لم يكن مشهد الرئيس المصري السابق متخيلا في قفص الاتهام قبل أشهر معدودة فقط، وربما كان هذا المشهد أشبه بالمستحيل، فهو الذي استمر في كرسي الرئاسة منذ عقود ثلاثة، وهو الذي يترأس اكبر دولة عربية لا بل زعيمة العالم العربي، وهو الذي يوظف الملايين من العناصر في أجهزة الأمن المختلفة والمتعددة، والتي تسببت على مدار سنوات حكمه ومن قبله، بإثارة حالة من الرعب والتخويف غير مسبوقة ، فصار هم المواطن في مصر أن يسلم بجلده من بطش تلك الأجهزة.
هذا النظام بتلك المواصفات، كان من الواضح انه أكثر هشاشة مما رسخ في ذهنية المواطن المصري بشكل خاص والعربي بشكل عام، فهو لم يستطع الصمود أمام الثورة الشعبية إلا أياما قليلة، كانت كفيلة بأن تهز أركانه وتفرض على مبارك التنحي بالشكل الذي شاهده العالم.
ربما يدعي البعض، بأنه كان بإمكان مبارك أن يقوم ما يقوم به الرئيس السوري من قمع لشعبه، أو كما يفعل الرئيس اليمني، لا بل هنالك من يترحم على حسني مبارك ومن انه كان برغم كل قباحات نظامه أفضل من الرئيس السوري واليمني والليبي، حيث انه لم يقم بما قام به هؤلاء من مجازر لا زالت قيد التنفيذ في محاولات منهم للبقاء في سدة الحكم.
دخول الرئيس المصري المخلوع على سرير طبي بهذا الشكل المذل والمهين، ربما استفز بعض المشاعر، على اعتبار انه ما كان يجب أن يظهر الرجل بهذا الشكل، على قاعدة "ارحموا عزيز قوم ذل"، لكن وفي المقابل هنالك من استذكر صور إعدام الرئيس العراقي صدام حسين ووقوفه شامخا أمام جلاديه، وذهب البعض ليصف الرئيس المخلوع بأنه كان يرغب في استجلاب العطف من مواطنيه، استنادا إلى نصيحة قيل إنها قدمت من قبل محاميه، الذي يستند إلى "ما يتصف به أبناء الشعب المصري من طيبة".
هذا على الرغم ان هنالك من جادل، بأنه كان على الرئيس المصري السابق، خاصة وانه كرر الحديث عن بطولاته بشكل ممجوج في أيامه الأخيرة في سدة الحكم، انه كان عليه حتى ولو انه كان في حالة مرضية شديدة، ان يرفض الظهور بهذا المظهر، وانه كان عليه ان يؤكد على تلك البطولة، من خلال الظهور ولو مكابرا، واقفا أو في أسوأ الحالات على كرسي متحرك، لا ان يبدو بكل هذا الهوان والضعف والإذلال.
ظهور الرئيس السابق في قفص الاتهام، ليحاكم بالتهم المسندة إليه والتي أصبحت معروفة للقاصي والداني، كانت نتيجة طبيعية لكل الضغط الذي مارسه أبناء الثورة المصرية، وأبناء الضحايا الذين سقطوا ظلما وعدوانا، وهم أرادوا بذلك تطبيق عدالة مفقودة ضد رئيس لم يتوان عن القيام بكل الموبقات والجرائم ضد أبناء الشعب المصري، وهم بذلك إنما يعلنون عن بداية لحقبة جديدة تتسم بالعدالة والحرية والديمقراطية التي غيبت خلال عقود طويلة، وهم بذلك إنما يرسمون ويرسخون طريقة جديدة في الحكم لا بد من إتباعها في مصر الجديدة مصر ما بعد الثورة، مصر الحداثة والديمقراطية الحقيقية، وهم بذلك إنما يوفرون للرئيس السابق ما لم يوفره لهم خلال عقود من حكمه الجائر.
سوق الرئيس المخلوع إلى المحكمة، إنما هو رسالة إلى كل الذين شككوا في الثورة المصرية خلال انطلاقها، هي رسالة لهؤلاء الذين وبعد ان انتصرت، قفزوا بشكل غريب وبعد ان كانوا على نقيضها، إلى ركاب في عرباتها وممتطين لخيلها، بطريقة فيها من النفاق والانتهازية ما يبعث على الغثيان.
ظهور مبارك في قفص الاتهام ومحاكمته بهذه العلنية، لا بل الإصرار على علنية المحكمة، إنما هو دليل آخر على شفافية الثورة، وعلى طهارة ومصداقية عالية، وعلى إصرار على السير بالثورة إلى مسارات ترسيخ العدالة الاجتماعية ومبادئ ثورية غابت عن امة العرب منذ قرون، مبادئ تحتاج الأمة إلى ترسيخها والعمل بها، من اجل انطلاقة حقيقية نحو التقدم واللحاق بالأمم الأخرى.
لم يكن للرئيس المصري ان يظهر في قفص الاتهام، لولا العزيمة والإصرار الذين أبداهما أبناء الثورة، حيث كان واضحا ما تتم ممارسته من ضغوط من اجل منع تلك المحاكمة، وقد صدرت العديد من التصريحات العربية والأجنبية وخاصة الإسرائيلية التي تدعوا إلى عدم محاكمته بحجج وذرائع مختلفة، وتعرضت مصر "الرسمية" إلى ضغوط كبيرة من اجل عدم عرض الرئيس المخلوع على المحكمة.
ان ظهور مبارك بهذا الشكل المذل جعل الكثير من حكام المنطقة، وربما العالم وخاصة الثالث، يتحسسون رؤوسهم خشية ان يأتي الدور عليهم، وخشية من ان يكون هذا مصيرهم المحتوم في المستقبل، لا بل لقد قام النظام في سوريا بقطع الكهرباء عن معظم المناطق السورية، خوفا من ان يرى أبناء سوريا العزيزة ذلك، وهذا ما سيكون له اثر كبير على استعدادهم للمضي قدما في ثورتهم، من اجل ان يكون أسد هو التالي في قفص الاتهام على ما يقوم به من جرائم ومجازر ضد الشعب السوري.
استجلاب رئيس مصر السابق إلى القفص، قد يكون من أهم الدروس لبقية الزعماء العرب وغيرهم ممن يستعبدون شعوبهم، أو يتعاملون معهم كقطعان من الماشية أو من العبيد في زمن الإقطاع. وهو قد يكون درسا للبقية من اجل التعجيل والإسراع في منح الشعوب ليس المزيد من الحقوق فقط، وإنما جميع الحقوق والحريات التي تستحق لهم، لعلهم بذلك يجدون الصفح من بعد كل هذا الظلم الذي مارسوه.
ردود الفعل الشعبية في الشوارع العربية كانت في مجملها متجانسة، فيها من السعادة ما يشير إلى تمنيات وأمنيات، ان يكون مستقبل البقية الباقية من الظلمة كمصير مبارك، الذي لم يراع إلا ولا ذمة في الشعب المصري، لا بل لقد امتد تأثير ظلم وعسف مبارك وسياساته للتأثير على المنطقة العربية كلها، وأدت تلك السياسات إلى إضعاف ليس مصر وحدها، لا بل وإضعاف الأمة العربية والإسلامية وربما العالم الثالث برمته.
لقد عاش شعب مصر وشعوب الأمة العربية لحظات تاريخية، ربما هي من اللحظات النادرة التي ستظل عالقة في الأذهان إلى فترات طويلة، خاصة وأنها لبها دلالاتها وانعكاساتها، كما أنها جاءت في لحظات من الزمن، تعيش فيها الأمة ثورات عديدة ضد العديد من الطغاة، الذين تنتظر الشعوب لحظة استجلابهم إلى ذات القفص.
5-8-2011
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية