أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

ابتسامات في مواجهة السواطير ... محمد حيان السمان


خبر صغير في صفحة فيسبوك, بجانب رابط يحيل إلى فيديو على موقع youtube يقول: رداً على أسلحة حمص التكتيكية, حماه تطور أسلحة إستراتيجية. وتحت الخبر التعليق التالي: من الصعب جداً وقف سباق التسلح الحمصي الحموي !.
هذا نموذج من موجة السخرية والضحك الاحتفالي التي ظهرت في الأسابيع الأخيرة, كسلاح يبدعه شباب الثورة السورية وهم يواجهون بأجسادهم العارية النظام التسلطي, وآلة قمعه الحاقدة الهمجية. إن تصاعد عنف النظام, و وصوله إلى مستوى من الوحشية الفظيعة, جعل اللجوء إلى السخرية والنكتة الفاضحة, شكلاً من أشكال تجاوز الخوف وإسقاط هيبة النظام المتعالي من جهة, وإظهار سخافة وقبح رموز وأدوات القمع والتزييف في النظام من جهة ثانية.
انطلقت موجة السخرية الفاضحة من حمص, التي يمتلك أهلها بالفطرة روحَ المرح وحضورَ النكتة والتعليق الذي يجمع بين سرعة البديهة والنقد اللاذع وحلاوة التعبير. في حمص تتجلى بشكل نموذجي تلك السمة الرائعة من سمات الثورة السورية, كما يجسدها شباب الثورة في كل مواقع الاحتجاج والرفض, أقصد ذلك المزيج النادر بين أقصى درجات الجرأة والصلابة واحتمال قسوة و مخاطر المواجهة الميدانية, وبين أعلى درجات المرح والتنكيت واستحضار دواعي الضحك العريض في كل الظروف الصعبة.
إنها ( نهفات الحماصنة ) التي سرت سريان النار في الهشيم, لتضيء ليل العنف العاري الذي يمارسه النظام ضد شباب يريدون الحرية والعيش الكريم. لقد أشار – ميخائيل باختين – إلى أن " الضحك يدمر الخوف لأنه لا يعرف الكوابح والقيود ".. إن زمننا, نحن السوريين خاصة, معجون بماء الخوف منذ أربعين عاماً, وها هي النكتة الساخرة والضحك الذي ينبع من القلب يساهمان أخيراً, إلى جانب التضحية والشجاعة النادرتين, في الانتصار النهائي على الخوف وعلى أسبابه وصانعيه في آن معاً.
يمكننا رصد هدفين رئيسين لموجة السخرية الفاضحة والنكتة اللاذعة هذه, هما: نزع هالة القداسة المزيفة الخرقاء عن رموز النظام السوري من جهة, والسخرية من آلته القمعية وإعلامه الكاذب الفاجر من جهة ثانية.
في الهدف الأول نتذكر أغنيات المغني الشهيد إبراهيم قاشوش التي كان يؤلفها ارتجالاً وينشدها فيردد المجتمعون في الساحة وراءه بما يشبه الاحتفال الشعبي الزاخر بالسخرية والضحك. ومن بين أجمل ما أنجزه هذا الفنان تلك الحوارية الغنائية التي يأخذ فيها دور رئيس الجمهورية الذي يتوسل إلى الجمهور إمهاله قليلاً ليقوم بإنجاز وعوده, لكن الجمهور يرفض ويصر على رحيل الرئيس الآن. وفي سياق غنائي حواري تتصاعد فيه توسلات الرئيس ووعوده, ويتصاعد فيه تصميم الحشد على الرفض, تتكشف رداءة النظام وهشاشته في آن معاً. لقد ساهمت أغنيات إبراهيم في ساحة العاصي وعبر الإنترنت في تعرية وفضح رموز النظام من خلال السخرية اللاذعة الجريئة والمباشرة, مما أسقط حصانتهم ضد النقد والاستهزاء, و ساعد كثيراً على تجاوز الجمهور للخوف والتهيب اللذين كبلاه طوالَ عقود.
كذب الإعلام السوري أخذ حيزاً كبيراً من سخرية الثورة. وقد ولدت فكرة سباق التسلح بين حمص وحماه في سياق التفنيد الساخر لمزاعم النظام وإعلامه حول وجود عصابات إرهابية مسلحة . إن عدداً كبيراً من فيديوهات سجلها هواة تُظهر ما يشبه الاستعراضات العسكرية الساخرة التي يقوم بها شباب في حماه وحمص, حيث يستعرضون نماذج من أحدث الأسلحة وأشدها فتكاً, مهيأة لمواجهة قوات الأمن والشبيحة : صاروخ شحوار 3 – بوري مدفأة - , قنابل يدوية ( ثمار باذنجان مدور), رشاش بامية – بلدية - , آر- بوري ( على نمط آر بي جي ), مزراب 1 الجديد كلياً...الخ. أما المدفع العملاق الذي صُنع في حماه, وكشف عنه الحماصنة مع تعليق يقول: مين قدكم يا حموية...مين؟؟ فهو عبارة عن بوري صوبا طويل ملفوف بقماش بالٍ . وبعد زيارة السفير الأمريكي لحماه, نشر الهواة مقطع فيديو بعنوان : منظومة الدفاع الجوي التي سربتها أمريكا إلى حماه عبر كوماندوس مندس نزل من السماء ! الفيديو يسخر من الهيصة الإعلامية التي افتعلها النظام حول الزيارة, والسلاح هو عبارة عن غسالة برميل قديمة مربوط بمحورها الدوار – دش- يدور حول نفسه مع المحور عند تشغيل الغسالة.
وفي سياق السخرية من آلة البطش التي يستخدمها النظام ضد الشعب الأعزل, أنشأ الحماصنة صفحة على فيسبوك بعنوان – مغسل و مشحم حمص الدولي للدبابات – مع إعلان يقول: بسبب كثرة الدبابات في سوريا بشكل عام, وحمص بشكل خاص, تم بعون الله افتتاح المركز الأول لصيانة الدبابات...الخ. وهذا الموقع نفسه يعرض آخر مخترعات الحموية من الأسلحة, مثل راجمة الصواريخ التي تعمل على الطاقة النووية بسبب عدم وجود المازوت؟؟!. وتستخدم صفحة فيسبوك هذه أسلوب المعارضات الشعرية لتعميق روح النكتة والسخرية , كما في هذا المقطع الطريف:
جاءت دبابتي في غيهب الغسق
فقلت نورتني يا خير دبابة ..
أما خشيت من الشبيحة في الطرق ؟
فجاوبتني وصوت القصف يسبقها
من يذهب إلى حمص لا يخشى من العسس!!
هذا المنحى القائم على الكوميديا السوداء والإضحاك المرير , والذي يطهّر من الخوف والتردد, ويفتح البصر والبصيرة على مدى وحشية النظام وهشاشته في آن معاً , يصل ذروة تعبيره الفني المتكامل كلمة ولحناً و عمليات مونتاج وإخراج, في فيديو ( كرمال الأمة الأسدية ). وهو عمل فني جميل يرسم من خلال أغنية جماعية سريعة اللحن قصيرة الجمل, صورة بشعة لأدوات الحل الأمني الذي اختاره النظام: الشبيحة و رجال الأمن في انصياعهم الأعمى لغرائز القتل والتنكيل. يردد هؤلاء الأغنية بلحنها المندفع الأهوج, وفي الخلفية يستخدم المخرج تقنيات الملصق الذي ترتسم عليه الكلمات الفظيعة التي يرددها القتلة.
ثمة الكثير من هذه الأعمال الفنية الساخرة التي تستحضر المرح والابتسامة في قلب الرعب و في مواجهة سواطير الشبيحة ورصاصهم الغادر. و من الواضح أن الحس الشعبي العفوي الذي يقف وراء هذه الأعمال, هو نفسه الذي يصوغ محددات الوعي والفعل في الثورة السورية, كثورة سلمية وطنية تتمسك بوحدة الشعب في مواجهة نظام تسلطي شمولي.
إن النكتة معجونة بالألم في هذه الأعمال.. وعلى أمواج الضحك الاحتفالي الصادق, يمكننا التقاط دمعة هاربة. وبهذا المعنى نقرأ العبارة التالية على صفحة – مغسل و مشحم حمص الدولي..- : " برغم الجرح... صباح الخير يا بلدي " !
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* باحث وكاتب من سوريا.

(104)    هل أعجبتك المقالة (107)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي