أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

الثورة وأزمة القيم .. الفريدو مولينا

الثورة وأزمة القيم
لا يتوجب على المفكر أو المثقف أن ينزلق وراء الجموح الجماهيري بشكل أعمى دون تبصر ما وراء الأحداث وقراءتها قراءة متعمقة دقيقة تحلل أسبابها وتستشرف نتائجها، ولولا ذلك لكان الجميع يؤدي نفس الوظيفة وهو ما يخالف طبائع الأشياء ويخالف المبادئ الأساسية التي قامت عليها المجتمعات البشرية عبر التاريخ.
نقول هذه الكلمات اليوم لأن الأحداث المتسارعة في سوريا جعلتنا نلهث وبشكل يومي وراء مئات إن لم نقل آلاف الأخبار والتحليلات والتعليقات والمواقف التي لا تزال تكشف يوماً بعد يوم عن العديد من الأزمات الفكرية والثقافية والأخلاقية العميقة داخل المجتمع السوري وكذلك بين السوريين خارج حدود الوطن. وإن كنا اليوم نرى بأن هذا الحراك الشعبي الجارف في المنطقة العربية عموماً هو صيرورة تاريخية لا مفك منها، فإن علينا كمثقفين ومفكرين أن نفهم بواطن الأمور كما نرى ظاهرها وأن نبدأ بالفعل بدلاً من الجري وراء ردود الفعل.
من يزعم أن الديكتاتورية ولدت فقط مع مجيء حزب البعث أو حسني مبارك أو القذافي إلى السلطة يكون مجافياً تماماً للحقيقة. فالعرب يعيشون الديكتاتورية منذ ما يزيد على خمسة عشر قرناً، وحكامهم يتوارثون الحكم ويستخفون بشعوبهم ويقمعون تطلعاتهم للحرية دون حسيب ورقيب، وطال القمع المفكرين والفقهاء والشعراء ولم يستثن أحداً، وما عاشته الشعوب العربية بعد الاستقلال كان امتداداً لمئات السنين المذكورة ولأربعمائة عام عثمانية مظلمة أحرقت الأخضر واليابس، وهذا بطبيعة الحال ليس تبريراً لما قام به الحكام العرب ما بعد الاستقلال وهم الذين جاؤوا لتحرير الشعوب وبناء الأوطان كما ادعوا، وإذا بهم يتركونها خفراً يباباً ينهبها أعداؤها ويحكمها غوغاؤها.
وتكمن الإشكالية الأبرز بعدم بروز أية مشاريع وطنية ولو حتى على مستوى الفكر {إلا في حدود ضيقة ومحاولات خجولة} على مدى ما يزيد عن ستين عاماً بعد استقلال البلاد العربية، وإذا كان الحديث سيتم عن سوريا تحديداً، فإن بعض بوادر التنمية السياسية والاجتماعية كانت قد بدأت في مرحلة مبكرة ما قبل الاستقلال وبعده بقليل إلا أنه تم وأدها مع أول انقلاب عسكري في تاريخ المنطقة العربية الحديث وليكون لسوريا – مع الأسف- السبق في ذلك بحيث صار الأمر نموذجاً سار عليه الكثيرون فيما بعد ولا زلنا نعاني آثار ذلك حتى اليوم.
ولد البعثيون في سوريا وعاشوا وتربوا فيها كغيرهم، ولئن كان البعثيون الأوائل أصحاب مدرسة فكرية متجددة أخذت موقعها ضمن تيارات الفكر العربي المختلفة، إلا أن أتباعهم فيما بعد دفعوا الناس للكفر بكل ما يمت للبعث بصلة، وتم إفراغ المبادئ والأفكار الأساسية من محتواها وباتت جسراً عبر منه كل الانتهازيين واللصوص والفاسدين تحت مسميات وشعارات لا أول لها ولا آخر، وهكذا ركب المسؤولون والعسكريون السيارات الفارهة بدعوى تخصيصهم بموازنة كبيرة "للدفاع عن الوطن ضد الصهيونية والامبريالية" بينما تم التضييق على الشعب الذي أصبح منتهى حلمه قطعة من لحم فاسد أو نصف كيلو من السكر من شهر لآخر تحت شعار "لا حياة في هذا القطر إلا للتقدم والاشتراكية"، ويبدو أنهم طبقوا الشطر الأول "لا حياة" وأسقطوا الباقي من كل الحسابات.
ومن يدعي أن المشكلة محصورة في البعثيين فقط ينسى فصولاً طويلة من التاريخ. فالتجار ورجال الدين أسهموا بشكل فعال في تدجين الشعوب وغسل دماغها فكرياً وامتصاص جيوبها اقتصادياً. ولا يمكن لأحد أن ينكر الدعم الذي تلقاه النظام من هاتين الطبقتين وخاصة بعد عام 1970 عبر شرعنة وجود النظام ناهيك عن دعمه مادياً، وهي صفقة تاريخية مشبوهة أجلت الحراك الشعبي السوري أربعين عاماً عانى فيها الكثير والكثير. ولكن الأمر نفسه ينطبق على هاتين الفئتين، فهما من هذا الشعب وهما كما البعثيين لم يهبطوا علينا من المريخ، وعلى هذا الكلام أن لا يتم فهمه في سياق التجريح بالشعب السوري الذي أفخر بالانتماء إليه، ولكن وكما قلنا في بداية المقال، فإن عين وعقل المفكر يجب أن تسبر أغوار المسائل لا أن تبقى سطحية، والدراسة المجتمعية الدقيقة مهمة جداً لفهم الظواهر الاجتماعية والثقافية المختلفة في أي مجتمع، ولهذا علينا أن لا نتعامى عن حقيقة وجود قيم سائدة في المجتمع تميل إلى الفساد والفوضى والعبثية والعصبية، وأفراد النظام هم من هذا الشعب لا من غيره وما مارسوه لم يكن بعيداً جداً عن ثقافة العنف السائدة أساساً في المجتمعات العربية عموماً والمجتمع السوري خصوصاً. وأود التكرار هنا أن هذا كله ليس تبريراً للنظام ولا دفاعاً عنه ولكنه محاولة لتجنب أخطائه والقضاء على كل مظاهره المنحطة التي أودت بالبلاد والعباد إلى هاوية لا يعلم مداها أحد.
في اليوم الذي تم فيه الإعلان عن تأسيس المجلس الوطني السوري في اسطنبول، صرح صاحب مجلة شبابلك إياد شربجي على صفحته على الفيس بوك بأنه "وقد تم تأسيس المجلس الوطني السوري، فعلى الجميع أن يعلموا أن الخروج عن هذا المجلس يعني الوقوف إلى جوار النظام وبالتالي معاداة للثورة"، والغريب في الأمر إلى أنه لم يتنبه في غمرة انفعاله على ما يبدو أنه يكرر صيغة المادة الثامنة مع مجرد استبدال حزب البعث بالمجلس الوطني، كما أنه لم يتنبه أيضاً إلى أن تهمة "معاداة الثورة" هي نفسها التي كانت تستخدمها محكمة أمن الدولة سيئة الصيت في محاسبة المفكرين والمثقفين المعارضين وغيرهم. وعندما قام وفد من هيئة التنسيق الديمقراطي بزيارة لجامعة الدول العربية لمقابلة الأمين العام تم اعتراضهم من قبل جماهير محتشدة ولكن بالبيض والشتم والركلات واللكمات في مشهد ينم عن ثقافة معينة وليس عن معارضة من شعب واع كما يدعي البعض، ولهذا لا زلت مصراً على أن التشبيح هو ثقافة وليس مجرد مهنة أو ابتداع من النظام السوري، وكان التشبيح يمارس من قبل الجميع على الجميع، من موظفي الدولة عل المواطنين، ومن سائقي وسائل النقل العامة والخاصة على الركاب ومن المعلمين على طلابهم ومن المدراء على موظفيهم والسلسلة تطول. عندما حذر برهان غليون في مقالة له من حرب أهلية في سوريا وكان بذلك يلامس الواقع ثارت عليه الدنيا وأولهم أعضاء مجلسه الذين اعتبروا الأمر "خاطرة" لغليون وليس موقفاً رسمياً وكأن الرجل كان يهذي عندما قال ما قال، وكأن المسألة هي مسألة مواقف رسمية وليس مسألة وطن يتمزق على خشبة المسرح بينما يصفق الحاضرون لينصرف كل إلى حياته وكأن شيئاً لم يكن وكأن شعباً لم يوجد أصلاً.
إن مسألة الرأي والرأي الآخر لم تتبلور حتى بأبسط صيغها داخل المجتمع السوري، ولن نتعرض هنا للأسباب التي أودت بهذا الشعب إلى هذا المآل فهي أسباب معروفة، وغالباً يبدأ نقاشها وينتهي بشتم وتقذيع النظام بكل مكوناته دون تحليل الواقع ورؤية المستقبل. ولا أدل على ذلك من هذا الكم الهائل من البرامج الحوارية بين مؤيدي ومعارضي النظام والتي يبدو فيها طرفا النقاش متناقضين في الرأي متشابهين في الأسلوب، وهو ذاته أسلوب التعيير الشخصي والشتم والتهجم على رموز كل طرف دون موضوعية أو عقلانية. لم أفهم لماذا يصر مثلاً محمد العبد الله على الظهور مرتين في برنامج الاتجاه المعاكس ليثبت لنا وللآخر في كل مرة أن النظام يقتل شعبه وأن مزاعم النظام لا أساس لها، بينما استخدم نفس الأسلوب في المرتين باعتبار محاوره عنصراً في المخابرات أو التهجم على الرئيس أو شخصيات أخرى هو في غنى عن مجرد ذكرها. على المعارضة أن تفهم أنه لم يعد أحد يناقش فساد وظلم النظام وكل رموزه فهذا كمن يثبت اليوم أن الشمس تشرق من الشرق، والأحرى أن يلتفت الجميع لرؤية ما بعد انتهاء الأزمة الحالية واتخاذ العبر والدروس مما يحدث في البلدان الأخرى كتونس ومصر وليبيا وغيرها، وأن تبتعد المعارضة عن الشخصنة في تعاطيها مع هذه الأزمة.
إننا عندما ننتقد المعارضة هنا فلأننا نطمح أن تكون سوريا الجديدة خالية من الشوائب التي علقت بها سنين طويلة، لذا لم نتعرض للنظام ولا أزلامه لأنهم لا يستحقون مجرد الذكر، فهم لم يفشلوا في إدارة الأزمة وحسب بل ونجحوا في تدمير هذا الوطن عبر عقود طويلة لم يزرعوا فيها سوى الكراهية والحقد والتشبيح والتعصب، وهم بدلاً من أن ينهضوا بهذا المجتمع ويشفوه من أمراضه زادوا عليه شقاءه وأمعنوا في نقل الأمراض المستعصية إليه.
يقول المرحوم الدكتور محمد عابد الجابري في كتابه "العقل الأخلاقي العربي": "إن هذا النكوص في مجال القيم، وهيمنة القيم الكسروية، قيم الطاعة وتوظيف الدين لفرضها، وإحلال أساطير الأولين محل العقل العملي، عقل الروية والخبرة والاعتبار،... أقول والنتيجة من كل ذلك وما تفرع عنه هو تهميش بل إقبار اجتهادات كان من المفروض أن تؤسس لثورة تجديدية في مجال القيم. لقد تم تهميش محاولة ابن الهيثم لتشييد نظام قيم إنساني ينظر إلى الإنسان هنا على هذه الأرض كقيمة في ذاته ويعتبر البشر جميعاً متساوين في قيمتهم الإنسانية ويؤكد على أن العلاقات التي يجب أن تسود بينهم هي المحبة والحنو والرحمة والتعاون، وأن الهدف الذي يجب أن يعمل له الجميع هو تحقيق الإنسان التام في أنفسهم. وتم تهميش بل إحراق وإعدام الخطاب السياسي الجريء لابن رشد الذي فضح القيم الكسروية وأظهرها على حقيقتها من خلال المختصر الذي عمله لجمهورية أفلاطون، وفي نفس الوقت نزع عن المدينة الفاضلة تلك المثالية التي جعلت إمكانية تحقيقها على الأرض أمراً مشكوكاً فيه بل ميؤوساً منه، مضفياً عليها واقعية جعلت تحقيقها أمراً ممكناً على التدريج وتوالي الإصلاح واستمراره."
من لا يقرأ التاريخ ولا يفهمه عليه أن يخرج منه بإرادته قبل أن يرميه الناس رغماً عنه. ونظراً لأن توجيه مثل هذا الكلام إلى النظام السوري لا طائل منه، فإننا نتوجه به إلى المعارضة التي تصف نفسها بالمثقفة الواعية بينما تحضر لمرحلة انتقالية لم يشرح لنا أحد بعد ماهيتها وصورتها وخاصة بعد صدور البيان السياسي للمجلس الوطني الذي لا يزال يردد نفس العبارات الفضفاضة والمثالية دون أية خطوات واقعية تجعل من هذا البيان قابلاً للتحقيق بدل أن يبقى "مدينة فاضلة" يتم ترديدها في المقالات وعلى شاشات التلفزة.

(105)    هل أعجبتك المقالة (110)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي