يحتل المشهد السوري، خلال هذه الأيام، مكانةً بارزةً بفضل استمرار المظاهرات المطالبة بالتغيير، وبسبب العنف المستمر من قبل أجهزة الأمن السورية في محاولة يائسة منها لإعادة الخوف لقلب مواطنٍ ما فتئ يردد الموت ولا المذلة. وإذ يتحول المشهد السوري هذا إلى دراما اعتيادية بالنسبة للبعض، فإن ما يّشد انتباه المطلعين في الشأن السياسي هو تخبط النظام السوري بصدد ما يطرحه من خَيارات متناقضة في مضمونها ومتطرفة نسبياً في نتائجها.
فمن جهة أولى، لا أحد يستطيع تجاهل السلوك العنيف الذي تتبعه أجهزة الأمن لمنع المتظاهرين من الاحتجاج والمطالبة بالحرية، وقد بدا واضحاً ميل هذه الأجهزة لإذلال المعارضين والتعامل معهم بوصفهم عبيداً لا يتمتعون إطلاقاً بصفة المواطنة. تبدو هذه الحلول الأمنية متطرفة في الشكل والمضمون لدرجة يعجز اللسان عن وصف لا إنسانيتها وقدرتها على تمثل وحشية الضباع في نهش جسد فريستها. ومن جهة ثانية، تمثل الخيار المقابل لهذه الحلول الأمنية في ما اقترحه مندوب سورية في الجامعة العربية من مبادرة مثالية، يرجوها حقيقةً كل إنسان عربي، ألا وهي العمل على دمقرطة كل أنظمة الحكم في البلدان العربية. يبرز النظام في سورية إذاً بوصفه حاملاً في يده الأولى سلاحه ورصاصه الحي في وجه المتظاهرين، وفي يده الأخرى مبادرةً تُخلص المواطن العربي من نظام استبدادي استمر لعقود طويلة، إنها صورة الجلاد والمخلص في الوقت ذاته، صورة تقدم تناقضات في الحلول وتخبطاً في التعامل مع هذه الأزمة.
في الواقع، كثيرة هي الآراء التي تجد بأن النظام في سورية ليس جاداً في إصلاحاته، وليس على استعداد، أصلاً، لتقبل نصائح الدول العربية منها أو الغربية، لأنه يجاملها نظرياً في دعوتها لتحقيق إصلاحات فورية تُقنع المواطن السوري وتدفعه للرؤية تغيرات فعلية على أرض الواقع. فيعتقد الدكتور عزمي بشارة، على سبيل المثال، أن النظام في سورية لا يقدم إصلاحات وإنما هو يعمل على صياغة وعود غير قابلة للتطبيق عملياً. فقد دعا لعقد مؤتمر للمعارضة في دمشق وبعد انتهائه، وصف المعارضين بالمتآمرين. واستقبل وفداً من الأمم المتحدة، وما أن خرج هذا الوفد من مدينة ليزور أخرى حتى اقتحمتها أجهزة الأمن من أجل اعتقال من تظاهر ونادى بالتغيير أمام أعضاء الوفد. من هنا يستنتج الدكتور بشارة، خلال حديث الثورة عبر قناة الجزيرة، أن النظام يطرح، بصدد أزمته الداخلية، خياراً واحداً وهو إما أن تقبلوا هذه النظام على حاله، وإما الطوفان. وتفسير ذلك هو أن الإصلاحات الفعلية التي يطالب بها طيفاً كبيرا ً من الشعب السوري تؤدي إلى إقالة رموز النظام لا بل إلى محاكمته. ونتيجة لذلك فإن الداخل السوري يجد نفسه أمام خيارين: الأول، قبول المعارضة للمراسيم المتعددة التي أصدرها الرئيس وانتظار نتائج اللجان خلال الفترة القادمة وغير المحددة زمنياً. الخيار الثاني، أن تستمر المعارضة في التظاهر وتتحمل جزاء الشعارات التي تنادي بها، وتصبر على عنف الأجهزة الأمنية وعلى وقوع ضحايا من كافة الأعمار خلال أيام الاحتجاجات. على الشعب السوري، إذاً، إما قبول هذا النظام على حاله أو ليتحمل عواقب فتنة طائفية ستحرق البلد من جباله إلى مدنه. ليس هذا وحسب، وإنما على الشعب إما التقهقر إلى المرحلة السابقة حيث الاستقرار والأمان وأكل الخبز متاح لكل إنسان، أو سيجد نفسه وسط حرب إقليمية ستشعل المنطقة بأكملها.
وإذا كان هذا ما يعانيه المواطن السوري جزاء مطالبته بالحرية، وإذا كان تعامل الأجهزة الأمنية مع المظاهرات هو تعامل متطرف في عنفه وفي ميله لإذلال المطالبين بالتغيير، فإن هذا التطرف قابله تطرفاً من نوع آخر تجسد على المستوى العربي، إذ اقترحت سورية، خلال اجتماع وزراء الخارجية العرب، مبادرة دعتها بمبادرة لتعزيز الديمقراطية في الدول العربية. فقد نقلت أنباء الشرق الأوسط المصرية ووكالة الأنباء السورية سانا أن هذه المبادرة تتلخص في: ״رفع حالة الطوارئ، وإلغاء محاكم أمن الدولة، وضع دساتير تضمن كل الحريات، وضمان إنشاء مجالس الشعب، وتشكيل الأحزاب ذات أيدلوجيات متنوعة متعددة، وحرية عمل المنظمات غير الحكومية وتطبيق الأسس الديمقراطية والشورى والحكم الرشيد والمساواة، وصياغة قوانين فورية لحرية الإعلام وحق التظاهر السلمي״.
ما هو واضح للجميع أن هذه المبادرة قد جاءت بمثابة ردة فعل على زيارة نبيل العربي لسورية، وعلى نقله لمبادرة عربية تتلخص في ضرورة تسريع الإصلاحات، ووقف العنف، وإجراء انتخابات رئاسية، وتشكيل حكومة وحدة وطنية، فضلاً عن تشكيل مجلس شعب تعددي وصياغة دستور جديد. نستنتج عند هذه النقطة أن المبادرة التي قدمها مندوب سورية في الجامعة العربية كانت عبارة عن خطوة مبنية على ردة فعل انفعالية، لا تعبر أبداً عن قناعة بضرورة دمقرطة أنظمة الحكم في الدول العربية.
حقيقةً يمكننا التعليق على هذه المبادرة بالقول: لا يمكن لمواطن عربي غيور على وطنه، أرضاً وشعباً، الاعتراض على مشروع يتضمن تعميم النموذج الديمقراطي في الوطن العربي ومنح أفراده حق الاقتراع واختيار الحاكم، وامتلاك حق الاختلاف دون تخوينه، ولكن الاعتراض يأتي على توقيت هذه المبادرة وعلى صدورها من دولة فاقدة أصلا لكل أشكال الديمقراطية في بنية مؤسساتها وفي دستورها المطبق حالياً. بمعنى ما، بناء دولة القانون هو طموح يسعى لتحقيقه كل موطن عربي، ولكن هذه المبادرة ليست مبنية ببساطة على مشروع لفريق من السياسيين والحقوقيين السوريين الذي توصلوا لها وصاغوا مبادئها بعد دراسة وتمحيص وتحليل للواقع العربي المعاصر. هي ليست ورقة عمل تدعو إلى ضرورة السير في طريق الديمقراطية وترسيخ حرية الرأي وحق الاختلاف، وإنما هي خطوة صبيانية صادرة عن وزارة الخارجية السورية تحاول القول إننا لن نسير في طريق التغيير طالما الدول العربية غير ديمقراطية في سياستها، وأنه لن نطبق الإصلاحات التي يطالب بها الشعب السوري طالما هناك دول تمنع التظاهرات ولم ترفع بعد قانون الطوارئ ومحاكم أمن الدولة. مبادرة انفعالية قائمة على مقارنات غير موضوعية لأن ما يحدث في سورية من احتجاجات شعبية يومية لا يحدث، مبدئياً، في بعض دول الخليج على سبيل المثال. هذا ليس دفاعاً عن سياسة دول الخليج الاستبدادية، ولكن ننتقد هذا الأسلوب القائم على قاعدة أن التأسيس لنظام ديمقراطي في سورية لا ولن يبدأ إلا في اللحظة التي تبدأ كل الدول العربية في تطبيق هذا النهج. لقد بدت سورية، عبر مبادرتها هذه، قومية حتى العظم إذ تقوم بدور المخلص الرافض تخليص شعبه من الاستبداد قبل تخليص الشعب العربي عامة.
نحن إذاً أمام خيارين يطرحهما النظام في سورية، أولاً هناك خيار للشعب في الداخل متطرف في عنفه وفي نتائجه النظرية الهادفة لإيقاف المظاهرات، ذاك المتعلق إما القبول بالنظام الحالي وإما الطوفان، إما الصمت وعودة الخوف إلى قلوب المواطنين وإما الحرب تحقيقاً لمؤامرات تحاك من قبل دول عربية وأجنبية. وثانياً هناك خيار آخر يطرحه النظام للخارج والذي هو عبارة عن مبادرة لتحقيق الديمقراطية في جميع البلدان العربية، هو خيار يعلم مسبقاً أنه من الصعب تحقيقه وأنه عبارة عن ردة فعل غير مناسبة في ظرفها، وصادرة عن دولة يفتقد نظامها لأدبيات ومضامين الديمقراطية.
في الواقع يبدو لنا أن هذين الخيارين يصدران عن مؤسسات معدومة التنسيق فيما بينها، مؤسسات تبحث عن ثغرات لإنقاذ النظام من الغرق، إنهما خياران فارغان وبدون جدوى، لأن الحلول المثمرة من أجل الخروج من هذه الأزمة واضحة وطرحتها المعارضة في مؤتمراتها إلا وهي: سحب وحدات الجيش من المدن، والسماح بالتظاهرات السلمية، وبدء حوار على قاعدة الندية دون وضع شروط مسبقة وفرض خطوط حمراء(حتى هذه اللحظة لا أحد يجرؤ على مناقشة الانتخابات الرئاسية وتحديد مدة الرئاسة خلال مؤتمرات ما دُعي بحوار المدن)، وعدم تخوين المعارضة وإطلاق معتقلي الرأي. هي خطوات تساعد على الخروج من هذه الأزمة أكثر من الاستمرار في العنف وإتباع الحلول الأمنية أو من تمثل مكانة المخلص الذي يتألم لحال جميع الدول العربية دون مراعاة لشعبه الذي يقتل في الشوارع عاجزاً عن إيقاف العنف الصادر عن جهات يقال أنها إرهابية. فعجزه عن إيقاف العنف وضمان أمن المواطن كفيلان بوضع أكثر من إشارة استفهام حول شرعية هذا النظام.
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية