هوية الدماء النازفة ... د. أكرم حجازي


لا توجد منازلة بلا هوية أو هدف. حقيقة بدهية لا تحتاج إلى إيضاح، ولا هي موضع اختلاف، ولا يجب بأي حال من الأحوال أن تغيب عن البال. فمن الواضحات التي لا يماري بها أحد أن الدول والنظم العربية الحديثة ولدت من رحم القوى الاستعمارية لغايات استعمارية. وبالتالي فلم تكن في يوم ما، بالنسبة للحاكم وحكوماته وجماعاته وأحزابه وحركاته السياسية؛ أو بالنسبة لطائفته وحاشيته وعائلته أو حتى لزوجته، أكثر من امتياز شخصي، أو منظومة خدمات أمنية، أو شركة استثمار للنهب والتوريد للـ « المركز» الرأسمالي العالمي. وعليه فإن كل قطرة دم سقطت في تونس أو مصر أو ليبيا لا يمكن أن تختلف، هويتها وغايتها، عن أية قطرة دم سقطت في اليمن أو سوريا. فهي دماء واحدة تدفعها الشعوب ضريبةً للتخلص من الهيمنة والتبعية للـ « المركز»، وفي القلب منه « إسرائيل»، تلك الدولة المارقة التي زُرعت في قلب العالم الإسلامي وقطعت أوصاله، وشلَّت فاعليته.

أما إذا جادل أحدهم في مثل هذه الواضحات؛ فلن تتمكن الشعوب العربية من حل معضلة واحدة من معضلاتها، ولن يكون بمقدورها استثمار تضحياتها، وتبعا لذلك لن يكون بوسعها التحكم بمستقبلها، ولا الاطمئنان على مصيرها أبدا. من الصحيح أن يرى البعض الأولوية في التخلص من الطغاة والطغيان. لكن من الخطأ الفادح أن يظن هذا البعض أن مشكلته مع الطغيان داخلية لا شأن لأمريكا أو إسرائيل بها. وما نحسبه والله حسيبه، أن الشهيد الذي يسقط في سوريا اليوم هو ذاته الذي يسقط في ليبيا أو اليمن أو أي مكان آخر. والسبب هو ذاته. والنتيجة ستكون ذاتها.

ومن الواضحات أيضا أن الدول العربية أو النظم السياسية القائمة ليست أصيلة المنبت والمنشأ حتى لو كان لبعضها عمقا تاريخيا وسياسيا. وهي إنْ اتصلت بتاريخ ما، أو أحيت لها تاريخا قديما؛ فليس لشيء إلا لتنقطع عن كل أصالة تربطها بعقيدتها ودينها وثقافتها الإسلامية، ما استطاعت إلى ذلك سبيلا. هكذا لدينا دول هجينة، بلا حاضر أو مستقبل، وبلا أية هوية إلا من الجدل المصطنع حولها!! فلا هي دول عربية تُعرَف، ولا هي دول إسلامية تُعرَف، ولا هي دول غربية، ولا دول وثنية، ولا هي دول طارئة، ولا دول دائمة !!! فماذا تكون؟ الله أعلم .. لكن حالها في ذلك كحال النظم الحاكمة.

قبل الرسالة النبوية لم يكن العرب إلا قبائل متصارعة. بعدها؛ وحتى انهيار الخلافة صار العرب مسلمين تحت الحكم الإسلامي .. حقيقة تاريخية أصيلة تتداولها الألسن وبطون الكتب بغزارة إلى يومنا هذا، ولم يطعن بمشروعيتها أحد .. حقيقة امتدت لنحو 1330 عاما متصلة بلا انقطاع .. حقيقة لم يماثلها في الاستمرارية أي نظام في التاريخ الإنساني كله!!! مع ذلك ثمة من ينكرها على الأمة، ويدافع باستماتة عن صناعة استعمارية باسم « سايكس – بيكو»، أضاعت البلاد والعباد في خمسين عاما، وجعلتها نهبا ومشاعا لها ولمن غلب!! فكيف تكون مشكلات الشعوب واقعة حقا في الحرية والدولة المدنية والدستور، واعتبارها مطالب شرعية يمكن الوثوق بها والركون إليها !!!؟

اليوم يعلن ورثة « سايكس – بيكو»، بصريح القول والفعل، أنهم الأصل في الحياة والوجود. أما غيرهم من الشعوب والقبائل التي خلقها الله، عز وجل، لتتعارف، وأكرم بعضها في الإسلام، فليست سوى الاستثناء الذي يستحق أن يتلقى أقسى صنوف الاستعباد والقتل أو يعلن استسلامه التام لهم .. ورثة جهزوا أنفسهم وعتادهم وأعلنوا الحرب على الشعوب فردا فردا، واستحلوا الدماء بلا حساب، ودمروا البلاد حجرا حجرا، وسحقوا كل ماض وحاضر ومستقبل بالقوة المسلحة، شاء من شاء وأبى من أبى!!! هذا ما عرضه صالح والقذافي والأسد على الشعوب كنماذج حية لأقوال وأفعال قابلة للشهادة والتأريخ والتوثيق على مدار الزمن. فمن يستطيع أن يجزم بأن النظم الأخرى ستكون أحسن حالا مما يشهد به الواقع؟ وبأي معيار يمكن النظر لهذه الدول والنظم باعتبارها مكسبا للأمة أو إنجازا يستحق الحفاظ عليه والدفاع عنه؟

في الحديث النبوي عن الخلافة، يقول صلى الله عليه وسلم، وفق إحدى الروايات، نقلا عن حذيفة: « تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكًا عاضًا فيكون ما شاء الله أن يكون، ثم يرفعها إذا شاء الله أن يرفعها، ثم تكون ملكًا جبرية فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، ثم سكت».

إذن الثابت شرعا وعقلا أن المسلمين سيعيشون مرحلتي « الخلافة الراشدة». وإذا كانت الأولى قد مضت فالمقرر شرعا أنهم بانتظار الثانية، وعلى منهاج النبوة. لكن ما بين « الأولى» و« الثانية» ثمة نوعين من الحكم هما: « الملك العضوض» و« الملك الجبري». وغني عن القول أن كليهما ليسا راشدين، وبالتالي ليسا على منهاج النبوة!!! ولما تكون أغلب القراءات تؤكد أن مرحلة « الملك العضوض» انتهت فسنكون حكما في مرحلة « الملك الجبري»، باعتبار أن « الخلافة الراشدة» الثانية لم تظهر بعد.

الآن، وبصريح القول، إذا اعتبرنا أن الشعوب العربية تواجه حكما جبريا من الخارج وفي الداخل ، فمن العبث التصرف وفق عقلية النعامة، والمطالبة بدولة مدنية أو دستور مدني .. نقول « عبث» لأننا: (1) سنكون كمن يهرب إلى مربع الخصم، أو كالمستجير من الرمضاء بالنار. ولأن (2) تداعيات الثورات العربية إما أن تؤول نتائجها إلى خلافة راشدة ثانية أو إلى حكم جبري، ليس ما يجري على الأرض إلا فظاعاته الأولى. فإنْ كانت خلافة؛ فسيكون العالم الإسلامي على وشك التطهر من كل الأساطير والنتوءات التي علقت به بعد الراشدة الأولى. إذ ليس من المتصور أن تكون خلافة راشدة، وعلى منهاج النبوة، دون أن يتم تنظيف العالم الإسلامي من ركام الصليبية والصهيونية وحطام سايكس - بيكو .. فمن كان يظن نفسه راشدا فليستبشر، ودون ذلك فهو من الركام ذاته والحطام. وإنْ كان ما يجري ليس سوى التباشير الأولى للحكم الجبري فلنتضرع إلى الله بالرحمة والغفران لما هو قادم من الأيام.





(93)    هل أعجبتك المقالة (86)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي