فجأة يكتشف قسم كبير من السوريين المقهورين والمهمّشين والمترَعين خوفاً وذلاً, أن الحياة التي كانوا يمرّرونها يوماً بيوم وسنة بعد سنة, ليست إلا شكلاً آخر من أشكال الموت, بل هي الموت بحد ذاته وفي أكثر حالاته قسوة وجذرية.
لقد تحدث أوكتافيو باث, الشاعر المكسيكي العظيم, في واحدة من أروع قصائد القرن العشرين على الإطلاق - حجر الشمس – عن الموتى المُمعنين في موتهم, والذين لا يستطيعون الموت بموت آخر..! . لقد بدا أخيراً أن السوريين قرروا رفض الإمعان في موتهم السري البطيء, ولو اقتضى الأمر أن يستبدلوا به موتاً علنياً مروّعاً, ترصده كاميرات المحمول وترسله بسرعة البرق حياً بالدم وبالأشلاء لتبثه بعدُ الفضائيات ومواقع التواصل على الإنترنت.
الموت ولا المذلة !! يقول السوريون في الساحات والشوارع. وهم يعرفون تماماً أن الموت غدا احتمالاً وارداً بقوة, كل مرة يخرجون فيها لمواجهة الاستبداد والقتلة. أي إنهم مدركون تماماً وبوضوح كامل لمعنى الشعار وتبعاته. إنهم يرفضون بتصميم ووعي كاملين الموتَ بالذل, ولو اقتضى ذلك مواجهة الرصاص بصدورهم العارية وأجسادهم المكشوفة. لقد اختاروا موتاً آخر, لأنهم يرون فيه طريقاً إلى الحياة الحقيقية.
ثمة هنا ما يشبه إعادة اكتشاف وتعريف للمعنى الحقيقي للموت والحياة. كلاهما, الموت والحياة, وجميع الأسماء والمعاني المستباحة في عهود الاستبداد, تبحث الآن عن انبعاث حقيقي وصيرورة جديدة, حيث لا تخون الكلمات معانيها, ولا الأسماء أشياءها: الحياة تعني الحياة واستحقاقاتها التي بدونها ليست حياة: الحرية... العدالة... الكرامة... انتفاء الخوف والارتجاف المستمر للقلب عند كل شأن بسيط من شؤون العيش العادي.
كذلك الموت يتحدد وتعود له صفاته الحقيقية التي يُعرف بها وتدل عليه : الذل.. الظلم.. النفي المستمر للطمأنينة الاجتماعية بما هي تكامل بين الحق والواجب, تهشيم لا يرحم للاستقلالية والاختيار الحر, الإقصاء ومحاصرة الكيانات الفردية والمجموع العام بأسوار بادية للعيان أو مخفية لكنها حاضرة دوماً وفي كل لحظة وكل يوم. وأخيراً هذه الحركة الثابتة المستمرة من فرض الانصياع والرضوخ اللذين يشوهان معنى الإنسان ومعنى الوجود الإنساني.
اكتُشف المعنى الحقيقي للحياة إذاً... وبالتالي للموت. وبدا أن ما كان يُعاش على أنه الحياة, ليس أكثر من موت مموه خدّاع. وأن ما كان يجري التخويف به ومنه – الموت – ليس إلا شكلاً من أشكال السير نحو الحياة الحقيقية المنحّاة جانباً طوال عقود. إنه مَعْبرٌ لابد منه فيما يبدو إلى الحرية واستحقاقاتها الإنسانية والسياسية والاجتماعية.
يترتب على هذا الاكتشاف, كما يتجلى فعلاً في مواقف المنتفضين السوريين منذ أشهر, عدم الاكتراث كثيراً بالموت الذي يضخّه قتلة النظام من كل الجهات وبكل الوسائل - قولوا الله وعلوا الصوت نحنا ما منهاب الموت - !. إن رفض الموت المموه = الحياة في السياق الاستبدادي, الذي خضع له السوريون طوال عقود, يدفعهم بقوة نحو الحياة الحقيقية = الحرية, التي اكتشفوا أخيراً معناها ومقتضاها, ولو عبر موتهم الجديد الذي صار شكلاً من أشكال النداء الفتان نحو أفق الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية. وهذا ما يفسر الشجاعة العظيمة التي يواجه بها شباب سوريا جلادي الشعب وقتلته, حتى ما عادت تنفع معهم كل أساليب القتل والترويع التي يستخدمها الأمن والشبيحة بحقهم, بكل لؤم وخسة ووحشية. لقد عاشوا اللحظة الجديدة بكل كيانهم المتعطش للحياة والمنبعث من رماد موت مموه بقناع حياة الذل والخوف. ما عاد ممكناً القبول بأن يعودوا إلى موتهم بعد أن ذاقوا معنى الحياة الحقيقية ولو في تفتحاتها الأولى, ومذاقها المفاجئ الطارئ.
من مقتضيات هذا الاكتشاف أيضاً الانصراف المؤقت عن ممارسة ما هو متاح ومعروض من أشكال الحياة السابقة = الموت المموه بالحياة. وذلك بما يشبه إضراباً عن الحياة في شرط الذل والاستبداد.. رفضاً نهائياً لخدع الموت التي كانت تجري باسم الحياة. التعليم مثلاً... لقد رفض المنتفضون أن يتلقى الأبناء التعليم في صروح استُخدمت للتعذيب والاعتقال الظالم بحق الآباء: كيف يجلس الأطفال على المقاعد نفسها التي تلقى آباؤهم عليها الصفع و الإهانة والتنكيل ؟؟ وكيف يدخلون الصفوف التي كانت بالأمس القريب فضاءات رعب وإذلال لآبائهم ؟؟. لكن الأمر يتعدى ذلك في الحقيقة, وتم التعبير عنه: إنهم يرفضون التعلم في السياق الاستبدادي, لأنه ليس أكثر من شكل مموه من أشكال موت العقل والمعرفة. إنه اغتيال للعقل والروح يجري باسم حياتهما بالذات: التعليم !
كان المصريون قد عبّروا في ميدان التحرير عن تأجيل ممارسة الحياة في السياق الاستبدادي, لأنها ممارسة للموت المموه لا أكثر ولا أقل. وفي شعاراتهم ما يشير إلى أنه لا يمكن ممارسة الحياة إلا بعد سقوط الطاغية وانتفاء الاستبداد. وجميعنا يذكر تلك الكلمات التي رفعها شاب مصري جميل الروح والهيئة, تقول: ارحل مراتي وحشتني ..متزوج من 20 يوم!! . وعلى لا فتة أخرى نقرأ: ارحل ..الولية عاوزة تولد والولد مش عايز يشوفك.
يؤجلون الحياة وأفراحها الصغيرة التي يشترطها المعنى الحقيقي للحياة, ريثما يُسقطون الطاغية ومعه ذلك الموت المموه الذي هو الحياة في ظل الاستبداد.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*كاتب وباحث من سوريا .
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية