كالعادة يستدرجنا موت القذافي إلى الكثير من الجدال الذي يعجز عن استثارته موت إنسان عادي , أو آلاف البشر العاديين , أو ملايين الناس العاديين .. مع ذلك هناك نقطة يجب التأكيد عليها في كل هذا الصخب : حتى أولئك الذين انتقدوا طريقة موت الديكتاتور السابق فعلوا ذلك مفترضين و لو ضمنا أن الثوار متفوقين أخلاقيا على الديكتاتور , هذا جزء هام من الوعي الجديد بالمعنى الحقيقي لكل من الديكتاتورية و الحرية , للطغم الحاكمة و للجماهير الثائرة , أيضا يمكن القول أن ما أزعج و أثار حفيظة أولئك الذين أعلنوا الحداد على الديكتاتور المقتول من الجماهير الليبية لم يكن فعلا لجوء "قيادة" هذه الجماهير المسماة بالمجلس الانتقالي إلى الناتو و لا علاقة هذا بمشكلة فلسطين و لا حتى مصير النفط الليبي بعد سقوط الديكتاتور , لقد كانت الجريمة الفعلية للجماهير الليبية بالنسبة لهؤلاء هو أنهم قد تجرؤوا على مواجهة الديكتاتور , أنهم تجرؤوا على النهوض و المطالبة بحريتهم , يحاول هؤلاء أن "يؤكدوا" أن الحرية ليست إلا خدعة أو وهم أو مؤامرة و أن العبودية حتمية و أن الثورة و الحلم بالحرية "كفر" من نوع ما : باختصار ميتافيزيقيا سلطوية معادية للبشر و للإنسان بعناوين مختلفة , يجب أن ندرك أن هذا النهوض الشعبي هو بالتحديد ما جعل نهاية السجن الكبير الذي كان يسمى بجماهيرية القذافي ممكنة في المقام الأول , و إذا قبلنا بما يقوله هؤلاء من أن أفضل ميتة يمكن أن يموتها العبيد في بلادنا "الممانعة" هي أن يموتوا و يغتصبوا كالخراف على أيدي جلاديهم , جلادين من بني جلدتهم , دون حتى أن يصرخوا طالبين النجدة , فإن ميتة القذافي إذن كانت أفضل ميتة يمكن أن يموتها أي طاغية وفقا لنفس المنطق : أي بأيدي شعبه , ميتة وطنية على رأي هؤلاء ما دامت "سيادة" مثل هذه الأوطان تعني حق الديكتاتور المطلق في قتل شعبه دون "تدخل خارجي" , لكن إذا تركنا هذا جانبا فإن الميتة التي ماتها القذافي بالفعل كانت أفضل ميتة , أشرف ميتة على الإطلاق يمكن أن يموتها أي ديكتاتور , أن يموت على يد العبيد , البشر الذين كان يستعبدهم , هذا لا يعني أن مصير النفط الليبي أو من سيتحكم بالفعل في مصير الجماهير الليبية ليست مسألة أساسية و حاسمة لمستقبل الحرية التي ماتت الجماهير الليبية في سبيلها و لا يلغي حقيقة أن الناتو هو بالفعل تجمع عالمي للصوص الأرض و لا يتعارض مع كون أخلاق الأحرار مختلفة بالفعل كلية عن أخلاق العبيد أو أن قواعد الحياة في ظل الديكتاتوريات التي تقوم على حق الديكتاتور المطلق في قتل من يشاء من أبناء "شعبه" لا تختلف جذريا عنها في مجموعة البشر الأحرار و المتساوين التي تقوم على حق الجميع في أن يعيشوا بحرية دون إكراه أو اضطهاد أو استغلال , لكن بما أن الموت ليس من اختراع الثوار الليبيين , و لأن الآلاف و الآلاف من الفقراء و المهشين يموتون يوميا , من الفقر و القهر و الظلم و في هذه الأيام بقذائف مدافع و دبابات الطغاة دون أن ينعاهم أي كان و دون أن يذكرهم أحد أو أن يبكيهم أحد , و لأن كمية الظلم و الموت الذي يحيط بنا أكبر من أن يحتمل نقاشا سفسطائيا بينما الناس يقتلون كالخراف , و لأن بكاء و رثاء ديكتاتور كالقذافي بينما يموت الملايين من الفقر و الجوع و المرض و الألم و رصاص القتلة و سياطهم و غيرها من أمراض الاضطهاد و الاستغلال بصمت يزيد من حنق الناس و غضبهم على أمثال هؤلاء الطغاة و القتلة و على من ينعاهم بصخب فاجر , لنحل هذا السؤال الفلسفي بطريقة عملية : رغم الآلاف المؤلفة من القتلة و الجلادين و الشبيحة الذين يملئون الشوارع السورية و اليمنية و الذين حولوها إلى مقابر للشباب الذي يصرخ مناديا بالحرية , لا يتجاسر بشار و ماهر الأسد و لا علي عبد الله صالح أو أبنائه أو أولاد أشقائه القتلة حتى على الظهور و لا حتى وسط حماية آلة الموت و القتل تلك في أي من الساحات التي يسوقون إليها السوريين و اليمنيين كالأغنام تحت سوط و رصاص الشبيحة و البلاطجة بينما يخرج الشباب المنادي بالحرية إلى تلك الشوارع متسلحا بصدوره العارية , إذا كانت تلك الملايين من البشر الذين يسوقوهم إلى الشوارع لتهتف بالروح و الدم لحياة الديكتاتور تحب ديكتاتورها فعلا لماذا يخشى هؤلاء منها و يكتفون بتحريك آلة القتل و التعذيب عن بعد , أخيرا من المؤكد أن بشار الأسد و علي عبد الله صالح و أي طاغية يدرك جيدا ما تعنيه أوامرهم بقتل و تعذيب الآلاف , لا تحتاج هذه الجرائم إلى كثير تأويل و لا تترك المجال أمام أي جدال ضد أي منطق إنساني بسيط , هذا باختصار هو المغزى من نهاية القذافي في هذا الوقت بالذات على أيدي عبيده السابقين
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية