خلال الأشهر الخمسة الماضية، منذ الخامس عشر من آذار وحتى الخامس عشر من رمضان (أو من آب)، دأب الثوار والمعارضون على التأكيد على توجهاتهم الثلاثة: سلمية الثورة وعدم انجرافها إلى الطائفية وعدم السماح بأي تدخل خارجي في الشأن السوري. هذه هي اللاءات الثلاث – لا للعنف ولا للطائفية ولا للتدخل الخارجي – التي يؤكد الجميع عدم الحياد عنها. ولقد حققت الثورة نجاحاً منقطع النظير في تثبيت هذه التوجهات على أرض الواقع.
على أن ذلك كان دوماً من جهة واحدة. فبالمقابل، كان ردُّ النظام باستمرار معاكساً بصورة مطلقة لتلك التوجهات. كمية العنف الذي شنـّه الحكم على المدن والبلدات السورية، ولاسيما في شهر رمضان الفضيل، لم تشهده البلاد منذ مجزرة حماة التي كانت قد اقترفتها يد النظام نفسه منذ ثلاثين سنة. كما استمر في الوقت نفسه تجييش القوى الطائفية ضد المتظاهرين المسالمين: فما يستخدمه النظام من فرق الموت والأجهزة الأمنية المتغولة ووحدات الجيش "الموثوق" بها، سواء الحرس الجمهوري أو القوات الخاصة، كلها طائفية استفزازية بامتياز. طائفية بتركيبتها وقياداتها ولم يعد بالإمكان أن نستمر في إنكار هذا الواقع أو التقليل من شأنه. وأما بالنسبة للثالثة – التدخل الخارجي – هل يمكننا أن نسمي بغير هذا الاسم التواجد الإيراني القوي على الساحة السورية سواء من حيث شحنات السلاح أو المساعدات المالية أو حتى القمصان السود التي باتت جزءاً لا يتجزأ من صورة الشبيحة في مخيلة الشعب السوري. ثم ماذا يمكننا أن نسمي الوقائع الروسية الأخيرة المتعلقة بتدفق السلاح الروسي إلى النظام السوري اليوم "بموجب عقود سابقة" إن لم تكن تدخلاً خارجياً سافراً يساند آلة القتل ويكرسها.
بسبب هذا كله أصبح لزاماً علينا أن نطرح هذه المسألة الخطيرة: هل يمكن للثورة السورية أن تنجح إن هي بقت على تلك الأسس نفسها؟ هل هذه اللاءات الثلاث قابلة للاستدامة؟
ردي البديهي على هذا السؤال هو "أجل ولكن". أجل اليوم، فقد أثبتت المظاهرات أنها قادرة على الاستمرار برغم كل شيء، بالرغم من سقوط ثلاثة آلاف من الشهداء، وثلاثة آلاف من "المختفين" أو "المفقودين" الذين يعتبرون عملياً في حكم الشهداء، وعشرات الآلاف من المعتقلين الجدد. ولكن إلى متى، إلى متى ستستطيع الثورة الصمود ونحن لا نرى أي ضوء في نهاية النفق: الجيش السوري الذي حلمنا بأن ينشق وأن يوقف النظام عند حده لم يتحرك إلا لقمع الثورة فهو لم يعد إلا أداة للقمع وتكريس العنف. والمجتمع العربي والدولي، وبغض النظر عن أي تطور شهدته الأيام الأخيرة في موقفه، لا يزال يربت بخجل على يد النظام الباغي مطالباً إياه بالإصلاح، وهي الصيغة التي أصبحت كناية عن استمرار الحكم والأمن والعائلة والحزب وإن بصورة مخففة – كأنك تعطي للقتل وجهاً إنسانياً.
إني أقطع بأن هناك في سوريا بين شرائح الثوار مَن بدأ يفكر بأن لاءاتنا لم تعد مستدامة وأن ما أخِذ بالقوة – حريتنا وحقوقنا ووطنا – لن يُسترد إلا بالقوة، إذ ما الذي سيُجبر النظامَ على تغيير جلدته إذا استمر الوضع على ما هو اليوم؟
ومع ذلك، مازلتُ أقول "نعم" للاءاتنا الثلاث، ولكني أعرف يقيناً أنه بات حقاً على ثوارنا ومعارضينا أن نطرح السؤال البغيض: ثم ماذا بعد تلك اللاءات؟ بات حقاً علينا أن نخطط للمرحلة المقبلة لأن صلاحية تلك اللاءات قاربت على الانتهاء. غصن الزيتون الذي ترفعه الثورة شارفَ على السقوط.
* كاتب سوري مقيم في نيويورك.
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية