أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

محنة أدونيس : غواية الخبر وغياب المعاينة ... محمد حيان السمان



محنة أدونيس : غواية الخبر وغياب المعاينة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

●محمد حيان السمان٭


تعكس رسالة أدونيس إلى المعارضة السورية, الهوة الكبيرة التي تفصله, كمفكر وشاعر, عن الواقع العربي عموماً, وعن المتغيرات الجذرية الحاصلة في الوعي والتطلعات داخل المجتمع السوري تحديداً, مما جعل الرسالة تبدو كورقة عمل مقدمةٍ إلى مؤتمر عربي منعقد في أواسط الستينيات من القرن الماضي, للتداول في تصورات الأنتلجنسيا العربية ومقترحاتها حول مستقبل الدولة والمجتمع في العالم العربي.
من بين أسباب تكريس هذه الهوة بين الفكر والواقع لدى أدونيس, التمسك الواضح والمستمر بأسبقية المعرفة على التغيير, والنص على الحدث, والوعي على الممارسة. قبل الذهاب إلى التغيير نحن مدعوون إلى معرفة أنفسنا وتاريخنا, يقول أدونيس. وفي مكان آخر من الرسالة يؤكد على الحاجة إلى الوعي والاكتشاف وإعادة النظر..الخ, وهي جميعاً من الدلالات التي تؤطر حقل الفكر ذي الطابع النظري الذي ينطلق منه أدونيس.
الإعلاء من شأن النص على حساب الواقع, جعل أدونيس يختار من أجل مقاربة الأزمة في سوريا, جزءاً من بيان أعلنه جزء من المعارضة . يختار النص ويترك الحدث القائم فعلياً على الأرض, يترك الصانعين الحقيقيين للحدث, إلى شق من بيان أسفر عنه اجتماع في صالة على عجل وفي ظروف الارتباك والتوتر.
من حق أدونيس أن يقرأ الحدث السوري من خلال حزب البعث- كما في الرسالة الأولى- أو من خلال جزء من بيان للمعارضة, ولكن يظل السؤال قائماً حول مدى إمكانية فهم ما يحدث حقيقة على الأرض في غياب الصانع الحقيقي للحدث عن أفق الاهتمام والتقصي لدى أدونيس. التفاتة أدونيس إلى الربيع العربي – بمعنى الوقائع الجماهيرية الجارية على الأرض في المنطقة – لم تأخذ أكثر من سطرين ونصف من الرسالة. بينما حديثه عن الشق - الذي لا يتجاوز السطرين أيضا - من بيان المعارضة, استغرق كامل رسالته الطويلة, مما يؤشر بوضوح إلى ارتباك المثقف العربي المزمن أمام الواقع, في الوقت الذي يصول ويجول بين النصوص والمقولات.


إن رسالة أدونيس تستلهم الفكر النظري ومقولاته الجاهزة, أكثر بكثير من تدبر التاريخ ومجرياته الراهنة. لقد فتش أدونيس طويلاً في مصنفات الطبري والبلاذري والمسعودي, يلتقط قولاً من هنا, وبيتَ شعر من هناك, ورواية من هنالك, حول الفتنة في المدينة, أو ثائر في سواد العراق, أو حدث في البحرين, ليستخلص ثورية بعض الوقائع في تاريخنا البعيد. هذا أمر مشروع وطيب. لكن لماذا لا يتتبع بنفس الدأب والروح العلمية ما يُقال ويجري الآن وراهناً في شوارع الثورة السورية, ومن قبل صانعيها الحقيقيين, ليفهم تماماً حقيقة ما يحدث؟ لماذا يجري التغني بمعبد الجهني وغيلان الدمشقي والحلاج الشهيد, الذين أعدمتهم سلطة الخلافة في الأوانين الأموي والعباسي, وتطول الشروح والوقفات التحليلية حول أسباب و وقائع ودلالات هذه التصفيات الفظيعة بحق هؤلاء المثقفين الكبار في الحضارة الإسلامية, ولا ينبس أدونيس ببنت شفة عن المغني الذي أعدمه النظام السوري مؤخراً في مدينة حماه, واقتلع حنجرته وحباله الصوتية لأنه قال: سوريا بدها حرية, وأسقط بسخريته الجميلة الفاضحة القداسة الزائفة للسلطة القمعية؟؟ .
إذا كانت قراءة الماضي لا تتم إلا من خلال النصوص والوثائق, فإن قراءة الواقع وأحداثه الراهنة لا يُمكن إنجازها اعتماداً على نصوص أيا تكن درجة صدقيتها. والأفكار التي يطرحها أدونيس في رسالته تبدو في معظمها ذات مرجعية نظرية تقع خارج السياق الحالي للحدث نهائياً.
لقد اعتبر أدونيس ما يجري الآن في سوريا, ممثلاً بالمعارضة وبيانها, بمثابة موجة جديدة من ضمن موجات سابقة قامت باسم التحرر " بدءاً من الانقلابات العسكرية السورية المتوالية, إلى الموجة الكبرى : عبد الناصر..الخ ". هذا خطأ كبير وقع فيه هذا المفكر العربي , والسبب كما أشرت تجاهل الفاعلين الحقيقيين في الثورة السورية, تجاهل الحدث في حراكه الملموس المباشر, كثورة شعبية ومواجهة ميدانية جذرية بين الشعب وبين النظام التسلطي. نحن هنا أمام ثورة شعبية بدون نخبة مدنية أو عسكرية, وبدون اللجوء للعنف, أو العمل السياسي التنظيمي بمراحله من السرية إلى العلن فالثورة...الخ. إن شباب الثورة السورية يثبتون عملياً وبالفعل الملموس أنهم أكثر وعياً بما لا يُقاس من جميع النخب السياسية والثقافية والعسكرية, ومن الخطأ فهم هذا الحدث الكبير والجذري من خلال موجات ثورية نخبوية سابقة توسلت قضايا المجتمع للوصول إلى السلطة. كما أنه من الظلم اختزال هذا الحدث ببيان لنخبة تتبني ما يحدث, أو تقف معه. إن الممارسة الفعلية على الأرض هي ما يُعبر عن الحدث, وقائعه وأهدافه, ومشكلة أدونيس أنه ذهب إلى بيان المعارضة, وأهمل ما يصرح به شباب الثورة ويفعلونه يومياً في ميادين التحرك لمواجهة التسلط وعنف النظام بوعي اجتماعي سياسي سلمي وحضاري, يقرأ جيداً أشكال القطيعة ومبررات التواصل مع سياقهم التاريخي والثقافي. هل نلمح في رسالة أدونيس إلى المعارضة شكلاً من أشكال المناكفة والتصادم بين نخب ثقافية- سياسية تعيش حالة ارتباك بنيوي أمام حدث تاريخي شعبي نادر؟؟ أعتقد ذلك .
إن تتبع أدونيس لمسار الثورات العربية الحديثة التي تَبيَّن أنها كانت ثورات من أجل السلطة لا من أجل المجتمع, كان من الطبيعي أن يفضي به إلى الحديث عن مسيرة النظام السوري التي قادته من ناطق باسم العمال والفلاحين, إلى مجرد عصابة من الشبيحة تدمر فضاءات الإنتاج و وأدواته وتحيلها إلى معتقلات وأدوات للقتل والتعذيب, وتحرق المحاصيل في القرى السورية وتهجر أبناءها . لم يقرأ أدونيس النظام السوري في هذا السياق, وإنما نظر إليه, وبشكل عابر, بوصفه نتيجة طبيعية لأسباب وعوامل ثقافية- تاريخية. ثم راح يناقش بهدوء مطول بيان المعارضة بوصفه إشارة أولى تستدعي الشك والريبة, وتحيل إلى موجة جديدة من موجات الهوس بالسلطة وامتيازاتها. بينما غض الطرف تماماً عن الثورة العظيمة التي تعمل على الأرض من أجل التخلص نهائياً من هذا النظام وإرثه المرعب في المجتمع والدولة والسلطة.
ينطلق أدونيس من مقولة نظرية ترى أن النظام السوري يقوم على ثقافة قروسطية يلعب فيها الدين, مقترناً بالعصبية المذهبية – القبلية الدور الحاسم الأول. بناء عليه فإن الخلاص من هذه الثقافة, والتأسيس للمواطنة وثقافتها الإنسانية, هو ما يجب أن يكون الهاجس الأول الموجه في أفكار المعارضة وأعمالها. ويستطرد الكاتب هنا في توجيه الوصايا للمعارضة حول الخطوات التي ( يجب ) أن تسلكها ومن ورائها المجتمع, للوصول إلى الدولة المدنية.
يستبطن أدونيس في رسالته دورَ المثقف القائد, الذي يطلق الحقائق بثقة كبيرة, ويرسم ملامح المستقبل المجتمعي, لا على شكل مقترحات قابلة للحوار, وإنما على شكل توجيهات محددة : إما كذا ... وإما كذا!! و – يجب – و – إلا إذا - ...
لا أعلم شخصياً, وقد عشت أربعين عاماً من حياتي في ظل النظام السوري, كيف يمكن لأي جهد تحليلي نقدي أن يصل إلى أن النظام السوري قائم على أساس الثقافة القروسطية والدين . من المعروف تماماً أن هذا النظام قام أساساً على شعارات شعبوية تدمج بين المقولات الاشتراكية والشعارات القومية, متوسلاً أسلوب الانقلابات العسكرية المعهودة في سوريا, قبل أن يتحول بالتدريج إلى نظام استبدادي أمني, يلغي الدولة ويدمر المجتمع الأهلي, ويستبدل بالسلطة منطق العنف العاري, وبالعقل السياسي, عقلية العصابة قتلاً وسطواً ؟!.
أما وصايا أدونيس التي يوجهها إلى المعارضة, بخصوص بناء المجتمع والدولة المدنيين والتأسيس للمواطنية وثقافتها الإنسانية..الخ؛ فإن قسماً منها غدا اليوم من مكونات الوعي الأساسية لشباب الثورة, ومن مرتكزات الممارسة اليومية على خط المواجهة الملحمية الحضارية مع قتلة النظام. وأود أن أطلب من أدونيس هنا الرجوع إلى صفحات التنسيقيات على فيسبوك ليقرأ هناك عدداً كبيراً من وصاياه بصيغ عفوية بسيطة ومطابقة لوعي وطني شعبي يقطع حقيقة وبالفعل مع مرتكزات النظام الثقافية والتاريخية, ومع مؤسساته الإيديولوجية والقمعية " عملاً لبناء مجتمع مدني إنساني جديد ".
أما وصايا أدونيس الرسولية حول مصدر سلطة التشريع, وضرورة الخلاص من ثقافة الفتح والغلبة, والفصل الكامل بين الدين والدولة, واحترام حق اللاتدين وصيانته...الخ, فإنها قضايا لا تملك المعارضة ولا أي طرف سياسي أو ثقافي أن يفرضها مسبقاً. إن الدولة المدنية التي دعت إليها المعارضة في البيان نفسه موضوع الرسالة .. الدولة المدنية التي اعتبرها أدونيس الضامن للتعددية والحرية , هي الفضاء القانوني- السياسي الذي تجري فيه مناقشة هذه المسائل والحوار الحر حولها, وهي المجال الذي يسمح بعمل ثقافي تنويري طويل ومتراكم وشاق لتكريس هذه القيم في الوعي والممارسة.
أخيراً : هذه الدولة المدنية, بما هي مجال للتعددية والحرية, وأفق لا نهائي للتنوير والتحرير, هي ما ينادي به ليلاً ونهاراً وفي كل صعيد شباب الثورة السورية , الذين لم يكلف أدونيس نفسه عناء الالتفات إلى مطالبهم أو إلى دمهم المسفوح أنهاراً على يد النظام الفاشستي.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* كاتب من سوريا.






(92)    هل أعجبتك المقالة (97)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي