خلال الأشهر الماضية, وبالتساوق مع وقائع الثورة السورية وتجذر مطلبها الأرأس: إسقاط النظام, تشكلت داخل النخب الثقافية والسياسية في سوريا جماعة لم تشأ أن تظل صامتة, تتدبر بهدوء وإشفاق مكائدَ التاريخ وانعطافاته الحاسمة. لكنها في المقابل لم تشأ أن تقول الحقيقة كاملة, على الرغم من البداهة والسطوع في بواعث الثورة العميقة, وفي مبرراتها التاريخية و عدالة مطالبها الرئيسية.
من بين الدوافع الحقيقية للكلام تظهر الرغبة في الاحتفاظ بالجمهور وعدم التفريط بشعبية المثقف أو جمهور الحزب. لذلك لم يكن وارداً أن يلتزم هؤلاء الصمت, أو أن يقفوا مباشرة ضد الثورة فيفقدوا بذلك رصيدهم الثمين من الجمهور, قراء أو مريدين و محازبين.
ومن بين الأسباب الداعية للكلام ومغادرة حال الصمت إلى مقام الإدلاء بالرأي, يمكن الإشارة هنا إلى خصوصية الذات النخبوية – في المجالين السياسي و الثقافي – وارتباط هذه الذات بوعي امتلاك السلطة – سلطة التدبير والمعرفة- التي يجب استخدامها حتماً. لابد لهذه النخبة من أن تتكلم, أن تقول شيئاً, فكلامها العارف هو حامل سلطتها, والشكل المفضل – وربما الوحيد - لتفعيلها في التاريخ.
في هذا السياق الخاص, كان حاضراً أيضاً الوهم القديم حول الدور القيادي للسياسي- المثقف العارف الحكيم, الذي يأخذ على عاتقه, في الأزمات الكبرى للأمة, القيام بدور الناصح الهادي, والدليل المتيقظ للجمهور من العامة والناس العاديين الذين قد يتخبطون في مسالك لا تفضي في النهاية إلا إلى مزيد من الضلال.
أما بواعث الإحجام عن قول الحقيقة, فيمكن التنويه هنا بالخوف من خسارة مناطق النفوذ الراسخة والمؤكدة, والمكتسبات التي حصل عليها هؤلاء, أو التي سيحصلون عليها مستقبلاً, داخل المحددات التاريخية المختلفة والمعروفة لوضعيات المثقف والسلطان في المجتمع العربي. إضافة – بالطبع - إلى الخوف الهائل من آلة القمع المتوحشة للنظام الذي يستبيح كل شيء في سبيل بقائه متسيّداً وإلهاً, ولا يجد غضاضة في التنكيل الفظيع بأي رمز ثقافي أو سياسي, ولو كان بحجم - علي فرزات - أو - مشعل تمو - ..!
تحت ضغط هذين الحدين, إذاً, - غواية سلطة القول العارف من جهة, والخوف من قول الحقيقة من جهة أخرى, ظهرت فئة ثقافية- سياسية, بملامح رمادية ملتبسة ورطانة خاصة, تطلق نمطاً مميزاً من القول, لحمته النفاق والمراوغة, وسداه التذاكي المكشوف إلى درجة السذاجة.
* * *
من الممتع أن نتدبر في ملامح هذا القول وخصائصه, أن نفكك بنية الدلالة والشكل فيه, ونستكشف طرق التحايل والمجاملة المتبعة من أجل الحصول على رضا الجمهور من جهة, وعدم إزعاج النظام وأجهزته من جهة أخرى.
أرادت هذه الفئة من النخبة, وعبر رطانتها الخاصة, الإيحاء بالانخراط – ثقافياً وسياسياً – في الثورة وحراكها. لكنها وفي الوقت نفسه حرصت على توجيه رسائل صغيرة وسريعة إلى النظام مؤداها الانضواء تحت سقف الوطن !؟
تتوسل الرطانة الخاصة لهذه الفئة من النخبة السورية عدداً من نقاط الهروب, تزرعها على طول نسق التفاعل مع الحدث واتخاذ موقف منه. وهي طريقة تتيح المراوغة والإفلات من الاختيار والالتزام النهائيين, وتجنب المواجهة المباشرة مع البدهيات والحقائق الساطعة في الوضع السوري. وتمنح مستخدمها المزيدَ من الوقت والهامش كي يلعب لعبته في البقاء ضمن المسافة المحايدة التي لا ترفض ولا تقبل - بشكل نهائي - أياً من الاحتمالات أو الاقتراحات أو الشكاوى أو الممارسات أو الحجج, الصادرة عن هذا الطرف أو ذاك. كما تسمح – نقاط الهروب هذه – بالانتقال, وبشكل مباغت, من سياق إلى سياق , ومن مستوى معين في السياق إلى مستوى آخر بنفس السياق, مما يرسخ بقوة موقع الحيادية والمراوحة بين موقعين يظهر المستخدم من خلالهما, لكنه لا يرتبط ولا يلتزم بأي معيار أو قيمة أو تحديد يتبع لهذا الموقع أو ذاك !!..
لقد وفرت نقاط الهروب هذه إمكانية التنقّل بين عدد من الصيغ البلاغية في خطاب يوهم بأنه خطاب الحقيقة والموضوعية:
1- صيغة التحذير: تسمح هذه الصيغة بالظهور بمظهر الوطني العارف بما يهدد الوطن, الحريص على لفت الانتباه إلى الأخطار المحدقة بالجميع, بطرفي النزاع خاصة: النظام والثورة. مع التعامي بالطبع عن الخطر الفعلي القائم والمولد لكل تلك الأخطار الأخرى, وهو القمع والاستبداد اللذان يمارسهما النظام منذ أربعة عقود. من بين هذه الأخطار برزت بشكل خاص في خطاب التحذير المضلل هذا: السلفية, الطائفية, العنف.
نلاحظ أن الخطرين الأول والثاني مما يمكن إحالتهما على المجتمع/ الثورة, أما الخطر الثالث فهو – كما تقتضي الموضوعية - من المشتركات بين طرفي النزاع: عنف متبادل غير مقبول ويجب وقفه فوراً..!!. لا تشير صيغة التحذير هنا إلى المقدمات المولدة لهذه الأخطار, أو الجهات الموهمة بها, لا تحدد حواملها ومستخدميها الحقيقيين.
2- صيغة الإقناع والمصالحة : تتيح هذه الصيغة امتلاك موقع خارج معادلة الصراع, كوسيط بين طرفين, يقف على مسافة واحدة منهما, في نقطة معلقة خارج التاريخ وخارج تأويله. وكوطني غيور تهمه سلامة طرفي النزاع من أخطار جرى التنويه بها؛ يرسل نصائحه الرسولية إليهما, كطرفين متكافئين في الصواب والخطأ, في المسؤولية والقدرة على الفعل, يمتلكان جزءاً من الحق.. وجزءاً من الواجب. في هذا السياق يبدو الحوار ضرورة تتيح للطرفين, عوضاً عن اللجوء إلى العنف والتصادم, أن يبسطا أفكارهما بوضوح, ويصلا إلى نقاط مشتركة تسمح في النهاية بإجراء مصالحة تنصف الجميع, وتعيد الأمور إلى نصابها.
استخدمت النخبة الرمادية موضوعَ الحوار كمعطىً ناجز ومكتمل ومتحقق الشروط اللازمة, وما على الأطراف إلا القبول به, لتنحل العقد والمشكلات جميعها. الطاولة جاهزة إنما المشكلة في رفض الجلوس إليها, وهو رفض اتهمت به أطراف المعارضة والحراك الشعبي باستمرار.
3- صيغة الخوف على سوريا: ظهور دعوات لحمل السلاح في وجه النظام من أجل الدفاع عن المدنيين بوجه القتلة من الشبيحة ورجال الأمن؛ غذت بشكل كبير متطلبات صيغة الخوف من المستقبل الذي ينتظر سوريا. التقطت النخبة الرمادية بهلع واضح وإشفاق مؤثر, هذه الدعوة وجعلتها شغلها الشاغل, معززة بذلك صيغة التحذير والدعوة إلى الإسراع بالقبول بالحوار. طبعاً يقتضي تكريس فاعلية خطاب الخوف والتخويف, كخطاب موضوعي ومحايد, غض النظر عن الطابع السلمي العام للثورة, والإصرار المتكرر لدى شباب الثورة على التظاهر السلمي. كما يقتضي لفت النظر إلى عنف محتمل ( الدعوة لحمل السلاح ) في الوقت الذي يجري تجاهل العنف الفظيع الحاصل حالياً...الآن... ومنذ ثمانية أشهر.
أمر آخر ساهم في تغذية صيغة الخوف على سوريا, وهو احتمال التدخل الأجنبي, الذي يستدعي مباشرة لازمة المؤامرة الخارجية وضرورة تفويت الفرصة على المتربصين بالبلد, من خلال وقف العنف بكافة أشكاله والبدء بحوار.
* * *
خارج الاحتمالات الثلاثة الرئيسية لمواقف المثقفين والكتاب حيال الثورة السورية( مع – ضد - التزام الصمت ), ظهرت الفئة الرمادية بصيغها البلاغية سابقة الذكر, واستخداماتها السياقية المتنوعة, التي أملت من خلالها الاحتفاظ برصيدها من القراء / المحازبين, وعدم إغضاب النظام في وقت واحد. لم يتحقق الهدف الأول بالطبع, حيث كانت الاستخدامات البلاغية ونقاط الهروب المستخدمة, مكشوفة ومبتذلة في منظور الرأي العام والحراك الشعبي للثورة. أما النظام فقد رحب بهذه الفئة, ودعا عدداً من ممثليها إلى مسرحيات السأم والبلادة المسماة- مؤتمرات الحوار- غير مرة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* باحث من سوريا.
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية