسط التقاليد الصالحة لتحسين حياتها وتقرير مصيرها بقواعد الاجتماع المدني والعقد الاجتماعي وحقوق المواطنة والدولة المدنية العادلة التي تنفع الناس وترضي الله!

السيد حسن
- لئن كان ثمة سبب واحد يبرر لنا في عصور سابقة, أو لأسباب أخلاقية, غض الطرف عما يفعله بعض المقهورين من نسبة أنفسهم لعائلةٍ مقدسة تتصل بالله ورسوله, بهدف إنصاف أنفسهم أو تطريز صورة مظلوميتهم بالقداسة والأحقية, مقابل ما يفعله الطغاة من إيعاز طغيانهم لقضاء الله وقدره أو إرادته واختياره. وبهذا فإن النزاع بين هذين الفريقين يقوم على قاعدة واحدة من الذرائع وأساطير الشرعية التي ثبت فسادها لأنها جعلت الدولة والمجتمع مسخرين لصالح طغمة من الأوصياء التي كرست الاستبداد وجرت شعوبنا للانقسامات المللية والخراب..
...نقول برغم هذا يبدو ملفتاً وشاذاً استمرار النزاع بين الأقوياء والضعفاء على نفس القاعدة بعد أن تخطتها البشرية كلها. وعدم التبرؤ منها جهاراً نهاراً.. خصوصاً من طرف المقهورين.
والأدهى من هذا أن يجتمع أسوأ ما يحمله الطغاة والضحايا معاً في مزيج واحد يحمل اسم
(حزب الله). خصوصاً أنه يحمل راية المقهورين مع راية التحرر والمقاومة ضدّ العدو الامبريالي والصهيوني؟!
- إننا نأمل التعاطي مع حديثنا خارج السباب والاتهامات. لأنها آخر ما نهدف له. ولأنها تغري بأيسر الرد الذي يضلكم عن المشكلة التي نبحثها. ونعني بها الأسباب والعوامل الحقيقية التي تدفع البعض للانتقال من تحت راية المظلومية وشعاراتها إلى خندق الظالمية والطغيان. وإلى طعن مناعة المجتمع وإفشال فكرة الدولة وجعلهما فريسة الفوضى والطغيان والأجندات المدمرة.. من تحت شعارات المقاومة, وربما مآثرها ودماء أبنائها أيضاًُ!
وسوف نبين أن هذه العاقبة هي حصيلة محتومة للسير على طريق المقدمات الفاسدة التي يسلكها الطغاة من مظلومي الأمس في كل زمان ومكان. وهذا يشمل بشكل صارخ حليفكم النظام السوري الذي ظهر من وسط المحرومين وتحت رايتهم ليشكل نموذجاً للفساد والطغيان قلّ نظيره في عصرنا, سواءً بحزبه القائد أو أساطيره وشرعياته الزائفة دون استثناء!
ولا يخدعنكم الظن أن حديثنا موجه ضدّ حزب النظام أو جبهته التقدمية أو فئاته الاجتماعية ومعتقداتها جميعاً. ناهيك عن إقصاء هؤلاء أو اجتثاثهم كما فعلت هذه السلطة ضد أبناء شعبها, وفعل أمثالها من أصحاب المآرب الفاسدة والحقائق المطلقة دون استثناء.
خلاف هذا فنحن أكثر من يعلم أنّ جبهة النظام وعلى رأسها حزب البعث, كانت أول ضحاياه تعرضاً للتهميش والإقصاء عن أي دور وطني وحسٍ مدني. لهذا نحن معنيون بما هو أعظم شأناً وأكثر نفعاً لشعبنا وأجياله المتعاقبة, وهو تفكيك قالب هذا النظام الاستبدادي مع أساطيره وشرعياته التي تدوس الناس جميعاً. وبتعبير آخر وضع ضحاياه جميعاً (ومنهم أهل النظام) في قالب مدني جديد يحترم عقولهم وحقوقهم, ويحترم أولاً بأول حريتهم وكرامتهم الإنسانية!
- كما لا يخدعنكم أن حديثنا يحمل أقل ترخيص بمبادئ الوطنية ومقاومة الاحتلال ومناهضة المشاريع الإمبريالية والصهيونية..إلخ. فهذه المبادئ جميعاً لم تكن في أي يوم مجرد شعارات للمزاودة والمناقصة, أو الاحتكار والمتاجرة بالنسبة لشعوبنا. بل كانت ولم تزل جزءاً لا يتجزأ من حليب أمهاتنا الذي تلقيناه جيلاً بعد جيل. وكان شعبنا السوري بخاصة مثالاً حياً لتجسيد هذه المبادئ واعتبارها جزءاً لا يتجزأ من عزته الوطنية وقوت حياته اليومي!
من هذا المنطلق حققت مقاومة حزبكم استجابةً واسعة في نفوس شعوبنا. وخصوصاً الجماهير السورية التي تخرج الآن للثورة ضد النظام. وهذه الجماهير لم تمنعها جميع التحفظات المذهبية والسياسية (خصوصاً الناشئة عن صلتكم بنظام يذيقها الويل)عن إظهار أعظم الاستجابة والالتفاف حول حزبكم وشخصكم, الذي يؤكد عراقة حسها الوطني وعدم تبديدها الأولويات!
وقد كان ينبغي فهم هذه الاستجابة على وجهها الصحيح الذي يحفظ قيمتها الحاضرة والمستقبلية. وبالأحرى لا يحرم المقاومة من بوصلتها ووجهتها بل يضعها في مكانها الصحيح بوصفها أمثولة لنهوض شعوبنا وسنداً في معركتها الحقيقية لكسر قيودها وتحرير إرادتها, وإلاّ التزام الحياد أو الصمت المطبق في أقل تقدير.. عوضاً عن تسخير المقاومة لإحكام قبضة الطغاة على رقبة شعوبهم. ناهيك عن تسخير أردأ ما لديها من حلفاء ومتملقين لبث الافتراء والسموم ضد ثورة الشعب السوري, واختطاف أقطار أخرى كرهائن لفك عزلة النظام الدكتاتوري وتوسيع مناورته ضد شعبه والشعوب الأخرى على السواء؟! يتبع.........
أواسط تشرين أول أكتوبر /2011/





خطاب مفتوح موجه إلى السيد حسن نصر الله (حلقة ثانية)
في أولوية المقاومة
السيد حسن
- لا يجوز لمنصف أو عاقل غضّ النظر عن دلالة هذا الموقف والمرور عليه مرور الكرام. ومن طرفنا لن نقبل التسليم بعواقبه وتداعياته لداعي المجاملة أو أي اعتبار يؤدي للتعامي عن عيوب هذا الموقف وفساد أسبابه.
وسوف ننأى عن أية تأويلات باطنية أو تآمرية لتفسير موقفكم. مثل إيعازه لارتباطات استخبارية أو أجندات إيرانية أو مشاريع مذهبية.. إلخ. وهذه التأويلات أصبحت محط اقتناع الكثيرين للأسف ومنهم أقرب المتعاطفين معكم سابقاً. ومهما بلغ خطؤها أو صوابها فهي تشكل جزءاً من عواقب موقفكم وتداعياته التي لا تبرؤون من تبعتها.
ومن جهتنا سوف نتحاشى هذه التأويلات جميعاً. لأننا نفضل تفسير موقفكم بأسبابه ومعطياته الظاهرة. وهي ذات الأسباب التي دأبتم شخصياً على تأكيدها والاعتزاز بها. ونعني بها (أولوية المقاومة) باعتبارها قضية محورية وإستراتيجية بل ودينية. وبالتالي أولوية كل ما يتصل بها من شعارات الوطنية والممانعة ومناهضة المشروع الأمريكي. فضلاً عما يتفرع عنها من خطاب إعلامي وتحالفات داخلية وإقليمية.. إلخ.
- بناءً على هذا سوف تسمحون لنا بمناقشة هذه الأولوية بل والتحفظ تجاهها وجهاً لوجه. مع إعادة التأكيد أن اعتراضنا لا يمسُّ المقاومة بحدّ ذاتها بل يطال مفهومكم لأولوية المقاومة. أي أنه يخص السؤال فيما إذا كان ينبغي اعتبار المقاومة رافعة حقيقية لبقية الاستحقاقات والمشكلات التي يئنُّ منها الواقع العربي, أم أن العكس هو الصحيح تماماً؟!
ولا شك أن الموقف من هذه القضية في غاية الأهمية وتترتب عليه نتائج وفروق, وربما انحرافات في غاية الخطورة أيضاً. وفي مطلق الأحوال فإن الخلاف حول هذه القضية لا يعني قبولنا التفريط بالمقاومة والقضايا الوطنية عموماً. وبالأحرى لا يحق لأحد الترخيص بوطنية الشعوب واستسهال تخوينها. خصوصاً عندما تختار لنفسها أولوية رفع السكين التي يضعها الطغاة في رقبتها. لأن هذا قمينٌ بطعن الوطنية في الصميم وجعلها قناعاً للمتاجرة السياسية والسلطوية!
غاية القول أننا نريد وضع المقاومة في موضعها الصحيح من استحقاقات شعوبنا, خصوصاً استحقاقات الشعبين السوري واللبناني. ونعتقد أن هذه الاستحقاقات تشكل رافعة المقاومة ومعيار صوابيتها ونجاعتها.. وليس العكس!
ويجدر التنويه أننا لا نقيم المقاومة أو أية قضية أخرى انطلاقاً من نتائجها الوقتية التي تسرنا أو تسيء لنا فقط. وهذا ما يفعله الكثيرون للأسف ممن ألفوا الرقص على طبول الحوادث التي تسرهم, أو إطلاق الرصاص على أصحابها عندما تخيب ظنونهم . لهذا فهم تارة مع الخميني, وثانية مع صدام, وأخرى مع القاعدة وأسامة بن لادن, أو فتح أو خالد العملة أو حسن نصر الله أو بشار الأسد.. إلخ. والأدهى أنهم مع هؤلاء أو ضدهم بنفس المعيار تماماً, أي حتى العظم في الحالين على السواء.؟!

السيد حسن
- لقد رجونا اتساع صدركم للقول أننا لن نتبع طريق هؤلاء في التعامل مع سياسة حزبكم. ولا يشرفنا التعامل معها بطريقة غرائزية. أي انطلاقاً من المواقف والنتائج الوقتية التي تجعلها أجزاءً مبعثرة نطرب لبعضها ونصب اللعنة على بعضها الآخر. مما يعني اعتبار سياستكم صحيحة بالمطلق في لحظة معينة, ثم تصبح باطلة وشيطانية في لحظة أخرى!؟
ومن نافل القول أنه لا يشرفكم أيضا اتخاذ مواقفكم على أسس وقتية وغرائزية. وكل هذا لا نريده ولا ينفع أحداً. بل نريد النظر لسياستكم ومواقفكم انطلاقاً من مقدماتها الأصلية ومنهجيتها التي تجعلها تفسر بعضها بعضاً. لأن هذا أكثر احتراماً لعقل أصحابها وأخلاقيتهم. وأكثر مدعاة لاحترام عقلنا عند الاتفاق أو الاختلاف معكم على السواء!
من هذا المنطلق نريد فهم موقفكم من النظام السوري, ومن ثورة الجماهير السورية عليه. ونعتبر أن تحالفكم مع هذا النظام وتثمينكم لدوره كنظام ممانعة ومقاومة ضد المشروع الأمريكي والصهيوني, ليس مجرد خديعة أو غباء تكتيكي. بل هو صدىً أمين وترجمة واعية لماهية أولويتكم وخياراتكم الأصلية. وهذا يشمل بالضرورة موقفكم من الجماهير السورية ونظرتكم لجوهر الأزمة التي حفزتها للثورة ضد النظام, بوصفها في أفضل الأحوال رزمة من المطالب الضيقة التي خرجت عن سياقها وأصبحت مطية المؤامرات الخارجية!؟
- إننا انطلاقاً من واجب الاحترام لعقلكم وعدم مس النوايا والتأويلات الباطنية. سوف نكتفي بتفنيد سياستكم انطلاقاً من جذورها ومنهجيتها الأصلية المتمثلة في أولوية المقاومة. وسوف نختبر هذه السياسة بدأً من تصنيفكم النظام السوري كمثال للوطنية والممانعة ومقاومة المشروعات الخارجية؟!
ونحن نعتقد أن هذا التصنيف ينال أقصى درجات الغباء أو الكذب السياسي إذا ما وضعناه في ميزان الحقائق الموضوعية. أي بمعزل عن نوايا حزبكم أو أهدافكم بحد ذاتها. لأن أي مراقب يتصف بالحياد والنزاهة لا يملك خلع أقل قدر من الوطنية على نظام يحتمي تحت إيديولوجية حزب قومي تقوم عقيدته على تحرير الأرض من رجس الاحتلال. ويعتبر فلسطين قضيته المركزية, ناهيك عن أرضه المحتلة في الجولان الذي كانت قيادته السياسية العسكرية على وجه الحصر موصومة بعار تسليمها للعدو الصهيوني. وفي أقل تقدير فهي مطوقةٌ بالمسؤولية الوطنية والأخلاقية أمام الأجيال المتعاقبة عن استعادة هذه الأرض بأية وسيلة, وعدم تمكين العدو من الاسترخاء أو الهناء لحظة واحدة في كنفها. خصوصاً أنها تمثل منطقة احتكاك مباشر مع العدو. ويفترض بأبسط المعايير أن تشكل فضاء مفتوحاً أمام حزب البعث قبل غيره, ناهيك عن بقية الجماهير السورية وجماهير الأمة كلها, للاشتباك مع العدو حتى النهاية. لهذا فهي تمثل فرصة البعث ومركز استقطابه لتحرير وتوحيد الأمة بأسرها تماهياً مع رايته وقيادته وشعاراته اليومية.. كل هذا في حين أنّ النظام السوري اتبع سياسة منهجية ثابته تشكل نقيضه تماماً. للحدّ الذي صح فيه قول البعض أن أمن إسرائيل يوجد حيث يوجد آخر جندي لهذا النظام. وتزامن هذا مع سياسات النظام الأخرى التي برهنت أن شعارات الممانعة والمقاومة ومناهضة المشاريع الخارجية, وأن مجمل عمليات الاستقطاب والأجندات السياسية والاستخبارية التي نفذها في الساحات والأقطار المجاورة ليست أكثر من أوراق سخرها النظام لتكريس سلطةٍ شمولية قلّ نظيرها في إشاعة الفساد والخراب ضد الشعب السوري والشعوب الأخرى. وخصوصاً طعن مناعتها الوطنية وممانعتها الحقيقية في الصميم ؟!
- حيال كل هذا لا يمكن لامرئ تكريم هذا النظام بفضيلة الوطنية, أو الركوب في مركبه ما لم يحمل هذا التكريم معنى الغباء المفرط أو الكذب السياسي!
غير أننا نقول هذا في معرض الاستنتاج النظري فقط. لأننا مازلنا ننزه حزبكم وقيادتكم عن الغباء والكذب ونعتبر موقفكم من النظام السوري مجرد فرعٍ لسياسة أصلية تخصكم. وأن ما يعيب هذا الأصل ليس الغباء أو الكذب بالضرورة, بل التشبث بشعار أولوية المقاومة العسكرية ورفعه لمستوى المرجعية والقداسة التي تجعله معياراً لكل ما عداه. في حين أنه فقد هذه المرجعية على سلم الواقع واستحقاقاته وأولوياته الحقيقية .
وقد أوضحنا أن اعتراضنا لا يتجه ضد حركة المقاومة أو حالة المقاومة بحدّ ذاتها. بل كنا وما نزال ننشد جعلها حالة شعبية عارمة تعم شعوبنا وتعبر عن أولويات نهوضها وحراكها الفعلي لكسر قيودها وتقرير مصيرها. أي جعلها بتعبير آخر فرعاً من أصل, مما يقتضي ضبط حركة المقاومة العسكرية على إيقاع هذه العملية وليس العكس, بحيث تكسب الصدقية من خلاله وتكون عوناً له، وليس عبئاً أو كابوساً عليه؟!
ومن المؤسف أن قلب هذه الأولوية رأساً على عقب يعني تحويل الجزء إلى كيان مقدس يُضحى على مذبحه بالشعوب واستحقاقاتها. وقد برهنت تجارب التاريخ, خصوصاً تجارب الأحزاب والحركات والنظم في منطقتنا, أن الأولويات الخاطئة مهما سما شأنها أو حسنت النوايا لأجلها, تشكل أقرب الطرق إلى جهنم. كما تشكل ملاذ الطغاة ووسيلتهم المثالية لابتزاز شعاراتها وقيمتها الرمزية بهدف استباحة الشعوب وتعطيل استحقاقاتها وهدر دماء مناضليها على السواء!؟
ومن المؤسف أن هذا الابتزاز لم يستثني العقائد والشعارات جميعاً, بما فيها القومية والوطنية والوحدة وفلسطين والدين والاشتراكية.. إلخ. لأن هذه الشعارات غالبا ما أصبحت محط الوصاية والابتزاز والتأطير في كيانات إيديولوجية مغلقة جعلت شعوبنا نهب الانقسام والمضاربة لصالح الأجندات وقوى الطغيان المختلفة, بعيدا عن استحقاقاتها وأولوياتها الحقيقية!
- ومن نافل القول أننا لا نبحث هذه الاستحقاقات على طريقة الشعارات الآنفة أو من نفس الزاوية التي أودت بها. بل من زاوية احتياجات الشعوب لكسر قيودها وتحقيق تطلعاتها, بدءً من أكثرها أهمية وهو حق الحرية والمواطنة والكرامة الإنسانية!
وسوف نبين أن هذه الاستحقاقات ليست ترفاً فكرياً أو مجرد مبادئ أخلاقية. بل هي جدول أعمال وقواعد صارمة لعمران المجتمعات والدول وخروجها من الهمجية إلى الحضارة. لهذا فهي تتصدر الأولويات جميعاً. وفي نفس الوقت تؤلف معيار صدقيتها ونجاعاتها حاضراً ومستقبلاً!
ونبين أيضاً أن هذه الاستحقاقات لم تنل في أي يوم ما تستحقه من الوزن والأهمية لدى كثيرين ممن أشغلوا أنفسهم بعقائد وشعارات شتى للفرار أمام هذه الاستحقاقات أو خلفها. وربما لم يبخل بعضهم الآخر في اجترار شعار الحرية والديموقراطية صباح مساء. لكنهم تنصلوا دوماً من قواعد تحقيقها المتمثلة في التغيير الديموقراطي وإقامة الدولة المدنية الحديثة!
ونبين أن الدفاع عن هذه الاستحقاقات ليس حاجة راهنة فقط. بل كان له كل ما يبرره في الماضي حيال ممانعة الأحزاب والأنظمة الشمولية على اختلافها. غير أنه أصبح الآن أكثر لزوماً من أي وقت مضى حيال طراز جديد من الممانعة التي ظهرت هذه المرة تحت عباءة المقاومة!؟
.. أما كيف حصل هذا, فهو يستلزم كشف أسبابه بلا مواربة. بمعزل عن النوايا الطيبة والفاسدة على السواء. يتبع .........
أواسط تشرين أكتوبر /2011/
ملهم الكواكبي




















خطاب مفتوح إلى السيد حسن نصر الله (حلقة ثالثة)
مقولة تناقض الداخل والخارج
السيد حسن
- لقد تعهدنا أن يكون حديثنا شفافاً ومضبوطاً في سقف القواعد التي تحترم عقل الناس. وتناقش المواقف والأولويات بناءً على أسبابها وعيوبها الحقيقية بمعزل عن أصحابها أو تأويلاتها الباطنية والتآمرية!
وأبرز ما يلفت في مفهومكم لأولوية المقاومة أنها مؤسسة على قاعدة (التناقض بين الداخل والخارج). وهذه المقولة مليئة بالالتباسات الناشئة عن ابتزاز قيم رمزية أدت لانتشارها في مجتمعنا. بل وتسخيرها للدفاع عن أعتى الأنظمة الاستبدادية بحجة الدفاع عن الهوية والخصوصية والسيادة الوطنية. بما في هذا شق صفوف الشارع العربي وطعن حراكه السياسي ومطالبته العميقة بالحرية والتغيير الديموقراطي بحجة الخروج عن الثوابت الوطنية والاستقواء الخارجي!؟
وللإنصاف فإن حزبكم لم يبتدع هذه المقولة من عنده. ولم يبدأ استخدامها قبل الآخرين. بل سبقته إليها أعتى الأنظمة الديكتاتورية في العراق وليبيا وسوريا.. إلخ. وكانت أبرز نقاط المتاجرة على الإطلاق بالنسبة للنظام السوري, حيث آل استخدامها إلى حزبكم وأصبحت جزءً لا يتجزأ من مسيرته ومن تحالفه مع هذا النظام وسواه!
وللإنصاف أيضاً فإن حزبكم اختار في الغالب وجهاً واحداً من تطبيقات التناقض مع الخارج. وهو الجانب السياسي المتمثل في مناهضة المشروع الأمريكي والصهيوني. متجنباً الوقوع في متاهة الصراعات الأخرى, الدينية والعنصرية والثقافية.. إلخ التي أغرت جماعات مسلحة أخرى للدخول في صراعات زائفة ومدمرة ضد الغرب بمجموعه, وربما ضد العالم بأسره أيضاً!؟
والواقع أن اختياركم هذا الجانب يشكل الباعث الحقيقي لالتفاف شعوبنا (ونحن جزءٌ منها) حول حزبكم. لهذا كان ينبغي قراءة هذا الجانب من زاويته الصحيحة بوصفه سبب مستقل وكاف بذاته للدفاع عن حقوق شعبنا ضد العدوان الاستعماري والصهيوني, بمعزل عن أية صراعات عنصرية أو غيبية مع الغرب وسواه. لان هذه الحقوق تستمد شرعيتها من قيم الحق والحرية والعدالة التي تخص البشرية كلها. وبهذه الصفة فهي تشرف المكافحين لأجلها وتشكل مصدر الصدقية لالتفاف الجماهير حولها, بل وكسب احترام الشعوب الأخرى أيضاً بمعزل عن ارتهانها لأية خلفية أو مقولة أخرى من نوع التناقض الداخلي الخارجي وسواه؟!
- والواقع أننا نتحفظ ضد هذه المقولة لأنها واحدة من سلسلة مقولات مماثلة شهدتها منطقتنا مثل: صراع الشرق والغرب, دارالإيمان والكفر, دار الإسلام والحرب, صراع الثقافات والحضارات, محاربة اليهود والنصارى, الحرب الدينية والصليبية.. إلخ.
ونحن لسنا بوارد مناقشة هذه المقولات من ناحية عواملها الظرفية التي أصبحت من الماضي. بل يهمنا كشف عيوبها الحاضرة والأذى الناشئ عن استخدامها على أرض الواقع.
وفي اعتقادنا أن هذه المقولات ترتد أولاً وأخيراً لطريقةٍ فاسدة في النظر للذات (أو النحن والجماعة) بوصفها مركز العالم وجوهره وحقيقته النهائية. مما يجعلها تفسر الاعتداء على الحقوق بوصفه تعبير عن جوهر شيطاني يخص الآخر أو الخارجي والغريب والمختلف.
بالتالي فهو تعبير عن نزاع أبدي بين داخل وخارج يمثل كل منهما جوهراً خالصاً بمعزل عن كافة المشكلات والانقسامات الواقعية التي تخترق الوضع البشري دون استثناء!
وإذا أخذنا مقولة (تناقض الداخل والخارج) كمثال للمقولات الأخرى. فربما لا تبدو أكثرها سوءاً بسبب ظاهرها المطلي بقليل من الحداثة, أو تسويقها تحت شعار مناهضة المشروع الأمريكي والصهيوني. غير أن الواقع سرعان ما يكشف للأسف أن هذه المقولات جميعاً تصدر من منبع واحد وتصب في قناة واحدة تقود للخراب. لأنها إذ تدعي الدفاع عن الهوية والعقيدة والوطنية والحقوق.. إلخ فإن جلّ ما تفعله هو ابتلاع هذه الأهداف جميعاً واستبقاء وجهها القبيح فقط الذي لا يسبب أي خدش لقوى العدوان ووظائفها الحقيقية. بل هو يعزل شعوبنا عن العالم وقواه الحية وراء مظهر التعصب والعدوانية والحروب الدينية. كما ينكفئ للداخل الوطني لتسويغ الطغيان وجعل مجتمعاتنا نهباً للتكفير وتخوين الآخرين الذي يقطع طريق خروجها من العبودية والانقسامات دون المدنية.. إلى فضاء الحرية والكرامة والمواطنة والدولة المدنية الحديثة!
ونحن نعلم الدور المشؤوم الذي أدته المقولات التقليدية مثل صراع الشرق والغرب, والإيمان والكفر, والمسلمين والنصارى.. إلخ في انكفائها للداخل الوطني وإشاعة التكفير الديني بحجة الشرك والعلمانية ومناصرة الصليبيين, الذي وأد محاولات النهضة الحديثة في مجتمعاتنا وسلم قيادها للطغاة!؟
والواقع أن هذه المقولات اقتفت طريق سابقاتها التي سممت مجتمعاتنا العربية والإسلامية منذ عهودها الأولى وأورثتها للطغيان تحت ذريعة الدفاع عن العقيدة وإشهار التكفير ضد الجماعات المعارضة جميعاً, خصوصاً أصحاب التفكير العقلاني آنذاك!
- ومن المؤسف أن مقولة (تناقض الداخل والخارج) لا تقل فساداً وفتكاً عن المقولات الآنفة جميعاً, برغم تسويقها تحت شعار المقاومة أو مناهضة المشروع الأمريكي وسواه. لأن هذه المقولة ترعرعت من نفس المياه الفاسدة للمقولات الأخرى التي غذت الصراعات الدينية والعنصرية ضد الآخرين.
وقد أوضحنا أن هذه الصراعات جميعاً لا تشرف شعوبنا وقضاياها على الإطلاق. لأن حقوقها المشروعة ورسالتها للعالم ليست محط نزاع بين داخل وخارج, أو شرق وغرب, أو مسلمين وغيرهم.. إلخ. بل هي محط شراكة عميقة مع أشرف ما تملكه البشرية من قيم وتطلعات ومشتركات عالمية!
ويتحصل عن هذا أن قيمة شعار المقاومة ومناهضة المشاريع الاستعمارية, لا يجوز ارتهانها لقضية فاسدة من هذا النوع. لأنها أيسر وسيلة لطعن هذا الشعار في الصميم وتسخيره لإشاعة الخراب والانقسام والتخوين الذي يطال الداخل الوطني, مؤدياً لإفشال الدولة والمجتمع وجعلهما رهينة للطغيان.
ولا شك أن أصحاب هذه اللعبة لا يبددون وقتهم في اجترار مقولة (التناقض مع الخارج) أو الاكتفاء بمظهر الشتم والردح ضد الآخر الخارجي المقيم وراء البحار. لأنهم يعلمون أن هذه المقولة زائفة من أساسها. وهي أشبه بحرب ضد أشباح التي أصبحت ممجوجة ومكشوفة لشعوبهم. لهذا فهم معنيون أولا وأخيراً بتحقيق نتائج عملية على الجانب الداخلي لهذه المقولة الذي يخص أوطانهم. أي تبطين فكرة الخارج في قالب (المؤامرات الشيطانية الكبرى) التي تشكل أوسع دائرة لتخوين الآخرين دون استثناء. وبالأحرى صرف شعوبنا عن استحقاقها وأولويتها الحقيقية لإصلاح أحوالها وتقرير مصيرها الديموقراطي؟
والواقع أن هذا التخوين, ما هو إلا وريث التكفير الديني ومقولاته وعصوره المظلمة. وفي نفس الوقت فهو وسيلة إطلاق التكفير الديني من قمقمه الذي يفتح أبواب جهنم على شعوبنا.
وسوف يتبين أن هذه الأجواء لن تقف عند حدود (الكفرة والمشركين) فقط بل ستنقلب ضد أصحاب التكفير السياسي قبل غيرهم وتضع بضاعتهم الوطنية العتيدة تحت طائلة الشرك والتكفير الديني أيضاً. وعند ئذ يتبين أن شعارات المقاومة لن تنفعهم شيئاً. بما في هذا تضحيات أتباعهم الممهورة بالدماء.
- والواقع أن حزب الله لم ينجو يوماً من عواقب هذه العملية التي كان قد بدأها بنفسه. وهاهي تداعياتها تتجمع ضده الآن في عموم الساحات العربية!
وآية ذلك أن مقاومة العدو الخارجي ليست نهاية التاريخ أو حلاً سحرياً لمجمل مشكلات العالم العربي. وليست مرجعاً تتقوم به المواقف والتطلعات جميعاً. بل هي مجرد فرع من أصل. وتأديتها على وجه صحيح تتقوم بضبطها على أولويات مجتمعنا للخروج من ربقة التوحش والعبودية إلى فضاء الحرية والمواطنة والكرامة الإنسانية. وحين يخلُّ أصحاب المقاومة بهذه الأولوية, ويصرون على تسخير الأصل لصالح الفرع, فإن عليهم مواجهة جميع النتائج الناشئة عن انفجار الصراع بين الشعوب من جهة وقوى الطغيان وحلفائهم من جهة ثانية!
وبالنسبة لحزب الله, سوف يبدو المشهد أكثر تعقيداً ومأساوية, جراء الواقع الذي يجلب خليطاً واسعاً من القوى والاتجاهات التي تقف نقيضاً له, أو التي تثور ضد النظام الاستبدادي. لأن هذه الاتجاهات تحمل أهدافاً شتّى. وإن أفضل ما فعله حزب الله هوتوفير أرضية مشتركة لتأليبها ضده جميعاً. لأن بعضها يمثل خيرة ما تحمله شعوبنا من تطلع للحرية والعدالة. وهي لن تنظر لهذا الحزب بعين الامتنان أو الغفران جراء مؤازرته ذبح الجماهير العزلاء لخروجها ضد الطغيان. وسوف تعتبر هذا الفعل جرماً سياسياً يستحق المساءلة بكافة المعايير. بينما يمثل البعض الآخر اتجاه التكفير الديني والمذهبي الذي يطال حزب الله و تهون أمامه الجرائم جميعاً. بل يبدو قصاصها أقرب للنزهة قياساً للجريمة الدينية الموجهة ضد الله وملته وعقيدته وخلافته في الأرض. وسوف يواجه حزب الله جميع الجرائم والشرور التي تملأ ترسانة الإتجاه التكفيري, بدأَمن الشرك.. والرافضية.. والباطنية.. والصفوية.. والفارسية المجوسية.. إلخ. وعموماً جميع الموبقات التي تقتلع الحزب من جذوره الوطنية وتجعله كياناً خارجياً يمثل جوهر (المؤامرة الشيطانية الكبرى) التي تهون أمامها المؤامرات الأخرى دون استثناء!؟
وعندئذ سوف يتحقق الحزب بعد فوات الأوان أنه يتجرع من نفس الكأس التي طالما سقاها الآخرين حين استسهل توزيع وصمة الخيانة والتبعية والاستقواء الخارجي دون حساب. وأن تنصيب الأولوية للتناقض مع الخارج. والتضحية على مذبحها بأبده الحقوق والمحرمات التي تخص شعبنا, لن يسلب الحزب فرصة اللحاق بقطار الشعوب فقط, بل يجعله شريكاً في اغتيال ثورتها وتسليم رقبتها لقوى أكثر تكفيراً وطغياناً. وحينئذٍ لا يلومن الحزب إلا نفسه عندما يكتشف بعد فوات الأوان أن انتصاراته الوقتية التي سخرها لصالح الطغيان لم تكن إلا وقوداً تغذي الانقسامات المدمرة في صفوف شعبه. وأنها جعلته هدفاً سهلاً للتطهير والتكفير. مجرداً من أبسط الحقوق التي طالما استهان بها وهي حق شعبه في المواطنة الكرامة المتساوية في وطنه دون تمييز.
يتبع ........
أواسط تشرين أول أكتوبر /2011/
ملهم الكواكبي




















خطاب مفتوح إلى السيد حسن نصر الله (حلقة رابعة)
قضية الحرية والكرامة
السيد حسن
- إن العواقب الآنفة تستلزم كشف الأسباب الحقيقية التي تسوقكم إليها مختارين راضيين. وهذه الأسباب في منتهى الأهمية ولا يكتمل الحديث من دونها. وهي لا تخص حزبكم فقط, بل هي أغوت كثيرين لأسطرة التناقض مع الخارج على نحو يضللهم عن أية اعتبارات وأولويات تخص شعوبهم. وغالباً ما جعلتهم حليفاً مجانيا لأعتى الطغاة لمجرد اختبائهم وراء هذا الشعار,وتسخيره لدوس شعوبهم وأوطانهم على السواء.
وبما أننا تعهدنا تجنب التأويلات الباطنية والتآمرية. لهذا سنتبع العامل الذي نعتقد أنه أكثر صدقاً ومسؤولية لتفسير موقفكم. ونعني به العامل الثقافي الذي يتمثل في الافتقار العميق لتقدير قيمة الحرية والكرامة الإنسانية كأساس لنهوض المجتمعات وتقرير مصيرها. وهذا يشمل فقر الحساسية لحركة التاريخ والأزمنة التي رفعت هذه القيمة, ورفعت متطلبات المواطنة والديمقراطية والدولة الحديثة, إلى صدارة الأعمال والأولويات دون منازع!
- والواقع أن تحقيق هذه الأولويات والنضال التنويري العنيد لأجلها, كان محجوباً على الدوام للأسف وراء ترسانة العقائد والإيديولوجيات الضخمة التي جعلها الكثيرون دروعاً لابتلاع هذه الأولويات ظناً أنها تحمل حلولاً سحرية للمشكلات جميعاً. وأنها تحقق لأحزابهم القوة والمنعة. بما في هذا قيادة المقاومة ضد العدو, وقيادة المعارضة, وقيادة السلطة, وقيادة شعوبهم على حدٍ سواء؟!
ولا شك أن هذه الأوهام تمثل مزيجاً من التحجر والسحر ينافي أبسط قواعد السياسة المدنية الحديثة. بل هي لا تخلو من الإلتياثات التي تدور حول نفسها مؤدية لإفقار الداخل الوطني ووضعه أمام خيار الاستبداد أو تعريضه للدوس والتنكيل بتهمة التآمر الخارجي. وبتعبير آخر جعله رهينةً تصحّ فيها أية صفة سوى صفته الوطنية وسيماؤه الآدمي؟!

السيد حسن
- إن هذا الاستخفاف بالداخل الوطني واتجاهاته المختلفة, ليس مجرد نزهة أو مسابقة لشعراء الزجل السوري واللبناني. وليس سجالاً حزبياً وانتخابياً في مجتمعات قوية مزدهرة. بل هو عبثٌ خطير بأركان بيتٍ يسممه الاستبداد وفقدان الثقة بين أبنائه. مما يهدده بالاقتلاع من جذوره ويجعله محطاً للعواصف الخارجية, وخصوصاً (الفوضى الخلاقة) التي طالما استهواكم التلويح بها ضد الآخرين فحسب!
وسوف يستجر هذا الاستخفاف سلسلة طويلة من العيوب والمفارقات التي لا يغفلها العدوّ ولا تشرف شعوبنا بل تحط من قدرها أمام نفسها والعالم أجمع. وهذه العيوب هي مجرد مظاهر للعيب الأصلي المتمثل في إفقار شعوبنا من قيمة الحرية والكرامة وجرها للعبودية على مذبح الطغاة وشعاراتهم وأقنعتهم دون استثناء.
وربما كان أبرز العيوب هو تغليب ثقافة الشعار الخارجي على استحقاقات الداخل. بكل ما يحمله هذا الشعار من تعطيل عقل الجمهور ومقدراته وراء مظاهر الشتم والردح ضدّ (المؤامرة الخارجية) بهدف استنزاف المجتمع وتقطيع أواصره على مذبح التخوين والانقسامات التي تطعن أسباب نهضته ومناعته الحقيقية!
والملفت أن هذا الشعار لا ينفصل عن وجهه الآخر المتمثل في إبتزاز المجتمع بأوهام النقاء والحقائق التمامية التي تجعله لا يشكو من العيب ولا تعوذه أية استحقاقات, اللهم عدا القيادة السحرية التي تأخذه من رقبته للفردوس!
- على أن تغليب الشعار الخارجي ليس آخر المطاف. بل مجرد قمقم يفتح باب جهنم لعشرات الانحرافات التي تتخطى حزب الله وتغذي طابوراً طويلاً من جماعات الطغيان والظلام!؟
وقد شهدت حقبتنا الحديثة على الأقل الكثير من هذه الجماعات التي أذاقت شعبنا الويل تحت شعارات وعناوين تشاطر الشعار الخارجي في تغليب مطلب التحرر على ثقافة الحرية ومضمونها الإيجابي. وتغليب ثقافة المظلومية (وربما ضغائنها وأساطيرها) على ثقافة العدالة. وتغليب ثقافة تغيير الظالم على ثقافة تغيير الظلم وعوامله وعلاقاته الحقيقية!؟
على أن البحث لا يتسع لتشريح هذه المغالطات وجماعاتها المختلفة. بل نحن معنيون بكشف عيبها المشترك وهو هدر قيمة الحرية والمواطنة والكرامة الإنسانية على مذبح الشعارات والعقائد كالقومية.. والعرق.. والطبقة.. والملّة.. والرسالة الخالدة.. إلخ.
ولا شك أننا لا نعيب هذه الشعارات من ناحية الحقوق التي تعبر عنها. بل نعيب ابتزازها الإيديولوجي وتنصيب كيانات تجريدية (أو عقائد) تحمل اسم هذه الحقوق وتشكل بديلاً عنها. لأن هذه الكيانات سرعان ما تحلّ محلّ الأصل وتصبح محل التجريد والقداسة التي يدور حولها الأتباع ويتخذها الطغاة قناعاً مقدساً لدوس الشعوب وحجبها عن حقها الجوهري في الحرية المواطنة والكرامة البشرية.
والملفت أن الطغيان لا يكتفي بالسطو على هذه الشعارات التي تجعله بمنأىً عن النقد والمساءلة. بل هو سرعان ما يمتدّ بالتحريم والقداسة لشعارات أخرى يتدنى شأنها أكثر فأكثر. بدءاً من شعارات الدفاع عن أمن الدولة, وأهداف الثورة, وشعار الممانعة والمقاومة.. وصولاً للدفاع عن هيبة الحزب, والزعيم الأوحد, والعائلة المقدسة, والسلطة العارية!؟
- لا شك أن السلطة الدينية (المستمدة من الوصاية على مقدس سماوي) هي أكثر الكيانات التجريدية فساداً وطغياناً. خصوصاً إذا ما استولت على شؤون الحياة والسياسة. ناهيك عن شعارات المقاومة والحرب المقدسة ضد الكفار والمشركين. لهذا ذاقت البشرية جراء هذه السلطة أعظم الويلات والحروب طيلة مئات السنين. ولم تتحرر البشرية من ربقتها مجاناً أو دفعة واحدة. بل فعلت هذه عبر كفاح طويل تخللته الآلام والتضحيات. وهذه الصعوبة ليست سوى نتيجة الاصطدام بأعرق سلطة شهدتها البشرية. ونعني قناعها الإيديولوجي الغيبيّ الذي اختبرته وطورته السلطات المتعاقبة منذ فجر القبيلة البدائية. وهذا القناع يحمل في الواقع كل مظاهر التجريد والقداسة لأنه يخاطب تطلعاً أصيلاً في قرارة البشرية للإيمان بقوةٍ غيبية سامية تعينها لمواجهة أهوال عالمها وأسرار مصيرها!
والواقع أننا لا نذكر السلطة الدينية لمجرد التحذير من عودة ظهورها في بلادنا. لأن معظم البشرية تخطتها لغير رجعة بما فيها القبائل الإفريقية. بل نحن نذكرها للتأكيد أن البشرية لم تتكبد العناء والتضحيات للتحرر من هذه السلطة عبثاً. وبالأحرى لم تقتلع الطغاة الكبار من عروشهم ووصايتهم الفاخرة على الغيب والمشيئة الإلهية, من أجل القبول بطغاة لا تتعدى قامتهم فوهة الدبابة التي حملتهم للسلطة أو قناع الوصاية الزائفة على شؤونٍ دنيوية كالعرق والأمة والطبقة وسواها!؟
- وقد ذكرنا أن هذه الشؤون الأخيرة تمثل حقوقاً وتطلعات واقعية. غير أن الطغاة لا يتوانون عن اقتلاعها من أصلها البشري وتنصيب كيانات تجريدية تحل محلها وتصبح قناعاً للتسلط الذي يدوس الحقوق دون استثناء!
وسوف يتبين أن الأنظمة الديكتاتورية تماثل السلطة الدينية التقليدية في إحالة الشأن البشري إلى كيانٍ تجريدي. لأن هذا التقليد يستمد جذوره من أصولٍ بدائيةٍ سحرية لحجب البشر عن أنفسهم وعالمهم, ومنع تحقيق قواعد سليمة لصون حقوقهم واجتماعهم البشري.
وربما لهذا السبب يصحّ وصف هذه الأنظمة بالصفة الدينية رغم مظاهر حداثتها أو علمانيتها الكاذبة. خصوصاً أنها أثبتت كفاءتها لمنافسة أعتى السلطات الدينية فساداً طغياناً. بل أذاقت شعوبها قدراً من العسف والإذلال لم تشهده عين أو تسمعه أذن من قبل.
والواقع أن عسف الديكتاتوريات الحديثة وفسادها. يوازي حاجتها للتعويض عن بؤس شعارها التجريديّ الأرضيّ قياساً لفخامة التجريد الديني واتساع بركاته التي تغطي السماوات والأرض معاً. لهذا فإن هذه الديكتاتوريات تظل مسكونةً بشبح غريمها الديني وخشية ظهوره في أية لحظة. لأنها تنازعه نفس التجريد ومناطق النفوذ على الأرض. وفي نفس الوقت تجد نفسها مدفوعة بوزر موبقاتها للمضي حتى نهاية الطريق. لهذا نشهد سعيها المحموم للتوغل أكثر فأكثر في حقن شعاراتها بمزيد من التجريد والقداسة الكاذبة التي تنأى عن حقائق الواقع والبشر الحقيقيين. خصوصاً شعارها الوطني الذي يصبح محطّاً للابتزاز اللفظي والمضي للنهاية في التنكيل بالمجتمع ونزع صفته الوطنية وسوقه للخراب!؟
وهكذا يتبين أن مفتاح هذه العواقب جميعاً يكمن في أصل مقدماتها المتمثل في إحالة الحقوق الوطنية والقومية والاجتماعية.. إلخ إلى عقائد مغلقة للوصاية على الشعوب وحجبها عن أصل الحقوق جميعاً المتمثل في الحرية والمواطنة والكرامة الإنسانية.
- وفي حين أن منظومات الطغيان الديني لا تجد كبير صعوبة في تكفير دعوات الحرية والديموقراطية وحكم الأمة لنفسها.. إلخ, انطلاقاً من احتمائها بحاكمية الله التي تعلو على الجميع. خصوصاً أن هذه الذريعة تحمل مبرراً ظرفياً لاعتقاد الأنظمة التقليدية أن شعوبها لم تنضج بعد لمثل هذه الدعوات الحديثة التي تستقل بها عن السماء. وإنها بالتالي لا تقترف إثماً أو اعتداءاً على شعوبها أو التاريخ!
خلاف هذا فإن تصدي الديكتاتوريات الحديثة لهذه الدعوات لا يتصف بنفس التبسيط. ومردُّ هذا إحساسها الضمني بفقدان البراءة حيال ما تفعله من اعتداء على شعوبها والتاريخ معاً. خصوصاً أن الاحتجاج ضدها يصدر من نفس الأرض أو المجال الدنيوي الذي اختطفتهُ وحسبت أنه أصبح عاقراً من الحرية. بل إن الاحتجاج يصدر من نفس الأجيال التي ترعرعت في كنفها وتحت شعاراتها. وهذا ما يفسر ردة فعلها الأكثر بطشاً وعصابية تجاه شعارات الحرية والكرامة التي يطلقها المتظاهرون. وهذا في الحقيقة أوفى تعبير لعمق الفجوة التي تفصل شعاراتها وثقافتها عن قضية الحرية والمواطنة والكرامة الإنسانية. وهذا ما عبر عنه مطرب الثورة السورية سميح شقير في أغنية "يا حيف" بقوله إن الطغاة تهتز أركانهم وتجعلهم كالملسوعين لمجرد سماعهم كلمة حرية وكرامة على لسان الأطفال السوريين!
يتبع ..........
ملهم الكواكبي
أواسط تشرين الأول أكتوبر /2011/





















خطاب مفتوح إلى السيد حسن نصر الله (حلقة خامسة)
خلاصة القول
السيد حسن
- يتبقى القول إن معاداة الحرية ليست سياسة أنظمة فقط. بل هي منظومات سياسية وثقافية وربما أخلاقية, تضم أحزاباً وقادة وإعلاميين تتباين اتجاهاتهم من أقصى اليمين لأقصى اليسار. ومن بينهم مقاومون أو أنصار مقاومة, ومعارضون أو مدعوّ معارضة. وخير دليل على هذا مواقف التطبيل والتزمير التي ألف هؤلاء اتباعها لصالح الأنظمة الديكتاتورية المتعاقبة. ناهيك عن أجنداتهم الخاصة لإنتاج دكتاتوريات خاصة بهم أيضا
على أننا لا نقيم هؤلاء من زاوية الصدق والكذب في ما يفعلون أو لا يفعلون. ولا ننفي الفروق الأخلاقية بينهم. بل نقيم عملهم من زاوية الخطأ والصواب الذي يعود بالضرر أو النفع على شعوبهم وأولوياتها الحقيقية.
وقد قلنا أن أبرز هذه الأولويات يتمثل في خروج شعوبنا من نفق العبودية وإصلاح بيتها الوطني على قواعد الحرية والمواطنة والكرامة الإنسانية.
ومن المؤسف أن مساحة الذين تصيبهم هذه الكلمات بالسعار ضد شعوبنا وثوراتها, هم أكثر اتساعاً من دائرة النظام الديكتاتوري وشبيحته وأجهزته القمعية جميعاً؟!
وحتى مع افتراض فارق أخلاقي بين هؤلاء. فهو لا يشكل للأسف فارقاً حقيقياً في تقدير النتائج النهائية التي تنفع شعوبنا. لأن هذه النتائج ترتهن أولاً وأخيراً بصواب المواقف والأولويات التي تكون عوناً للشعوب ضد طغاتها.. وليس العكس!
ومن جهتنا سوف نفترض الفارق الأخلاقي بين أشخاص مثل: أنيس النقاش ونجاح واكيم ووئام وهاب وناصر قنديل وميخائيل عوض وعمرو ناصف وفيصل عبد الساتر وغيرهم. ونفترضه أيضاً بين قادة مثل: حسن نصر الله وخالد مشعل وأحمد جبريل وماهر الطاهر ورمضان شلّح.. إلخ. وهؤلاء لا ينفون هذا الفارق بل يشده كل منهم لصالحه مدعياً اختلاف أسبابه عن الآخرين في مناصرة الطغاة. وأيا كان الأمر فإن هذا الفارق لا يشرف أصحابه. لأنه لا يتعدى أمرين يمثل أحدهما ملهاةً تجمع الأخيار والسفلة في بوتقة واحدة. ويمثل الثاني مأساة تقود الأخيار إلى جهنم؟!
- ونحن لا نقول هذا عبثاً. لأن مآثر التاريخ لا تصنعها النوايا الطيبة بل المواقف الصائبة والأولويات والوسائل الصحيحة. بينما تمتلئ مقابر التاريخ بحطام الحركات والتجارب التي أضلت هذه القواعد ومضت بعيداً عن اتجاهات التاريخ ومتغيراته الحقيقية!
ويخطئ جداً من يظن أننا نعني بهذه المتغيرات الحوادث والمظاهر الوقتية التي تطفو على السطح. بل إن جلّ غايتنا تجنيب المبادئ الوطنية والأخلاقية هذا المطب. لأنه طالما أغرى كثيرين للتفريط بها وتغيير جلودهم وعقائدهم عند كل انعطافةٍ وحادثة زائلة!
والملفت أن هؤلاء يقابلهم فريق آخر ممن يحتجز الوطنية والأخلاق معاً في قوالب ثابتة نهائية والضرب بسيفها خدمة لجموده الإيديولوجي ومآربه التسلطية على السواء!
.. خلاف هؤلاء جميعاً فنحن نتحدث عن اتجاهات التاريخ ومتغيراته الكبرى التي تتفاعل تحت السطح, وتعبر عن نبض البشرية وتطلع أجيالها لتحرير المبادئ من قيود الطغيان وجعلها أكثر استجابة لحقائق الحياة .
بهذا المعنى نجزم أن هذه المتغيرات والعمل على إيقاعها يشكل معياراً لصدقية المبادئ الأخلاقية والوطنية وتطورها. لأن البشرية ليست كائناً ثابتاً نهائياً ولد مرة واحدة وللأبد. بل هي مخلوق حي مفتوح للنمو والحرية والتطور التاريخي الذي يطال احتياجاته وجوانب حياته جميعاً, بما فيها تطوير قوالبه السياسية والأخلاقية, إن لم يكن تغييرها أيضاً!
ويتحصل عن هذا أن فكرة الوطن والوطنية, لم تعد محصورة في مفهوم القبيلة البدائية عن نفسها وعالمها. ولم تعد بالأحرى مفهوماً للغطرسة والسيادة على الحجر والشجر. ناهيك عن حزبٍ ونشيدٍ وشعارات زائفة ومزرعةٍ للطغاة. بل هي أصبحت بشراً وحقوقاً ودولةً مدنيةً تخص أبناءها جميعاً وتصون أولاً بأول حقهم في الحرية والمواطنة والكرامة الإنسانية!
والملفت أن هذا المتغير التاريخي لا يقف عند حدود الشعار الوطني والدولة التي تحمل اسم (الدولة الوطنية). بل هو يمتد لمجمل المنظومات الأخرى التي خلعت اسمها على الدولة وجعلتها نظاماً شمولياً, كالدولة القومية والدولة الاشتراكية, ناهيك عن الدولة الدينية. لهذا شهدت عشرات السنين الأخيرة فقط سلسلة الانهيارات المدوية التي اكتسحت هذه المنظومات جميعاً. بدءاً من دولة هتلر المسماة وطنية, مروراً بدولة الاتحاد السوفييتي المسماة اشتراكية, وصولاً لدولة صدام حسين المسماة قومية. ودون أن نغفل بطبيعة الحال الانهيارات الأسبق التي اكتسحت الإمبراطوريات والسلطنات المسماة دينية, والحبل على الجرار ولن يستثني دولة ولاية الفقيه أيضاً.
- على أن الأكثر مفارقة هو موقف الغباء أو التغابي الذي أظهرته أحزابنا الحديثة تجاه هذه المتغيرات. برغم أنها عمت القارات الخمس, وكانت رسالتها أكثر من واضحة لجهة تخطي البشرية مرحلة الطفولة السياسية والحكم الأبوي إلى فضاء الحرية والمواطنة والدولة المدنية الحديثة!
ولئن كان ثمة ما يبرر استمرار هذا التغابي حتى شهور قليلة فقط. بحجة أن مجتمعاتنا بدت أكثر قدرية وخنوعاً للسلطة الأبوية. وأكثر ممانعة واستعصاء ضد رياح التغيير والحداثة والديمقراطية.. إلخ. فإن هذه الذرائع (وهي تتنافى أصلاً مع مسؤولية الطلائع تجاه شعوبها) تصبح أكثر مدعاة للشك والارتياب في حقيقة إصرار قلّة متبقية من هذه الجماعات (خصوصاً حزبكم وأمثاله) على صمّ الأذن والبصيرة تجاه ثورة الحرية والكرامة التي انطلقت من وسط الشوارع العربية ومن تحت أنوفكم ونوافذ بيوتكم!؟
....حيال هذا يحق لنا الجزم أن حزبكم بلغ مفترق طرق أخير لمواجهة استحقاق التاريخ والتحدي الأخلاقي معاَ. وإن الوقت المتبقي لتقريرموقفه من هذا الاستحقاق المزدوج آخذٌ بالنفاذ إلى غير رجعة مع تسارع شلال الدم لأشرف قضيةٍ شهدتها شعوبنا على الإطلاق!
ونعتقد مخلصين أن أسلم وسيلة لتحاشي عاقبة وخيمة لانتمناها لكم إطلاقا هو مسارعتكم لعقد مؤتمر علني عموميّ دون تأخير يتضمن إعلان انحيازكم الصريح لثورة الحرية والكرامة, وفض ارتباطكم النهائي بنظام الفساد والخراب والديكتاتورية.

ملهم الكواكبي


أواسط تشرين الأول/أكتوبر 2011

(105)    هل أعجبتك المقالة (97)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي