أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

جفت الأقلام . .. سعاد جروس

استيقظ الوسط الثقافي السوري صباح الخميس على خبر الاعتداء بالضرب المبرح على رسام الكاريكاتير العالمي علي فرزات وسط العاصمة دمشق وعلى مرأى من المارة، كان في سيارته على الطريق من بيته فجراً ككل يوم، ولم يتوقع أن يتربص به ثلاثة رجال ملثمين ليكيلوا له ما بوسعهم من ضرب وركل وإهانات، بغية تلقينه درساً في “التربية الأخلاقية” شديد البلاغة: “سنكسر أصابعك التي ترسم بها”!!
الرسومات الساخرة، بمعانيها الحادة كالشفرة هي السبب، وليس أي شيء آخر. وبعد أن اقتادوه بسيارتهم مكبلاً وأشبه بجثة هامدة رموه على طريق المطار. هناك حيث لم يجرؤ أحد من أصحاب السيارات الفارهة على إنقاذه، وحدهم عمال بسطاء قادهم القدر إلى المنطقة بعدما تصادف تعطل السيارة البيك آب التي تقلهم إلى جوار علي فرزات الغارق بدمائه، فسارعوا إلى حمله إلى المستشفى. وكان عزاؤنا كمثقفين وعزاء جمهوره أن فرزات الذي انحازت رسوماته منذ انطلاقته للمواطن العربي المهمش والمقهور لم ينقذه من موت محتم سوى مواطن مهمش ومقهور.
أمام هذه الحادثة المريعة والتي تعتبر سابقة في الحياة الثقافية السورية يلفنا الوجوم. فهل يعقل أن يتعرض فنان بقامة علي فرزات وشهرته لهذا النوع من الضرب الوحشي وسط العاصمة دمشق التي كانت على الدوام الحضن الآمن وقبلة الفنانين والمثقفين العرب وسائر الهاربين من ظلم أنظمتهم واستبدادها؟! هل ضاقت سوريا بأهلها إلى حد بات فيه من العادي جداً والمألوف الاعتداء على رمز ثقافي في وضح النهار، وكأن الثقافة والمثقفين السوريين، لا كلمة أو جزاء لهم سوى الإهانة والضرب؟!
لا نريد أن نصدق أن هذا يحصل في سوريا، فلا يليق بحضارتها جنون من هذا العيار الثقيل لا يجر سوى سوء السمعة، ومزيد من الاستفزاز، ومزيد من الغضب، وكل ما من شأنه أن يبقي نيران الأزمة ملتهباً. لا نريد أن نصدق، وسنقول ما قاله الزعيم الوطني فارس خوري عندما انتقده رفاقه من السياسيين لقبوله حل البرلمان لدى قيام حسني الزعيم بأول انقلاب عسكري في تاريخ العرب المعاصر في العام 1948 والذي فتح الباب لتقدم العسكر وتراجع السياسة، وأيضا لاعترافه بحسني الزعيم رئيساً للبلاد، حينها قال” “إذا مجنون رمى حجراً في البئر قد يحتاج الأمر لأكثر من مئة شخص عاقل لإخراج الحجر”.
المشكلة أن الذين يرمون الحجارة في بئر الوطن يتكاثرون والعقلاء يتناقصون.
إضافة لحادثة الاعتداء على علي فرزات، وفي الوقت ذاته كان ثمة من يشعل فتيل فتنة طائفية في مكان آخر من البلاد، ويسعى بكل جهده لدفع الناس لارتكاب الحماقات، وآخر يدعو لحمل السلاح، وثالث يطلب التدخل الخارجي، ورابع يمارس القتل العبثي بهدف بث الفوضى والرعب، وخامس يطلب الثأر... الخ، مع وجود فرقاء في كل مكان يتمترسون وراء أفكارهم المسبقة ويقصفون المختلف عنهم بقاموس من الاتهامات والشتائم، لأن لكل فريق رواية ورؤية لا يتزحزح عنها في واقع يتعقد ويعقد معه النفوس.
حين يغرق العقل في مستنقع الدماء، ويطفو على السطح سعار الحقد والكراهية، يفقد الكلام معناه، ويصبح قول كلمة الحق عملاً فدائياً، لأن أحداً في بلاد الصم لن يسمع، وأيضا لأن أحدا ما مهمته قتل الحق وإسكات الناطق بالحق.
أكتب هذا على الضد من قناعتي بأهمية الكلمة في الأوقات العصيبة، لكن ما تعرض له الفنان الصديق علي فرزات أوجعني، وكأنما العصي التي انهالت على أصابعه كسرت أصابعي وأصابع سائر الجسم الثقافي السوري. فهذه ليست سوريا التي نعيش فيها ونحبها وبأرواحنا نفديها، ربما هذه أدغال الغابات الإفريقية التي تفاجئنا مطلع كل صباح بمشاهد وحشية يصعب تحملها. وما جرى لعلي نموذج كاف لجعل الحزن والقنوط يتمكن من أقلامنا ويغرق كلماتنا بالأسى. وحرصاً على ألا تتحول زاويتي (أما بعد) إلى منبر للنواح وإشاعة اليأس أعلن توقفي عن كتابتها على الأقل في هذه المرحلة الشقية.
أعلن هذا وكلي ألم لفراق زاوية شرفتني بكتابتها أسبوعياً مجلة (الكفاح العربي) بشخص صاحبها ورئيس تحريرها الأستاذ وليد الحسيني الذي تعلمت منه معنى احترام المهنة والمهنية، والثمن الباهظ للثبات على المواقف في زمن الانقلابات والتقلبات. وبشخص مديرها المسؤول الأستاذ سامر الحسيني الذي كان نعم الزميل والأخ الذي لا حدود لطموحه للتجديد. وسائر أسرة التحرير؛ أسرتي التي أحاطت قلمي بعنايتها لينمو على صفحات (الكفاح العربي).
ولا أكشف جديداً في القول إنه عندما أوصدت بوجهي الأبواب في بلدي، فتحت (الكفاح العربي) صفحاتها لي مع زاوية ثابتة للإطلال على القراء السوريين وطرح قضايا تمسهم، كبيرة كانت أو صغيرة، لأعبر عن رأيي بحرية، لسنوات عدة لم أتلق فيها أي ملاحظة ولا تدخل أو منع أو حذف، مهما اختلفت بالرأي معهم، ومهما جرّت مقالاتي على المجلة من متاعب كنت أعلم بها لاحقاً، كما كنت أعلم كم دافع الأستاذ وليد عن حقي في الاختلاف.
مهما قلت لن أفي مجلة (الكفاح العربي) حقها. وحسبي التأكيد أن هذا القرار واحد من أصعب القرارات التي اتخذتها في حياتي، فمنذ بدأت الكتابة في المجلة، لم أتخيل أن يأتي يوم اعجز فيه عن الاستمرار بكتابة زاوية (أما بعد..) لكن ما جرى ويجري في سوريا، لم يترك لي أي فسحة للبوح.
جفت الأقلام و رفعت الصحف.

الكفاح العربي
(99)    هل أعجبتك المقالة (103)

د . جمال شحادة

2011-08-28

لا لا وألف لا لن نقبل توقفك فأفكارك ملكنا نحن زملاؤك وقراء مقالاتك التي تفيض لامنطق والحق ، كيف تحرميننا من حق اعتدناه واعتدنا وجوده ؟ من أين لنا بسعاد جروس أخرى تحدثنا عن سلبيات بوطننا وتنبهنا عليها لنقتلعها من جذورها ويكون وطننا نقيا منها ومن غيرها ، ما خطر على بالنا أبدا أن تتوقفي نريد منك المزيد في هذه الأيام ، والجندي يكون مهما أكثر عند احتدام المعارك وذلك مع العدو وليس مع أهله وأبناء وطنه كما يحدث في سورية فأنت أعظم من جندي في قتال السلبيات التي تضر بالوطن ، نتمنى أن تتراجعي عما فكرت ِ به من أجلنا من أجل الوطن ولك تحياتنا..


التعليقات (1)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي