دراسة قانونية
الثورات العربية والقانون الدولي
د. عبدالله السلمو
رئيس المركز العربي الأوربي لحقوق الإنسان والقانون الدولي
أستاذ في القانون الدولي في الأكاديمية العربية في الدنمارك
مستشار قانوني
يتعرض العالم العربي بشكل خاص إلى موجة نادرة من الأحداث تنحصر في المنطقة العربية ولا تكاد تتعداها,
أحداث بدأت بحرق شاب لنفسه في تونس وبعدها خرج الناس تعاطفا معه في ذلك البلد وسرعان ما خرجت شعوب الدولة المجاورة وهي مصر فخيل لنا أنها ربما تقتصر على الجوار ولكن سرعان ما وصلت إلى اليمن , عمان , البحرين, ليبيا , سوريا فتأكد لنا أنها ظاهرة عربية بامتياز.
جميع الشعوب في العالم المتمدن سارعت على الفور لمنح تلك الظاهرة الفريدة اسم الثورة العربية لاعتقادهم أنها حركة شعب ضد طغيان جلاديه الذين كانوا امتداد فعلي للاستعمار الذي سيطر على العالم العربي ردحا من الزمان وتركه بإرث رهيب وهو مجموعة من الحكومات الفاسدة والمعينة من قبله.
لم يكن هناك الوقت الكاف لدى تلك الأنظمة العربية المتآكلة كي تجند قانونيين كي يعطوا تكييف قانوني لهذه الظاهرة الفريدة التي تجتاحهم وتهدد بنيانهم والتي كانت برأيهم أنها مجرد مؤامرة حكيت في الخفاء بين فئة ضالة من شعوبهم ومع حكومات أخرى دون أن تقوم بتسميتها .. فسارع بن علي المخلوع للتكلم عن مؤامرة خارجية ضد بلده وضد الإصلاحات التي قام بها في مدى عقدين وردح من الزمن وهرع مبارك إلى اتهام أطراف خارجية مضطلعة بما يحدث في البلد أما ألقذافي فكان تكييف الحبوب الهلوسة التي استوردت من الإرهابيين خير تكييف لما يحدث في بنغازي والمدن الثائرة .
ما يهمنا من كل هذا الحديث والذي يعتبر مربط الفرس بالنسبة لنا هو : ما هو تكييف هذه الظاهرة التي تجتاح الدول العربية / هل هي حالة هلوسة تعم الشعوب العربية نتيجة حبوب استوردت من الغرب ؟ ام هي حالة مؤامرة حكيت على الأنظمة العربية نتيجة تؤاطى الشعوب العربية مع حكام الغرب للتخلص من حكام العرب ؟ ام هي بالأساس أطراف خارجية وجدت في تلك الدول من اجل زعزعة الأمن والاستقرار وهذه الفرضية محببة لدى اغلب وسائل الإعلام العربية الرسمية؟ إذن ما هو التكييف القانوني لهذه الظاهرة
أعزائي القراء :
ان الثورة كتعريف هي “العلم الذي يوضع في الممارسة والتطبيق, من أجل تغيير المجتمع تغييرا جذريا وشاملا, والانتقال به من مرحلة تطورية معينة إلى أخرى أكثر تقدما, الأمر الذي يتيح للقوى الاجتماعية المتقدمة في هذا المجتمع أن تأخذ بيدها مقاليد الأمور, فتصنع الحياة الأكثر ملاءمة و تمكيناً لسعادة الإنسان ورفاهيته, محققة بذلك خطوة على درب التقدم الإنساني نحو مثله العليا التي ستظل دائما وأبدا زاخرة بالجديد الذي يغير التقدم و يستعصي على النفاد و التحقيق”
ان ما يحث في العالم العربي من أحداث هي ثورة شعبية بالطراز الأول وبامتياز وهذه الثورة سيكون من نتائجها تغيير مسار التاريخ والمجتمع الدولي وهذه الثورة إنما هي ولدت في بلد عربي وانتقلت إلى بلد أخر لتكمل نموها ثم انتقلت إلى ثالث ورابع إلى اليوم الذي تكون فيه ثورة كاملة بكل معنى الكلمة أي لتصبح ثورة العصر.
واذا سأل سائل ما هو المستند أو الأساس القانوني الذي بنيت عليه على التكييف على أنها ثورة فأن الإجابة تكون على النحو التالي:
أولا : شرط النسبة
ان الثورة كي تكون كذلك يجب ان تكون ذات طابع شعبي أي يجب ان يخرج ما لا يقل عن 5 بالمئة من الشعب للمطالبة بالتغيير وهذا الشرط قد تحقق بشكل واضح وجلي
ثانيا : الهدف
دائما يكون الهدف من الثورات ليس فقط تغيير نظام الحكم وإنما تغيير النظام الاجتماعي والسياسي وبنية المجتمع ككل وهذا ما نراه في الثورات العربية فهي لا تطالب بإسقاط الأنظمة وحسب وإنما تغيير بنية المجتمع ككل ونجاح حركة النهضة في تونس خير مثال على ذلك.
ثالثا : ندرة الحدوث
فعادة تكون الثورات قليلة الحدوث في المجتمعات وهي تكون الطريق الأخير والوحيد في الإصلاح وعندما تقوم فأنها تؤدي إلى تغيير تركيبة الدولة وتكون نتائجها ايجابية ففي فرنسا حدثت مرة واحدة في عام 1789 وليومنا هذا لم تحدث ثورة شعبية فرنسية غيرت مسار تاريخ فرنسا كتلك الثورة وما يحدث بعد الثورة الشعبية إنما هو تصحيح للثورة إذا انحرفت عن أهدافها فيما بعد.
رابعا : الضحايا :
ففي الثورات دائما يكون هناك ضحايا وغالبا ما لا تحقق الثورات البيضاء النتائج المرجوة منها وما شاهدناه وما نشاهده في العالم العربي انه كان هناك شهداء وضحايا في جميع الثورات العربية.
ولا يمكن اعتبار ان ما يحدث هو انقلاب للاستيلاء على السلطة لإن طبيعة الانقلاب ، مختلفة عن طبيعة الثورة، والانتفاضات الشعبية، فهو ليس هجمة من خارج النظام بقدر ما هو استيلاء على السلطة من الداخل، وهو يكاد يكون حيادياً سياسياً إذا صح القول من حيث إن هدفه هو إبدال فريق حاكم بفريق آخر، تاركاً تقرير اتجاهات السياسة إلى الحكم الذي يعقبه؛ وهو يفترق عن الثورة من حيث أداته وطريقة تنفيذه فهو لا يعتمد على مجابهة الخصم مجابهة شاملة أو التغلب عليه جملة وتفصيلاً بتفوق كاسح للقوة، وإنما يتكون من تسرب قطاع صغير من جهاز الدولة، عسكرياً كان أو خليطاً من عسكري ومدني، إلى حيث يستطيع بفعاليته انتزاع سيطرة الحكومة القائمة على بقية القطاعات. كما تمتاز الثورة من الانقلاب بأن لها هدفاً أعمّ هو تغيير البنية الاجتماعية والسياسية للبلاد لا تغيير الفئة الحاكمة فحسب. وقد يكون الانقلاب ممهداً لإحداث الثورة، وقد يكون من الانقلابات ما هو في الأصل ثوري، لكنّ الثورة تعتمد على الجماهير الشعبية لا على نفر صغير من مدبري انقلاب ما. ولهذا فقد تأخذ عملية تغيير البنية أي الثورة وقتاً طويلاً. وقد ترهق إبانها دماء غزيرة، وتتقلب في مراحل متعددة من الانتصارات والنكسات، فليس فيها آنيّة الانقلاب، وحتمية نتائجه في ساعات عدة، مع تحاشي سفك الكثير من الدماء.
أما بالنسبة للحق بالثورة فهو حق مقدس وحق دستوري وهو ينبع من حق الدفاع المشروع التي فيها تنتفي المسؤولية الجزائية وهذا الحق في طليعة الحقوق الطبيعية للإنسان والشعوب المستعبدة التي أقرتها معظم تشريعات العالم المتمدن , بعد نضال طويل مرير توّج بإقرار هذه الحقوق التي يبقى تطبيقها وانتزاع الاعتراف بها رهناً بعدالة أهداف الثورة وصدق شعاراتها وصحة طريقها.
في الإسلام :
إن ظهور الإسلام في الجزيرة العربية هو ثورة محضة . وان المتدبر للقرآن الكريم يجد انه استخدم للدالة على التغيير الثوري مصطلح “الانتصار“. و عليه فأن الثورة تأتي بانتقام للمظلومين من الظالم على تفاوت درجات الانتقام ومواطنه وكذلك “النصر” والانتصار. فالنصر يعني إعانة المظلوم, والانتصار يعني الانتصاف من الظلم و أهله و الانتقام منهم. والقرآن يذكر الانتصار بهذا المعنى كفعل يأتيه “الأنصار” ضد البغي في سورة الشورى 37-43: ” والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم” .
اما اذا دخلنا الى عالم الفقه الفقه والتشريع الدولي لنرى المستند القانوني الذي يرتكز عليه حق الثورة :
فيرى فقهاء الحقوق الجزائية أن – حق الثورة – يستند إلى : / حق الدفاع المشروع / الذي أجمعت التشريعات الجزائية على أنه أحد أهم موانع العقاب سواء كان في المجال الفردي ,, أوفي المجال الجماعي أي الثورة لدرء العدوان على الوطن والمجتمع , وإلى هذا ذهب الفقيه الفرنسي " سوميير" بقوله : ( إن حق المقاومة يعتمد على حق الدفاع المشروع - مبادئ القانون الأساسية ص 125)
كما قال الفقيه ( هوريو ) إن حق الثورة – أو الانتفاضة ما هو إلا امتداد لحق الحرية الذي يخول المواطنين حق الدفاع المشروع ** وإلى هذا ذهب أستاذ القانون الدولي محمد طه بدوي بقوله في كتابه – حق مقاومة الحكومات الجائرة – ( يكفي لاعتبار النظام جائراً, أن تجزع الجماعة – أي الشعب – من المبادئ التي يقوم عليها النظام والممارسة ضد حريات الناس وعدم معرفة مصيرهم على يد عصبة لم ينتخبها ..)
كما أكد الفيلسوف البريطاني لوك صاحب نظرية حق الثورة ما يلي :
( إن الشعب في حالة خيانة حكامه للأمانة التي عهد بها إليهم , سواء كانوا مشرّعين أو منفذين يملك حق الثورة عليهم .. إنني أحب السلم , ولكن لا أريد سلماً بأي ثمن ,, سلماً يفرضه الأقوياء على الضعفاء , يفرضه الغاصبون على الشعوب ,, سلماً يكون كالسلم المزعوم بين الذئاب والخراف – لوك – محاولة في الحكومة المدنية ص 135 ). وحق الثورة هو مجرد حق تقرير المصير ويعتبر هذا المبدأ من المبادئ الأساسية للقانون الدولي وذلك تماشيا مع ميثاق الأمم المتحدة ، واضعا البداية الأولى والمهمة في نشأة القانون الدولي المعاصر والنظام العالمي بشكل عام. اما بالنسبة لأسباب الثورة العربية : فأنه بالامكان اجمال اسباب هذه الثورة الى عوامل عدة والتي ربما قد تختلف بشكل بسيط من بلد عربي لأخر الا أنها في المضمون متحدة :
الأسباب السياسية :
فالإجراءات الصورية التي تقوم بها تلك الحكومات المهترئة لتجميل صورتها لم تكن ذات نفع وهناك اسباب سياسية خارجية وداخلية
الأسباب السياسية الخارجية :
تتمثل في المواقف السياسية التي اتخذتها الأنظمة العربية سواء علي الصعيد الدولي او الصعيد الإقليمي، والتي أنحازت تماما لمواقف الولايات المتحدة الأمريكية والغرب ضد العرب والمسلمين وأهم ذلك الموقف من الأحداث الكبيرة والجرائم التي أرتكبت في يوغسلافيا السابقة دون التحرك لوقف هذه الجرائم أو علي الأقل الحد منها، وأيضا الموقف من حرب أفغانستان والجرائم التي أرتكبتها قوات التحالف بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية ضد الشعب الأفغاني المسلم، وهناك أيضا الموقف من الحصار علي ليبيا والوقوف مع الغرب ضد ليبيا في أزمة لوكيربي، والموقف من تقسيم السودان، والموقف من حرب الخليج الثالثة عام 2003م واحتلال العراق من تحالف غربي بعد حصار دام أكثر من عقد من الزمن شارك فيه اغلب الأنظمة، أغلب هذه المواقف يشكل جريمة دولية واردة في المادة الخامسة من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية والمواد السادسة والسابعة والثامنة من هذا النظام الأساسي، يجب محاكمة النظام عليها.
الأسباب السياسية الداخلية:
من أهم هذه العوامل توحش الأمن وعسكرة النظام وخاصة عن طريق الأمن وخاصة من مباحث أمن الدولة التي فتح لها الطريق بدون عوائق للتوحش والإنفلات من القانون ومن الأخلاق، ومن خلال هذا الجهاز أرتكبت جرائم جنائية يعاقب عليها القانون الدولي وقانون العقوبات المحلي في تلك الدول العربية
وهناك تفشي الفساد والرشوة والواسطة في تولي الوظائف العامة والانتقائية في تولي الوظائف ، مما أدي إلي زيادة البطالة في صفوف الشباب، وهناك أيضا تزوير الانتخابات سواء في المحليات أو في البرلمان وكذلك أيضا تزوير انتخابات رئاسة الجمهورية التي أدت إلي أزدياد الغضب علي النظام، ودفع الأمور إلي الغليان والثورة، وهذه الأفعال تشكل جرائم فساد طبقا لاتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد والاتفاقية العربية لمكافحة الفساد والاتفاقية الإفريقية لمكافحة الفساد.
- الأسباب الاقتصادية:
تمثلت في زيادة عدد الفقراء وانخفاض مستوي المعيشة وغلاء الأسعار مع ثبات المرتبات، وتحكم زمرة من رجال الأعمال مقربين من عائلة الحاكم, كالطرابلسي ومبارك, فضلا عن زيادة الضرائب علي الشعب وخفضها أو أعفاء رجال الأعمال المقربين ، وبروز رجال أعمال عبارة عن سماسرة لبضائع أجنبية ليست ضرورية، وتحكم هذه الفئة في مواد أساسية مثل الحديد واحتكار السلع المهمة، ومما آثار غضب الشعوب العربية علي الانظمة العربية السرقات التي طالت المال العام وخاصة في الإستيلاء علي أموال البنوك وهروب عدد كبير بها، فضلا عن الخصخصة التي طالت مصانع مهمة ورئيسة لأي تنمية اقتصادية حقيقية، واستبدال المصانع الوطنية بالإستيراد من الخارج.
- الأسباب الثقافية والاجتماعية: تتمثل هذه الأسباب في فتح المجال لمجموعة من المتغربين في مهاجمة الثقافة الوطنية التي يعتبر الإسلام عمودها الفقري، وتهجم هذه الفئة علي الإسلام، وفتح كافة وسائل الإعلام لهذه الفئة علي أوسع أبوابها بل ومنحها العديد من الجوائز مما أدي إلي استفزاز الشعب وآثارة غضبه، وقد طال الفساد أيضا الجامعات وخاصة في النتائج التي تمنح أعلي التقديرات لأبناء المحاسيب والمعارف دون وجه حق، وتعج الجامعات العربية بالعديد من الأمثلة علي ذلك.
تلك تلخيص لأهم الأسباب التي أدت إلي اشتعال الثورة وهناك أسباب أدت إلي زيادة الأشتعال بعد قيام الثورة، تمثلت في معالجة النظام للأزمة حيث كانت المعالجة أمنية بالدرجة الأولي، واتجهت لقمع المظاهرات والمتظاهرين بشدة، وقد اعتقدت تلك الأنظمة في بداية الأزمة أن المظاهرات لن تستمر سوي ساعات وإذ بالأمر يستمر بل ويتطور بسرعة نحو الثورة في معظم أرجاء البلد، مما أصاب تلك الأنظمة بالارتباك والإسراف في التعامل الأمني مع المتظاهرين، حتي قتل المتظاهرين بالرصاص الحي مباشرة، وتم أستخدام عربات مصفحة تستخدم من قبل العدو الصهيوني في فلسطين المحتلة ضد الفلسطينين، وكذلك قنابل الغاز والرصاص المطاطي واو حتى أسلحة محرمة دوليا.
في النهاية نري أن ما يتمسك به المتظاهرون والقائمون بالثورة التي نجحت في بعض الدول العربية او التي مازلت في طور مقارعة أنظمة الفساد والقمع فأنها تستند إلي الدستور والقانون، وأنها قامت علي الشرعية الدستورية، ونري وجوب محاكمة القتلة الذين أراقوا دماء الشباب والمتطلعين للحرية، ونري محاكمة كل عناصر الأنظمة السابقة والتي ا في طريقها إلى الزوال وإفراد آسرهم ، طبقا للنظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية المواد من الخامسة إلي الثامنة، وطبقا لاتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد والاتفاقية العربية لمكافحة الفساد والاتفاقية الإفريقية لمكافحة الفساد وأن يقدموا تنازلا عن كافة أموالهم العينية والنقدية الموجود على ارضي الوطن العربي او خارجه.
فأن هذه الثورات ان شاء الله هي الطريق لتوحيد الأمة واسترداد عافيتها وطاقاتها المهدورة.
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية