تصور دستوري حالم للخروج من الأزمة
" إن حديثاً واحداً عابراً يمكن أن يحتوي بذرة حياة بكاملها " – الرباعية الاسكندرية –
إن تطاول الجريمة التي يرتكبها النظام السوري بحق الشعب الأعزل, وفظاعة ما يحدث بحق المطالبين بالحرية والكرامة, واستمرار لجوء الأمن والشبيحة إلى البطش الرهيب والعنف العاري, يجعلني أفكر أحياناً بمسارات أخرى, كان يمكن للأحداث أن تأخذها, وتوفر على شعبنا وبلدنا هذه الخسائر الفادحة التي لا يعوضها شيء في العالم على الإطلاق, بما في ذلك امتيازات السلطة الضخمة, التي يرفض رموز النظام التخلي عنها لصاحبها الشرعي: الشعب.
من بين هذه الأفكار ما يتسم بالمثالية والتخييل الرومانسي. لكن لا بأس, فهي تمنحني شيئاً من التوازن والتماسك أمام مشهد القسوة والرعب المتكرر يومياً. لا بأس بفكرة جميلة تنهض من ركام القتل والإلغاء الذي يتركه قتلة النظام أينما حلوا في مدن سوريا ومناطقها وقراها الوادعة الطيبة. ثم إن الأفكار الجميلة في صيغتها الأكثر رومانسية وتخييلاً لطالما كانت محركاً لصناعة مستقبل أفضل, وملهمة للأحلام التي تحققت على أرض الواقع.
ولأنني نشأت وعشت في ظل نظام جمهوري رئاسي, للرئيس فيه اختصاصات وصلاحيات تتاخم ما للإله تقريباً, فلست أستطيع التفكير بأي خيار آخر كان يمكن اللجوء إليه عوضاً عن القتل والتنكيل بشعبي, وبأي طريق أخرى تبعدنا عن طريق الدم والجريمة هذه, من دون أن أفكر بالرئيس نفسه: لو أنه لم يفعل ذلك؟ لو أنه قرر كذا.. ولو أنه أمر بكذا...؟ إن لو تفتح لي في هذه الفاجعة طريقاً كي أتنفس وأستعيد أفقاً للصبح.
من بين هذه الأفكار الحالمة مثلاً فكرة تخلي الرئيس السوري عن منصبه, ومغادرة السلطة والتفرغ لممارسة الطب, نزولاً عند رغبة شعبه من جهة, وعملاً بمبدأ مركزي من مبادئ الديمقراطية, أقصد مبدأ التداول السلمي للسلطة, من جهة ثانية.
ومما جعل هذه الفكرة تلح عليَ, غيابُ طرح مسألة تداول السلطة – على مستوى منصب الرئاسة - في خضم المناقشات الجارية حول السبل السياسية والدستورية للخروج من الأزمة الراهنة في سوريا. فلماذا حدث هذا الأمر بينما البلاء وأسه يكمنان في حالة احتكار هذا المنصب منذ أكثر من أربعين عاماً ؟! هل هو التهيب من الاقتراب من موضوع يعتبره الجميع تقريباً من المحرمات لأنه يتعلق بمنطقة نفوذ حصري ومقدس؟ أم أن إلغاء المادة الثامنة من الدستور السوري, كما تلح المعارضة, يُعتبر مدخلاً دستورياُ لتحقيق مبدأ تداول السلطة؟؟..
إن المطالبة الملحة من المعارضة بإلغاء المادة الثامنة من الدستور التي تقول بأن حزب البعث هو القائد للدولة والمجتمع...الخ, وإبداء النظام استعداده لإعادة النظر بهذه المادة تمهيداً لإلغائها؛ إن ذلك كله خطوة باتجاه تحقيق مبدأ التعددية السياسية, لكن التعددية السياسية نفسها لا معنى لها على الإطلاق بغياب مبدأ تداول السلطة بشكل سلمي انتخابي ديمقراطي . ولأكن أكثر وضوحاً وأقول: في نظام جمهوري رئاسي يتمتع فيه رئيس الدولة باختصاصات واسعة جداً, فإن مجرد تحقيق التعددية في جوهرها القائم على حق جميع الأحزاب والقوى السياسية في قيادة الدولة والمجتمع, لن يُفضي إلى سياق ديمقراطي حقيقي, إن لم يأخذ التطبيق أبعاده الكاملة والنهائية في الممارسة, وصولاً إلى رأس الهرم في السلطة: أي رئيس الدولة. أي تحقيق التعددية والتداول على صعيد الرئاسة.
بالنسبة للدستور السوري المعمول به حالياً ومنذ أربعين عاماً, فقد قطعت المادة الثامنة الطريق على مبدأ التداول على صعيد القوى والأحزاب, كما أن عدم تحديد عدد المرات التي يحق فيها للرئيس الترشح لمنصب الرئاسة, جعل مبدأ تداول السلطة على الصعيد الثاني – منصب الرئاسة – غائباً أيضاً. ثم جاءت هرطقة التوريث لتغلق بابَ التداول في منصب الرئاسة, حتى على صعيد الحزب القائد, وذلك بحصر منصب الرئاسة في عائلة واحدة.
إن الدستور السوري الحالي, وكذلك معظم دساتير الأنظمة الجمهورية الرئاسية في العالم العربي, تمنح الرئيسَ صلاحيات واسعة على صعيد السلطتين التنفيذية والتشريعية, وفي المجالات الاقتصادية والعسكرية والإدارية والسياسية. فإذا أضفنا إلى اتساع الصلاحيات الهائل هذا انفتاح أمد البقاء في الرئاسة – إلى الأبد – تحصّل لدينا عوضاً عن النظام الجمهوري, نظام استبدادي شمولي, لا تلبث أن تلحق به عدة ظواهر منها : عبادة الفرد وتقديس السلطان وتسخير قدرات المجتمع البشرية والمادية لخدمة السيد الرئيس و حاشيته من أقرباء وأعوان ومهرجين , وصولاً إلى بدعة التوريث التي تشكل ذروة فانتازيا الرعب والجنون في سيرورة التحولات المشار إليها. وهذه السيرورة التي تمتد إلى عشرات السنين, مع الأمل بتوريث الابن, تجعل من تنحي الرئيس عن الحكم أمراً غير وارد على الإطلاق بالنسبة له, بل غير مفهوم أبداً, وبالتالي فإن أية محاولة – وهي لابد منها في النهاية – من أجل توقيف هذه المهزلة وإعادة الأمور إلى نصابها التاريخي والشرعي, ستكون في غاية الصعوبة والتكلفة الباهظة, وهذا ما نراه حالياً في سوريا من بطش بربري وقتل بدون رحمة.
ً المسألة إذاً لا تقتصر على موضوع المادة الثامنة في الدستور السوري, بل تتعلق بأمرين إضافيين ينبغي معالجتهما- دستورياً - أيضاً بالتزامن مع إلغاء المادة الثامنة. وهما:
1- تعديل المادة الخامسة والثمانين من الدستور التي تحدد مدة ولاية الرئيس بسبع سنوات, لتكون أربعة أعوام فقط أو ستة أعوام.
2- إضافة مادة جديدة إلى الدستور تنص على أن الرئيس لا يحق له الترشح لأكثر من فترتين رئاسيتين.
ويقفز سؤال هنا : مَنْ سيقوم بهذا التعديل والإضافة.. ومِنْ أين تستمد هذه الخطوة - لو حدثت - شرعيتها؟
عند هذا السؤال بالذات, وأمام تطاول أيام الرعب والدم والحوارات والمشاورات والمؤتمرات, طلعت لي فكرة تنحي الرئيس السوري عن منصبه . وإليكم خطوات تطبيق الفكرة – الحلم عملياً ودستورياً :
إن المادة - مائة واثنا عشر- من الدستور السوري تنصّ على ما يلي:
لرئيس الجمهورية أن يستفتي الشعبَ في القضايا الهامة التي تتصل بمصالح البلاد العليا, وتكون نتيجة الاستفتاء ملزمة ونافذة من تاريخ إعلانها وينشرها رئيس الجمهورية.
تكتسب هذه المادة الدستورية أهمية قصوى ومركزية بالنسبة للتطلعات الوطنية الراغبة في الإصلاح الحقيقي والخروج من الأزمة الخطيرة التي تمر بها سوريا. وهو ما أغراني بتلك الفكرة المشار إليها بداية. فهذه المادة تسمح لرئيس الجمهورية بطرح الأمرين أعلاه, و اقتراح إلغاء المادة الثامنة, على الاستفتاء. وبناء على استقراء المزاج السوري العام فإن الأغلبية الساحقة ستوافق على اقتراحات الاستفتاء. ويكتسب الإجراء شرعيته من كونه يستند إلى حق دستوري للرئيس. لكن الأهم من كل ذلك , وبخاصة بالنسبة للشارع السوري ووقائع الأزمة ميدانياً, فإن هذا الإجراء لو حدث, كان يمكن أن يجعل من الرئيس السوري نفسه قائداً فعلياً لإصلاح حقيقي موثوق به بشكل كبير من قبل معظم السوريين. ومبعث الثقة هنا أن هذه الخطوة سيفهمها الشارع السوري على أنها إعلان واضح من الرئيس عن استعداده لتبني مبدأ تداول السلطة بشكل كامل, يشمل مؤسسات الدولة كلها بما في ذلك منصب الرئاسة الذي يشغله هو نفسه الآن.
كان بوسع الرئيس السوري أن يلجأ إلى مثل هذا الخيار الواضح العملي والمشروع تاريخياً وشعبياً, سياسياً وأخلاقياً, وكذلك دستورياً, فيقطع بذلك مع مسار الرعب والجنون, ويضع سوريا على بداية تحول حقيقي نحو مستقبل ديمقراطي تعددي, ودولة عصرية " تمثل المجموع الاجتماعي والحق العام".
كان يمكن أن يجري الاستفتاء بعد تشكيل مجلس قضائي أعلى مستقل يشرف على العملية. وبناء على نتيجة الاستفتاء تبدأ الدعوة لإجراء انتخابات برلمانية يشرف عليها المجلس القضائي نفسه, وتشارك فيها كل القوى السياسية والمجتمعية على قدم المساواة, في غياب المادة الثامنة من الدستور. ونحصل أخيراً على مؤسسة ديمقراطية تشريعية ذات سلطة نابعة من سلطة الشعب حقيقة. ويكون أمام البرلمان الجديد مهام تاريخية تتمثل في تشكيل لجان حقوقية تتولى استكمال تعديل الدستور, و وضع قانونيّ انتخابات وإعلام يراعيان مبدأ التعددية, ويحققان الديمقراطية والشفافية والتمثيل الحقيقي للناخبين, والإعداد لإجراء انتخابات رئاسية بالصيغة التي يقررها المشرعون بناء على تحديدات الدستور الجديد, بما في ذلك التوجه نحو النظام الجمهوري البرلماني عوضاً عن الرئاسي الذي أثبت في غير تجربة عربية صيرورته, ضمن المعطيات الاجتماعية الثقافية والتاريخية, نظاماً استبدادياً عنفياً يلغي المجتمع والدولة معاً.
خلال هذه الفترة كان يمكن لرئيس الدولة الحالي أن يستمر في القيام بمهامه وصلاحياته بشكل يخدم هذه التطلعات, ويسهّل إنجازها, ريثما تنتهي ولايته الثانية. وكونه لن يترشح لفترة رئاسية جديدة, يشكل حافزاً له ليستخدم صلاحياته من أجل نزاهة وشرعية الخطوات التي تجري. سيكون الرئيس حارساً للفضاء الديمقراطي الذي يتشكل ويولد تحت إشرافه, وكمنجز تاريخي أخير له.
هذه الفكرة الرومانسية, بخطواتها التي فكرت فيها كحالم في محيط الرعب هذا, ألم تكن كفيلة, لو تحققت منذ البداية, بمبادرة خلاقة وشجاعة ودستورية من رئيس الجمهورية الحالي, بأن تخفف إلى درجة كبيرة من توتر الوضع في سوريا, وتحقن الدم السوري الذي تسفكه قوات النظام لتحافظ على وضع غير دستوري وغير شرعي وغير قابل للحياة إطلاقاً.؟! أعتقد ذلك بقوة. وأود أن أمعن في الفكرة الحالمة فأرى المستقبل من خلال حدوثها: أرى سوريا وطناً مزدهراً لأبنائه جميعاً, يضمن لهم تحقيق أحلامهم وارتفاع قاماتهم بين شعوب الأرض, يفخر بهم جميعاً, وبالرئيس الشاب على وجه الخصوص, ذاك الذي قام ذات يوم بالرجوع عن خطأ تاريخي بحق بلده, وأعاد الأمور إلى نصابها. سيقف كثيرون في شارع من شوارع دمشق..أو أي مدينة أخرى, ويشيرون إلى مكان ما ويقولون: هنالك كان الرئيس الطبيب يستقبل مرضاه بعد أن غادر كرسيّ الرئاسة, وعاد طبيباً يستقبل المواطنين تحت سقف الوطن!!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* كاتب وباحث من سوريا .
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية