ترددت كثيرا قبل أن أنشر تجربتي وكنت أقول أن الوقت لم يحن ،لكن وبعد مرور أربعة أشهر من بداية الحصار في درعا ،وحتى أسجل حدثا سبقني فيه كثير من الزملاء الصحفيين إن كان مراسل رويترز أو مراسلة الجزيرة أو المراسلين الآخرين.
قد تختلف تجربتي عن البقية ،والفرق أن هؤلاء الزملاء سافروا إلى سوريا من أجل تغطية الحدث بعدما حدث ؛ولكن ما حصل معي وجودي في سوريا قبل الحدث لقضاء الإجازة ،فكان ما كان يوم الثامن عشر من شهر مارس آذار ومن تجليات القدر أني كنت يومها في درعا .
لا أريد إعادة رواية تناثرت بها صفحات الإنترنت وصحائف الورق ،وليس تقليلا من شأن بداية الشرارة وانتشار النار في الفتيل الذي أشعل ما سمي لاحقا(الثورة السورية ثورة الكرامة) ،نعم ثورة الكرامة قد لا يشعر معنى هذه الكلمة إلا من يعش ذلك في سوريا
بقيت في سوريا متنقلا بين المحافظات حتى أنقل الخبر كصحفي سري ،حتى جاء اليوم الذي تواتر فيه بين الناس عن عملية عسكرية كبرى في درعا ،جهزت أغراضي وكل ما أحتاجه من أدوات تقنية (كاميرا شريحة اردنية ولاب توب)
وبعدها سرت منتقلا إلى درعا يوم الخميس الواحد والعشرين ،لم أكن لأحتسب التوقعات وماذا سيحدث؟ لكن هناك أحداث كانت أسوأ التوقعات أن تكون عملية عسكرية أقلها ساعات وأكثرها يومان.
تجولت بالمدينة ؛كانت خالية من الأمن وحتى الشرطة،و هناك بعض الجيش على مداخل المدينة ،الناس متوجسون من عملية عسكرية برغم سرورهم لعدم وجود الأمن فيها لأنهم بظنهم (إذا دخلوا قرية جعلوا عاليها سافلها ولم يرحموا شيخا ولا طفلا أو امرأة) .
مساء ذهبت لمكان الاعتصام عند الجامع العمري بدرعا البلد وتكرر ذهابي لهناك ،الناس محتقنون تجاه النظام ،لكن كانوا على قلب رجل واحد، لم يكن أي نوع من التخريب أو السلاح أو أي مظاهر عنفية حتى النساء والأطفال كانوا يتواجدون بينهم،ويهتفون للكرامة والحرية.
جاء يوم الجمعة ؛الأيدي على القلوب من مجهول قادم ،وحدثت مجزرة إزرع ،مجزرة مروعة استخدم فيها الأمن رصاصا خارقا متفجرا على زعم الأهالي بل إن الصور التي وصلت تؤكد ذلك؛ومنها صورة ذلك الشخص الذي تفجر وجهه وفكه والطفل الذي خرج مخه.
قابلت الأهالي لأعرف الخبر
قالوا إن الأمن والقناصة امتطوا أسطح صوامع القمح ،وقسم كان يلبس لباس الجيش ما إن خرجوا من الجوامع ومروا بجانب السكة الحديدية حتى بدا إطلاق النار وصارت مجزرة كبيرة ، قمت حينها بإجراء اتصالات مع إطباء من مدينة إزرع وأكدوا لي جرح وقتل العشرات،وبعادة أهل درعا يأتي الناس للتشييع باليوم الثاني من أغلب المدن والقرى، وحدثت مجزرة أخرى عند جسر الشيخ مسكين و محاولة لاغتيال الشيخ أحمد الصياصنة ،وبعدها حدثت حركة الاستقالات الشهيرة الشيخ رزق أبازيد مفتي درعا وناصر الحريري نائب في مجلس الشعب(وقد تراجعوا عن الاستقالات لاحقا) ،وغيرهم ممن ثبتوا على استقالاتهم برغم الضغوط التي مورست عليهم من جهة أجهزة الأمن بل تم ضرب أهلهم فيما بعد.
تم إرسال الجرحى إلى مشفى درعا الوطني الذي كنت بجانبه آنذاك و كان محاطا بمجموعة من الشباب تحسبا لمنع الأمن من خطف الجرحى على حد قولهم أن لهم مع الأمن تجارب سابقة؛ وحصل ماكان في الحسبان ،جاء الأمن وحاول الشباب منعهم فبدأ إطلاق نار كثيف جدا قمت وقتها بالهرب من المكان، ولم أعرف ماذا حدث إلا أن هناك مجموعة من الشباب اتصلت بالمشيعين ،وأخبرتهم أن يرسلوا باقي الجرحى والشهداء إلى مشفى نوى وأن يكونوا يقظين من الأمن،بعد عودة وفود التشييع كان الوضع متوترا جدا واحتقان شعبي غير مسبوق،وصلني من مصادر مؤكدة يومها أن فرع الأمن العسكري في نوى توجه إلى مشفى الوطني بنوى ليخطف الجرحى فقام الشباب بمنعهم بما عندهم من وسائل بسيطة، فهرب الامن ولكنهم أطلقوا النار بكثافة ويومها حدث ما سمي بمجزرة الأمن العسكري الذي أخرج لاحقا التلفزيون السوري مقابلات مع من سمتهم إرهابيين ومسلحين قاموا بقتل عناصر الأمن، (وقد تأكدت من مصادر خاصة لي وبالوثائق التي ستخرج يوما أن من قتل عناصر الأمن ونكل بهم هم عناصر من أمن آخر ولن يتم ذكر التفاصيل الآن وذلك لأسباب أمنية)
صار هناك إحساس منتشر في درعا عن اقتراب العملية العسكرية وذلك خلافا لوعود النظام أن الإصلاحات سيراها الشعب (وكان موعد الإصلاحات المفروض يوم الإثنين 25 من نيسان إبريل).
كانت درعا تخرج بكميات كبيرة في ساحة الجامع العمري(أو ماسموه الأهالي ساحة الكرامة) ،وعند القصر العدلي الذي كان بطلها دائما المهندس معن يوسف العودات (أبويوسف).
لم أرى بدرعا على مدة بقائي فيها أي عملية سرقة أو مشاجرة بسيطة، بل كانوا يومها متفقين كنت أحضركثيرا إلى الجامع العمري والساحات ،خاصة حين خرج الأمن والشرطة من درعا فقد كانت آمنة مطمئنة ولا تحدث القلاقل إلى بوجود المخابرات والأمن.
يوم 24 من نيسان إبريل بدأ الأهالي بوضع الحواجز في درعا حين تنامى إلى الأسماع عن وجود عملية أمنية في مدينة نوى التابعة لمحافظة درعا.
قمت بجولة في المدينة لم أرى قطعة سلاح واحدة و أخطر مايحمله الشباب عصي وبعض الحجارة
جاء الليل وكانت درعا قلقة وإرهاصات بخطر قادم
كنت ذلك الليلة مستيقظا أكتب بعض التقارير والمقالات الصحفية
وعند الساعة الرابعة والنصف فجرا تم قطع الهواتف الخلوية والأرضية
الخامسة إلا ربع فجرا تم قطع الكهرباء
الخامسة إلا عشر دقائق بدأت ساعات الرعب وإطلاق كثيف للرصاص
لا أعلم كيف أشرح تلك البداية ولكن أقل مايقال عنها أنها حرب حقيقية لكنها من جهة واحدة
*********************
زخات رصاص عنيف شقت عتمة الليل ،وهزت هدوء الفجر
خرجت أنظر من النافذة وكأنها ساحات حرب حقيقية لكن لم تصل القطعات العسكرية إلى مكان إقامتي ،وكانت هذه آمن منطقة موجودة، خرجت إلى الشارع
رأيت الأهالي متوجسون وبعد قليل تم توزيع القناصة في المنطقة التي كنا فيها ،وسمعنا نداء من الأمن بعدم الخروج من المنازل حتى إشعار آخر ، وبدأ حظر التجول الذي كان نتيجة من يخترقه (الموت) ولو ذهب لإحضار بعض الطعام من الحارة المقابلة .
حظر تجوال استمر (ثمانية أيام متواصلة بلياليها)
لم نسمع يوما عن حظر استمر اكثر من يوم إلا في سورية، اعتلت القناصة أسطح كل شيء حتى المساجد والمآذن والمدارس وبعض المنازل قيد الإنشاء ؛ مدعومة أحيانا بمايسمى (بي إم بي) وهي شبيهة بالدبابة و(بي تي آر) .
بدأت الأخبار تصل عن انتشار للدبابات والعدد بالتزايد ،حاولنا اعتلاء الأسطح لنرى ماذا يحدث لكن كان القناص جاهزا لاصطياد أي خيال يراه ،كنا نسمع جميع أنواع السلاح حتى القذائف والقنابل ، زجاج البيت يهتز ؛بل أكاد أقول أنه نجى من الكسر بأعجوبة، لحظات بدأت أشق على النفس وأصعب اللحظات ؛ نحن سنموت بأي لحظة لأنه ومع زخم الرصاص بعض المقذوفات المنتهية مداها ولم تلقى هدفا صارت تتساقط على الشرفات والأسطح والطرقات ،وهي إن لم تكن قاتلة فقد تسبب ضررا كبيرا ، بدأ اليوم الأول سبع عشرة ساعة متواصلة لم يقف الرصاص لحظة ،ثم توقف وكأنها استراحة محارب ،لكن محاربٌ يحارب شعبا أعزل ؛توقف لمدة خمسة دقائق ثم عاد، نسمع بعض الأطفال يبكون، وحين بدأ الليل يسدل أستاره خرجت الأهالي على أبواب بيوتها وبالشرفات بالتكبير .
التكبير ذلك الرعب الذي كان يخاف منه الأمن والجيش ؛ و سلاح الناس الوحيد الذي بين أيديهم
سلاح يرعب الأمن؛ كلما كبر الناس ازداد زخ الرصاص والقنابل
درعا بالليل تهتز بالتكبير
اتفق الأهالي أن تكون الساعة الثامنة مساء هي للتكبير ، لا تعلم من أين يخرج الصوت أهل البلد يكبرون فيرد عليهم أهل المحطة فيستبشروا لتقوم المخيمات بعدها بالتكبير.
لم أشعر يوما من الأيام إحساسٌ بهيبة التكبير وجلاله إلا عند مروري بتلك التجربة لأنها سلاح الضعيف.
حاولت استخدام الخط الأردني لكن التقاط الشبكة صعبا من المنطقة التي أنا فيها؛ خصوصا أن النظام استجلب تقنيات للتشويش، والكهرباء بقيت مقطوعة لم تأت إلا في اليوم الأول عند الساعة التاسعة صباحا ولمدة ربع ساعة ثم قطعت، وكأنهم ندموا على إحضارها.
صار الناس يخاطرون ويركضون ليبعثوا الطعام والدواء لجيرانهم ؛ولو كلفهم حياتهم وقد مات الكثيرون، أخبار القتل تتوالى ؛أول ما وصل إلينا قتل وسرقة محل وحرقه بعد سرقه ومات فيه شاب فلسطيني اسمه حمزة البكر عند أول المخيم وقد ظهرت صورته بعد ذلك محروقا.
كان المخيم أكثر منطقة آمنة لأنه لم يكن فيه غير ثلاثة قناصين ودبابة واحدة في مدخلها ورشاش (14ونصف)
نعم أنا لا أستهزئ بل برغم هذه الآليات والمعدات كان أكثر منطقة آمنة ؛ بسبب وجود أزقة ضيقة يتنقل فيها الناس لكن لم يبق بشارعه الرئيسي لا سيارة ولا شيئا إلا وضربوه ورشوه بالرصاص حتى مولدة الكهرباء الموجودة بجانب معهد تعليمي وهي المولدة المغذية للمخيم رأيت ذلك لأني كنت أذهب لأغطي الأخبار
كنت أركض برغم الرصاص المنهمر
المخيم هو الداعم اللوجستي للأهالي قاطبة و لأهل البلد خصوصا (كان مصدرا للطعام والماء والدواء) وبرغم من مات من الضحايا ،
كان الفلسطينيون وبشكل لافت يخاطرون بأرواحهم ،أدى ذلك إلى ألفة بين أهل درعا والمخيم لم ير نظيرا سابقا.
طريق المسبح والوادي هو الطريق الوحيد الأكثر أمانا إلى درعا البلد يعرفه أهل درعا ومن يسكن فيها،أغلقت المستشفيات ومنع الوصول إليها لأنها أصبحت أوكارا لعلاج رجال الأمن فقط، ولا أنسى منظر تلك المرأة التي هزت العالم وكنت قريبا منها حين قنصت هي وابنها على الدراجة النارية ثم سحبت بأسياخ الحديد؛
ماتت الأم لكن ابنها لا يزال إلى آخر عهدي بدرعا يبكي لأنه حمل نفسه سبب موتها ، فهو مريض بالكلى ويحتاج لغسيل وأصرت الأم أن تذهب معه لعل رحمة الأم تشفع له عند الأمن والقناصة فيسمحوا له بالوصول إلى المشفى؛ لكن عاجلهم الأمن فقتلها وأصيب ابنها لكنه لم يمت،
كان على سطح المشفى الوطني قناصين وأمن ، لذا لم يتواجد مكان لمداواة الجرحى إلابعض منازل أعدت لذلك ، أشهرها في المخيم بمنطقة المحطة ،والآخر جامع إرشيد بدرعا البلد الذي سجي فيه أسامة بن الشيخ أحمد الصياصنة قبل أن يخطفه الأمن هو جثة هامدة لاحقا، مات بنفس اليوم تقريبا رجل آخر عرف بأنه من أقوى رجال حوران وهو أبو أحمد موسى الطفوري وهو فلسطيني كان دائما يتنقل بين درعا البلد ودرعا المحطة والمخيم لتوزيع المعونات وبعض الأغذية حتى قنص وهو على دراجته النارية في درعا البلد، ومات من قلة تعويض الدم المنزوف وسجي أيضا في جامع إرشيد.
لن أذكر كل التفاصيل في 15 يوما كل لحظة فيها تستحق رواية كاملة ،لكن سأسلط الضوء على بعض الأحداث التي غابت أو تناثرت ولم توثق ، مرت أيام وأيام بدأت الأطعمة بالنفاذ ،و تعفن ما بقي في الثلاجات والبرادات وانتهت الشموع التي استضاء الناس عليها ؛ وقد بدؤوا باختراعات واستخدام الزيت ووضع الفتيل لإضاءة البيوت.
الجثث هيئ لها برادات للخضار أحدها أظهره الناشط الحقوقي عبدالله أبازيد(وهو عمر عللوه) الذي كان أول أمره في درعا البلد ثم انتقل لمكان آخر آمن ،وبعدها بفترة قريبة غادر سوريا وهو الآن أظهر هويته وبدأ يظهر لوسائل الإعلام ،لن أذكر المكان وذلك لأسباب أمنية ؛قد تكون الصدفة هي التي جمعت بعض المطلوبين في أماكن متقاربة من بعضهم وهي المنطقة الأقرب لدرعا البلد؛طبعا المطلوبون كانوا هم الوفد الذي قابل رئيس الجمهورية بالإضافة لكل شخص تحدث لقناة فضائية.
من أوائل المطلوبين كان الشيخ أحمد الصياصنة والشيخ محمد عبدالعزيز أبازيد زالشيخ المهندس مطيع البطين (وقد تم اعتقال الأول والثاني وحاولوا قتل الثالث)
وهم من أعضاء الوفد الذين قابلوا الرئيس
وكان ايضا المهندس خليل رفاعي عضو مجلس الشعب المستقيل الذي ضربوا والده لأن ابنه لم يكن في البيت.
الشيخ أحمد الصياصنة سلم نفسه لاحقا وذلك بعدما قتلوا ابنه الأول و هددوه بقتل الآخرين خاصة أن منهم يخدمون مايسمى بالخدمة العسكرية الإلزامية؛
ثم خرج لاحقا على الإعلام الرسمي يحاوره الضابط في الجيش علاء الدين الأيوبي( مذيع وينتمي للمخابرات) ،الحوار بحسب العرف الإعلامي لا ينتمي لأي نقاش، بل تحقيق مخابراتي بامتياز؛أما الشيخ محمد أبازيد تم الإفراج عنه واعتقاله عدة مرات وتم تعذيبه.
القائمة طويلة ،الغريب بالإعلام الرسمي ما أظهره عند انتهاء العملية العسكرية التي مازالت درعا قابعة تحت آثاره إلى اليوم ؛
أظهرت زعيم العصابة المسلحة وهو شاب معروف بخلقه وطيبته عند أهل درعا البلد، و من الشبان التي حملت على عاتقها البقاء على ساحة الكرامة نظيفة منظمة ،وليس له أي نشاطات إرهابية أو عدوانية ؛الشاب هو إبراهيم نايف المسالمة الذي خرج بصورة مؤلمة وقد نزعوا منه النظارات الطبية التي لا يكاد يرى بدونها.
وصل لأسماعنا عدة مجازر حصلت أثناء محاولة أهل القرى فك الحصار عن درعا منها مجزرة صيدا الذي ادعى الأمن بطريقة فكاهية؛ أن الأهالي ذهبوا يريدون سبي نساء الضباط (شر البلية مايضحك) ،لأن مساكن الضباط تم تفريغ أغلبها وإبقاء بعض العناصر قبل العملية العسكرية ؛ العناصر المتواجدة هم الذين باشروا الناس وأطلقوا عليهم الرصاص.
ومجزرة أخرى لم تأخذ في الإعلام صيتا ، مجزرة لقرى أخرى عند بلدة تل شهاب (بجوار معمل القازوز)
أحداث توالت ولعدم ارهاق القارئ الكريم سأكتفي إلى هنا، فلقد خرجت بأعجوبة من درعا التي ماعاد يستطيع أحد الخروج منها إلا بموافقة من محافظ درعا شخصيا ،وكأن درعا أصبحت منطقة معزولة، ولم تنته هذه الموافقات إلا بعد أسابيع من انتهاء العملية الأمنية العسكرية.
ذهبت بعدها إلى المطار لأسافر وأجدد نشاطي من هذه التجربة القاسية، لأعود بعدها بشهرين ليُكتب لي أن أدخل إلى أحد المعتقلات السورية.
التهمة كانت نية التظاهر وسبب الاعتقال مروري بمكان يُحتمل أن تخرج فيه مظاهرات بعد ساعات، نعم إنها قصة واقعية وليست كوميديا بل قد تكون (كوميديا سوداء)
تم اعتقالنا واقتيادنا كالخراف إلى مكان مجهول و تم إغلاق وجوهنا بملابسنا ،ووضعوا رؤسنا تحت مقاعد الحافلة التي أقلتنا إلى فرع أمني،تم إنزالنا وسوقنا داخل الفرع ووُضعنا على الحائط ،حاولت استرق النظر رأيت شخصا معتقلا ومعه طفل ؛علمت فيما بعد أنه ابنه( طفل لا يتجاوز عمره الست سنوات)
وبعد إهانات تم أخذنا واحدا واحدا وتسجيل أسماءنا، وأخذ كل ما في جيوبنا وممتلكاتنا ؛وللحقيقة تم إرجاع أغراضنا عند الخروج( أو لعلي أنا فقط لا أعلم بقية المعتقلين )أدخلونا إلى غرفة وطلبوا منا أن نتعرى من ثيابنا، فهمست في أذن العنصر لنتعرى واحدا واحدا على انفراد وهذا أضعف الإيمان وليس تعري جماعي!!! فسبني وبدأت أنا والمعتقلين بخلع ملابسنا وتذكرت سجن أبوغريب في العراق وقلت لهذه الدرجة قيمة الإنسان عندهم.
كانت أول مرة بحياتي أتعرى أمام مرأى العباد ،والسبب التفتيش ،لعلهم ظنوا أن المعتقلين يحملون صواريخا في أجسادهم !!!!!!!!!!!!!!!!!! لم أرى بحياتي جهلة وحمقى كالذين رأيتهم.
بعد هذه التجربة العصيبة سمح لنا العنصر الجاهل بأن نلبس ثيابنا ،بعدما فتش حتى الملابس الداخلية،أدخلونا إلى غرفة ثم أخرى وأخرى غيرها نسيت عدد الغرف لكن العامل المشترك أن العرق بدأ يتصبب من أقفيتنا من شدة الحر ،كان يظهر في وجوه العناصر البلاهة والحمق وهذا ماظهر جليا بالتحقيق،بعدها أدخلونا على غرفة بها فتحة نرى منها الشمس، كانت صغيرة جدا ،وكنا ما يقارب السبعين شخصا متنوعون بين أطفال وشباب وعجزة و كبار السن ؛بالإضافة لمهندسين وطلاب جامعيين ومدرسين ،جلسنا بها مايقارب الساعة لم يكن فيها لا مرحاض ولاماء، ثم بدأوا بإدخال شباب يتصبب منهم الدماء كالماء ،رأيت بشر تم تعذيبهم تعذيبا لا يطاق ورموهم كالخرقة البالية ، تهمتهم أنهم كانوا في مظاهرة إما كمشاركين أو مشاهدين،ونحن في هذه الغرفة سمعنا أصواتا أجبر الأمن فيها معتقلون بالهتاف لبشار الأسد، ثم جاء وقت توزيعنا على الزنزانات ، أخذونا تحت الأرض في غرفة لم ترى شمسا في حياتها ، كانت رائحتها كريهة و فيها خرق ،قمنا بإمدادها على الأرض لنجلس عليها ، رائحة الخرق كرائحة الصرف الصحي وكأن هذه الخرق من موروثات الإحتلال الفرنسي من سوئها وتعفنها واحتوائها على شوك وبق، و في الزنزانة مرحاض لم يتم تنظيفه في حياته.
اجتمعنا في هذا (القاووش) الزنزانة واختلطت روائح الدماء مع روائح الخرق بالإضافة للمرحاض ،نشرب المياه من حنفية المرحاض التي نستخدمها في المرحاض(أكرمكم الله)، الشباب في غالبتهم بنفسية عالية برغم الإهانات وأقسم منهم أنهم سيشاركوا في المظاهرات إذا خرجوا ؛برغم عدم مشاركتهم من قبل هذا الإعتقال ، والذين مسكوهم في المظاهرات كانوا مصرين على إسقاط النظام ،
كان هناك فتحة صغيرة بعد حاجز بين حديد يظهر منها سطح الأرض قام بعض الشباب بالتسلق ليرى الشمس ،ويخبر المعتقلين بأوقات الصلاة وفجأة وهم متسلقون فتح أحد السجانين الزنزانة فرأوهم وأخذوهم وضربوهم وأعادوهم لنا.
أحضروا لنا الطعام مرة واحدة وكان قصعتين صغيرتين من البرغل وقصعة من المرقة مع خبز يابس ، أحضروه لسبعين شخص، لم يأكل إلا قلة ولم نرى بعدها الطعام لمدة يومين كاملين غير خبز يابس لا يصلح للدواب، في اليوم الثاني وعلى حسب التقدير أن الوقت كان في منتصف الليل حين أخذونا للتحقيق كالدواب ،وهم يقولون لنا سنحرقكم بالبنزين ،جهزوا لنا أكثر من محقق ؛ولكل محقق عدد من المعتقلين ؛ومازالوا يقتادونا كالدواب ؛أسئلتهم غريبة وسخيفة(متى آخر مرة شفت بندر؟؟
كم أعطاك بندر؟ شو رأيك بالنظام؟؟!! شو رأيك بالرئيس؟؟بتصلي أو لا؟؟ )
المهم بعدما أيقنوا ببراءتي أخرجوني لكن لم يخرجوني (لسواد عيني) فقط بل لإحضار معتقلين جدد ؛وإفراغ بعض المساحات لنزلاء آخرين ؛لذا وأنا على يقين إن استقر هذا النظام فسيسجن كل الشعب السوري وسيكون ضيفا عندهم ،لأنهم وبغضون يومين تم اعتقال مايقارب الألف شخص ،هذا بفرع مخابرات واحد فكيف بغيرها
خرجت من الاعتقال ورأيت الشمس، أوقفت سيارة أجرة ، كان شخصا مؤدبا أوصلني لمكان إقامتي ولم يأخذ مني ليرة واحدة عندما علم قصتي.
هذه تجربة وإن كانت طويلة إلا أني حاولت الإختصار ،لأوثق لمرحلة وتجربة غريبة يمر بها قطر عربي ، دخل مايسمى (الثورات العربية) بعدما كان من المستحيل أن يقوم سوري ويحتج على نظام حكم الشعب بالحديد والنار ومازال...........
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية