أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

اقتحام حماه: تنازع المجال وبلاغته بين النظام السوري والثورة الشعبية... محمد حيان السمان


على جدار مبنى حكومي يشرف على ساحة العاصي بحماه, تركت قوات الأمن السوري هذه العبارة الموجهة لشباب الثورة في المدينة: إن عدتم عدنا !!
الدلالة المباشرة للعبارة والمكان الذي كتبت فيه وسياق الأحداث.. كل ذلك يشي بالهدف المركزي للعملية الأمنية التي قامت بها قوات الجيش والأمن السوري في حماه منذ مطلع آب الحالي, وذهب ضحيتها ما لا يقل عن 300 شهيد ومئات المعتقلين, فضلاً عن دمار كبير لحق بالمدينة. ويتمثل – الهدف – في السيطرة على ساحة العاصي, وإنهاء الرمزية التي باتت تشكلها, وتفتيت الكتلة البشرية التي شغلت المجال رمزياً وبلاغياً خلال أسابيع عديدة, حتى بدأت تأخذ طابع النموذج القابل للتعميم والتداول في ساحات المدن السورية كلها.
لقد كانت ساحة العاصي, وطوال 40 عاماً, مجالاً مركزياً لاستثمار وتوزيع سلطة النظام وتمثيلاته العديدة, وبخاصة في المناسبات الوطنية والسياسية. وكان الجمهور يشغل الساحة بوصفه متلقياً للتمثيلات ومنفعلاً بالخطابات وخاضعاً للنظام الحاكم: سيد المجال ومحتكر رموز السلطة فيه, ومنتج وموزع ومستثمر بلاغاته المتنوعة. وقد وصل هذا المنحى ذروته في آذار عام 1982. فغداة استكمال الجيش السوري سيطرته على المدينة بعد أعمال عنف مروعة, ومجازر ذهب ضحيتها آلاف المدنيين, أصدرت السلطات تعليماتها بترتيب مسيرة مؤيدة للنظام يحتشد خلالها الآلاف من أهل المدينة في ساحة العاصي للتعبير عن ولائهم التام وإذعانهم الأخير.
في الأحداث الأخيرة تمت السيطرة – ولأول مرة - من قبل شباب الثورة على هذا المجال المركزي من مجالات سلطة النظام في المدينة, وتم تحويل رصيد القيمة البلاغية والرمزية للحشود في ساحة العاصي من حساب النظام وسلطته إلى حساب الثورة وحراكها الشعبي ومطالبها الجذرية. لقد استطاع الثوار بامتلاكهم المجال في ساحة العاصي, تفريغه فوراً من كل تمثيلات النظام وسلطِه البلاغية والرمزية والمؤسساتية, ليصنعوا هم سلطة بديلة قائمة على شرعية الحراك الشعبي ومطالبه الإصلاحية.
* * *

اعتمدت البلاغة الجديدة للمجال وشاغليه من المحتجين, عدداً من العلامات والأساليب شكلت في مجموعها تحدياً مباشراً لسلطة النظام وبلاغته, لأنها قامت على النقد المباشر والقوي لرموز السلطة بفسادها واستبدادها. واستخدمت البلاغة الجديدة للساحة أسلوب السخرية والضحك الجماعي الاحتفالي المتصل بسياق الإنشاد والغناء والهتافات المدوية التي ساهمت, كمجموعة علامات بلاغية, في كسر حاجز الخوف بشكل كامل, واستقطاب المزيد من الحشود, حتى باتت ساحة العاصي تشكل مصدر قلق حقيقي للنظام, ومثالاً يمكن تعميمه بالنسبة للحراك الشعبي.
بوسعنا الإشارة هنا, وبشكل سريع, إلى علامتين بلاغيتين أسهمتا إلى حد بعيد في تحويل ساحة العاصي وبلاغتها الجديدة إلى رمزية قابلة للاستعادة والتطبيق في أمكنة أخرى. وهو ما دفع النظام إلى القيام بالعملية العسكرية الأخيرة في حماه, والتي شكلت منعطفاً هاماً في مسار الأحداث, كما سيتضح لاحقاً.
العلامة الأولى في بلاغة ساحة العاصي, تتمثل في الغناء الحواري الذي كان يقوم بين المغني إبراهيم القاشوش وبين الحشد. لقد استطاع هذا الفنان الشعبي النادر المثال حقاً أن يشكل في غنائه الارتجالي الشعبي, كما في مقتله, رمزاً للحركة الاحتجاجية وجمهورها على أكثر من صعيد: تجاوز الخوف, النقد الجذري للفساد المستشري داخل السلطة, وإسقاط هيبة النظام وقداسته من خلال السخرية والضحك الاحتفالي الذي يدمر الخوف وينتصر على الرعب وعلى كل ما يضطهد ويقيد, كما يقول باختين. لقد ذهب إبراهيم القاشوش حتى النهاية في نقد النظام, فعل ذلك مباشرة وعلى الملأ, وبقدرة واضحة على استثارة الجمهور لينخرط الجميع في صوغ البلاغة الجديدة, وإطلاقها جهراً كأغنية جماعية. لقد خلخل هذا المغني بجرأة كبيرة الأساسَ المتين لقداسة السلطة وهيبتها اللتين كان الظن يذهب إلى استحالة التجرؤ على المساس بهما.
العلامة الثانية في البلاغة الجديدة لساحة العاصي, هي صورة الحشد الهائل في الساحة والشوارع المحيطة بها, والتي شكلت الخلفية البصرية لنشاط المغني وجمهوره. لقد كرست هذه الصورة مشهدية غير مسبوقة في سورية إذا ما أخذنا بعين الاعتبار دلالتها المناهضة للنظام وسلطته, مما منح البلاغة الجديدة للمجال أبعاداً دلالية ورمزية قوية التأثير. لم تعتد سوريا أبداً على مشهدية تحيل إلى مئات الآلاف من المطالبين بالإصلاح الجذري, خرجوا بملء إرادتهم على الرغم من مخاطر الخروج, ليشاركوا في صياغة حلم وأفق جديدين, خارج, بل على الضد, من إرادة النظام وسلطته.
* * *

عكس قرار التخلص من المغني إبراهيم القاشوش, والطريقة التي تم بها الأمر, مدى الغضب والحقد المتشكلين لدى النظام جراء ما فعله المغني في الساحة. تم ذبح المغني, ثم اقتلعت حنجرته وحباله الصوتية, ورميت جثته في نهر العاصي. بيد أن هذه الطريقة الفظيعة في قتله ساهمت في انتشار أغنياته أكثر. ورفعت صنيعه من مستوى الدلالة إلى مستوى الرمز الذي لم يعد من الممكن حجبه أو نسيانه.
عوّل النظام على التخلص من المغني كمدخل لانفراط الحشد في ساحة العاصي, وإخراس البلاغة المشهدية لصور التظاهرات المستمرة والمتنامية عدداً وتنظيماً في المدينة. لكن, وكما تبين لاحقاً, فإن مركزية المغني في خطاب الساحة, لم تمنع من استمرار التظاهر, ولم يفض مقتله إلى تراجع تأثير البلاغة الجديدة لساحة العاصي, بل على العكس, فقد تحول حزن الحشد على مغني الساحة إلى عامل تحد وإصرار على الاستمرار في التظاهر وتكريسه كنشاط يومي تشارك فيه المدينة كلها. ويبدو أن الحمويين كانوا قد أعدوا برنامجاً حافلاً لشهر رمضان على مستوى التنظيم والحشد والفعاليات, يساهم في تكريس نقلة نوعية في حركة الاحتجاج.
في هذا السياق جاء اقتحام قوات الأمن لحماه مع بداية شهر الصوم, بمشاركة من قوات الجيش, وبأسلحة ثقيلة ومتنوعة. وقد تم اعتقال وتصفية العشرات ممن رددوا أغنيات القاشوش, وساهموا بالصورة والصوت في تشكيل البلاغة الجديدة لساحة العاصي.
إن اقتحام حماه يأتي في سياق التنازع بين النظام والمحتجين على امتلاك المجال العام: النظام من أجل الحفاظ على سلطته وتكريس الإذعان وعودة الهدوء إلى الشارع, والثورة من أجل التأسيس لبلاغة جديدة تتحرك وتنطلق من مجال متحرر من الخوف والخضوع. لقد نجح النظام بواسطة العنف في تشتيت الحشد وتعطيل بلاغة الثورة, ولو إلى حين. لكن السؤال الحاسم هو التالي: هل يستطيع النظام السوري تأسيس سلطة جديدة له داخل المجال المستعاد بعد أن دمر سلطة المحتجين فيه وشتت شملهم؟! أشك في ذلك..فالاستعادة هذه ليست أكثر من عمل عبثي قاد إليه العنف العاري الذي بوسعه أن يدمر السلطة, لكنه عاجز عن إقامتها , كما قالت حنا أرندت ذات يوم.


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*كاتب وباحث من سوريا.

(111)    هل أعجبتك المقالة (101)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي