لا يفتأ هذا البرنامج ومقدمه يثيران الزوابع في كل مرة، وعلينا أن نعترف فعلا بقدرة فيصل القاسم على إشعال الحرب بين المتحاورين بأساليب متنوعة تجعلهم يفصحون حتى عن أعماق عقلهم الباطن في ردود أفعال متباينة في قوتها وتأثيرها أو ضعفها وفكاهتها أحيانا.
وعلى كل حال، فإن موضوعي اليوم ليس البرنامج في حد ذاته ولا شخصية مقدمه، وإنما أردت النظر إلى طبيعة النقاش والتحاور بين أطياف مختلفة لشعب سوري بقطع النظر عن انتمائهم أو توجهاتهم السياسية. وأنا في هذا أعاود التركيز على مسألة تقبل الآخر واستيعابه ومدى صعوبة هذا الأمر لدى خروجه إلى حيز التطبيق.
بداية لم أفهم لماذا أصر محمد العبد الله على الهجوم الشخصي على محاوره وتكرار كلمات من قبيل "معلمك" و"رئيسك" لم يكن يليق به كممثل لمعارضة وعضو في مجلس وطني سوري يستعد يوما ما لتبوء منصب معين أن ينزلق بهذا المنزلق. ولعل آخر ما يمكن أن أفكر فيه هنا هنا هو الدفاع عن النظام أو غير ذلك، فكما قلت سابقا أنني بصدد تقييم أداء المتحاورين كطرف خارجي ومتفرج محاولا الالتزام بالموضوعية دون أي تحيز. وبدا واضحا أن محمد العبد الله قد استعد جيدا لهذه الحلقة وخاصة أنه ابتدء حواره بمقتطفات من كلام محاوره عام 2010 عن الشعوب العربية وهذه كانت مقدمة ممتازة أبدت سعة اطلاعه واستعداده للمعركة.
وعلى الطرف المقابل بدا عبد المسيح الشامي متلعثما في أكثر من مناسبة وخاصة فيما يتعلق بقضية المعتقلين والمعذبين داخل السجون إلا أنه لم يهاجم محاوره في شخصه ولم يخرج عن طوره رغم كل استفزازات فيصل القاسم بأسئلته المباشرة، على أنه وبالطبع لم يستطع رد سيل الاتهامات الموجهة للنظام كونها أمور لم يعد من الممكن إخفاؤها أو التلاعب بها.
إن كل ما يفكر فيه السوريون اليوم هو أمر هام واحد: من سيكون مرشحا لقيادة التغيير في سوريا؟ ولعل المعارضة بكل أطيافها لم تستطع إلى اليوم ولو حتى إظهار أنها تمثل الشارع المتفجر حيث أنهم يغنون في واد والناس في واد، فمن مجالس وطنية إلى تجمعات علمانية ومنتديات سياسية جعلت الناس يتشككون في مجرد استطاعة أي من هؤلاء السير بالسفينة إلى بر الأمان، ونحن هنا لا نشكك أو نطعن بالجهود التي تبذل من قبل كل أطياف المعارضة، ولكن واجبنا يحتم علينا نقل هموم الشارع وتخوفاته حتى يكون لدينا تصور واضح لاتجاهات الرأي داخل سوريا.
لماذا لا يزال المعارضون مصرين على الدخول في هذا النوع من المهاترات؟ بالنسبة لهم فإن كل شيء بات واضحا، وما يمارسه الإعلام السوري من كذب ودجل لا يحتاج إلى أية أدلة أو براهين، فلماذا لا تنتقل المعارضة إلى دراسة وإصدار مشروعها السياسي والاقتصادي والاجتماعي للمرحلة المقبلة؟ هناك الكثير يجب القيام به ولا يزال العمل في مراحله المبكرة جدا فالأولى بنا جميعا أن نفكر جيدا في قادم الأيام لا أن ننظر إلى ما بعد أنوفنا فقط دون الخوض في هموم المستقبل الذي يحلم به كل السوريين.
حتى هذه اللحظة لم تخرج علينا المجالس الوطنية والهيئات السياسية المعارضة إلا بالبيانات العامة والغائمة والتي لا ترسم طريقا واضحة لخطة مستقبلية، وكنت قد تحدثت سابقا عن مأزق مهم للمعارضة وهو رفض التدخل الخارجي، فهم غالبا يحارون جوابا لدى الكلام عن هذه النقطة نظرا لرفضهم تكرار السيناريو الليبي من جهة وعملهم على إسقاط النظام من جهة أخرى. والمعارضة تعلم جيدا أنها بين نارين، فهي لا تريد مجرد فكرة اهتزاز صورتها شبه المتماسكة أمام الجمهور بسبب طلب التدخل الخارجي وفي ذات الوقت تخرج الاستغاثات من طيف واسع من الناس الذين يموتون ويعتقلون بشكل يومي.
إذا كانت الناس تموت وتعتقل يوميا طلبا للحرية والديمقراطية، فعلى المعارضة الواعية والمثقفة رسم الطريق المؤدي لهذه الأهداف، فمثلا صدر قانون للأحزاب في سوريا رفضته المعارضة والناس شكلا ومضمونا قبل حتى قراءته، ولكن الخطوة التالية كان عليها أن تكون التحضير لقانون أحزاب وفقا لتطلعات المعارضة والشعب حتى يكون بمثابة برنامج انتخابي للمرحلة القادمة.
إن على كل أطياف المعارضة اليوم أن تعلم أنها في سباق مع أمرين: الزمن والشعب، والاثنان لن يرحما أحدا إذا انتصرا لا المعارضة ولا النظام، وبما أن هذه المعارضات وخاصة الخارجية منها ليست لدبها بعد سوى أدنى شعبية في الشارع السوري فعليها أن تعمل بعقلية الحملة الانتخابية بمعنى إعداد برامج واضحة ونشرها في كل وسائل الإعلام المتاحة {وما أكثرها} حتى يطلع الناس على هذه البرامج ويعلموا على ما هم مقبلون عليه.
إذا لم يكف المعارضون عن الصراخ والعويل تماما كما يفعل موالوا النظام فلن يكون لهم أية قاعدة جماهيرية سوى قدومهم وبشكل جماعي من الخارج وانخراطهم في العمل السياسي والاجتماعي، فالقادة الحقيقيون هم من ينادون بالناس "اتبعونا" لا من يصرخ فيهم "تقدموا" {وهو قول لنابليون}، وقد بين أكثرهم عبر الفضائيات أنه ليس خائفا ولم يتردد في إظهار جواز سفره السوري على الشاشة وأنه مستعد للسفر مباشرة إلى سوريا، لا أن يقول أنه "لم يقطع 22 ساعة سفر من واشنطن ليسمع ترهات" {وهو كلام محمد العبد الله في حلقة أمس}.
إن المعارضة والعمل السياسي والاجتماعي أمران في غاية الصعوبة، وإن أول وأقسى اختبار لأي منا هو تقبل الآخر، وكنت قد ذكرت سابقا تخوفي من الفرز المضاد والتخوين المضاد، بمعنى استخدام نفس أسلحة النظام في تقييم الآخرين، وهو ما يحدث اليوم مع طيف كبير من المعارضة لدى تشكيكهم بنوايا بعضهم البعض ناهيك عن ما يحث على الأرض في الشوارع من إقصاء وفرز وتخوين. وكما قال فولتير: "أنا لست معك في الرأي، ولكنني مستعد للدفاع حتى الموت عن حقك في أن تعارضني"، هذا كان من رواد الثورة الفرنسية، وأنا على يقين من وجود كثير من رواد الثورة السورية، التي يجب أن تكون ثورة سياسية واجتماعية حضارية تعطي مثلا أعلى يخلده التاريخ.
وكما اعتدت في خاتمة كل مقالة، الخلاف لا يفسد للود قضية، وأرجو أن يتسع صدر المعنيين في هذه السطور للنقد البناء والذي لا يهدف إلا إلى إغناء تجاربنا جميعا لنكون بناة المستقبل الحقيقيين الذين يتوجهون غلى الناس بقلوب وعقول منفتحة بعد عقود الانغلاق والكبت والقهر النفسي والاجتماعي والسياسي.
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية