أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

العصفور يمكن أن يصبح فيلا في بعض الفضائيات ... محمد جمول

حين وصلت مطار دمشق الدولي لقضاء عطلتي الصيفية في سوريا بعد تردد طويل، كنت أقرأ عيون كل من أمرّ بهم لعلي أجد فيها إجابة على بعض الأسئلة التي شغلت بالي لعدة أسابيع وخلقت قدرا كبيرا من الرعب في داخلي. قلت سأعرف الواقع على الأرض بدقة أكبر حين أسير على الطريق متوجها إلى المدينة: فإذا كان الناس يتحركون في الشوارع والسيارات تسير على الطرقات بشكل اعتيادي، يكون كل ما تكوّن في ذهني غير مبرر. وإذا كان الوضع مختلفا، ومن يسيرون في الطرقات يتحركون مذعورين أو خائفين يتلفتون يمنة ويسرة، أكون قد وقعت ضحية اختياري الخاطئ بالسفر إلى سوريا، وعلي أن أتحمل النتائج التي قد يكون منها رشقة رصاص تجد فيها قناة الجزيرة الفضائية أو غيرها ممن سار في خطها الإعلامي، مادة إعلامية مسلية بطريقة غير بريئة. وربما تكتشف الجزيرة أني كنت متظاهرا سلميا بريئا عمد الجيش السوري وقوى الأمن إلى قتله، أو منشقاً عن المغتربين السوريين قتله الجيش السوري كما قُتل ابن عم صديق لي قضى مصابا بأزمة قلبية فبكته الجزيرة باعتباره عميدا منشقا على طريقتها في تزوير الحقائق.
كنت لا أستبعد أن يعترض طريقي اشتباك مسلح في أية نقطة على طريق المطار أو في أحد الشوارع التي سأعبرها. فالمحطات التلفزيونية كانت قد خلقت في ذهني وذهن كل من أعرفهم أن هذا أمر محتمل ومتوقع في كل لحظة وفي أي من شوارع دمشق أو غيرها من المدن السورية. لقد زرعت هذه القنوات قناعة في ذهن كل مغترب أن الأمن السوري والجيش يحصدان الناس في الشوارع لمجرد وجود شبهة الحياة لديهم. وهكذا كان طبيعيا أن أفترض أن هذه المدن تحولت إلى مدن أشباح، وأن المواطن السوري بات هنديا أحمر في بلده. لكن الشيئ المختلف هنا أن الجيش السوري والأمن تحولا إلى أمريكي أبيض وأن الأمريكيين تحولوا إلى ملائكة رحمة تعمل على حماية الشعب السوري من الانقراض عبر جماعات حقوق الإنسان ووكالة المخابرات المركزية التي تحولت إلى العمل الخيري والإنساني وصناعة الثورات الشعبية كما حدث في ليبيا بقصد التكفير عن ذنوبهم وجرائمهم في كل بقاع العالم الأخرى.
في شوارع دمشق كانت المفاجأة أن الناس يسيرون في الشوارع ويتسوقون ككل أيامهم الأخرى علما بأن هذا كان في يومي الخميس والجمعة. وما فاجأني أكثر أن المسطحات الخضراء في الحدائق وعلى جوانب الطرق كانت ممتلئة بالعائلات التي يبدو أنها لم تكن تتابع القنوات الفضائية، أو تتابعها من دون أن تصدقها. ما أثار دهشتي أني، وخلال أكثر من ساعتين من التجول سيرا على قدمي في شوارع دمشق، لم أجد دمشق مختلفة عن أي يوم عرفتها فيه خلال سنوات عديدة عشتها في هناك. الناس يتسوقون في الصالحية والحميدية وشارع الحمراء والحميدية كما كنت أراهم قبل عشرين عاما وأكثر، ومناطق تجمع عربات الباعة هي ذاتها منذ سنوات والازدحام هو ذاته وإن تغيرت الوجوه.
لم أستطع إلا أن أكون فضوليا وأنا أفرض نفسي على البعض كي أسألهم عما يجول في ذهني من الأسئلة التي عذبتني شهورا وأنا بعيد عن سوريا. كنت أخاف أن يكون كل هؤلاء الذين يتحركون في شوارع دمشق ويتسوقون من محلاتها مجرد عملاء للأمن السوري يؤدون مسرحية تظهر الحياة عادية في دمشق فقط لتكذيب قناة الجزيرة وكتائبها الإعلامية. وكان أحد الذين تحدثت إليهم صاحب واحدة من أعرق مكتبات دمشق. كنت صريحا معه وأنا أقول له إني أجد صعوبة في تصديق ما تراه عيناي وما ألمسه من تناقض كبير بين الصورة التي تكونت عندي عن دمشق وأنا خارج سوريا وما أراه الآن في شوارعها. وبمنتهى الهدوء والوقارقال لي: ما تراه هو الحقيقة بغض النظر عما تقوله هذه القنوات. والشعب السوري على درجة عالية من الوعي والوطنية تجعله يرفض ما آل إليه العراق وما يراه الآن في ليبيا. لقد رأى نتائج الديمقراطية الأمريكية في العراق ولا يريد مثلها، وهو على قدر من الذكاء يجعله يدرك أن المخابرات المركزية الأمريكية لا تعمل لوجه الله، ومن غير المنطقي أن تقوم بدعم ثورات الشعوب وهي التي كانت ولا تزال عدوة الشعوب، ومثال فلسطين أوضح من أن يحتاج شرحا.
بالتأكيد لم تكن كل سوريا هادئة، ولا يعني ذلك أن البلاد لا تشهد أزمة كبيرة تطال حياتها بكل جوانبها. فالشعب السوري كله يعرف أن هناك دما سوريا يراق في كل يوم. والشعب السوري يعرف أن هناك" متظاهرين سلميين مسلحين" يمارسون القتل ويصطدمون بالجيش وقوى الأمن، وهناك متظاهرون سلميون فعلا. وهذا يعني أن القنوات الفضائية لا تقول الصدق وليست حريصة على حياة الشعب السوري. فما لمسته أن هذه القنوات كانت تتحدث عن بلد اسمه سوريا غير البلد الذي قضيت فيه شهرين. كان واضحا أن سوريا الافتراضية التي تتكلم عنها هذه القنوات مختلفة بنسبة كبيرة عن سوريا الحقيقية التي كنت أعيش فيها. لقد لمست أن العصفور في سوريا الحقيقية يمكن أن يصبح فيلاََ في سوريا الافتراضية التي صنعتها هذه الفضائيات.


(93)    هل أعجبتك المقالة (100)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي