من الصعب جداً أن يتصور المرء أن السفير الأمريكي قد فاجأ النظام السوري بزيارته إلى مدينة حماه , والمبيت فيها حتى يوم - جمعة لا للحوار - . أما التساؤلات التي أطلقتها السيدة بثينة شعبان حول كيفية وصول السفير إلى حماه من دون أن تهاجمه العصابات المسلحة, فلا يمكن التعامل معها إلا بوصفها تذاكي على الحقيقة, ممجوج ومكشوف, وعلامة دالة على خواء الدبلوماسية السورية وضيق الأفق الذي يحكم رؤية النظام لما يحدث, ولسبلِ الحل. هنا لابد من التذكير بتصريحين أدلى بهما وزير الخارجية المعلم – رأس الدبلوماسية السورية – يندرجان في سياق ضيق الأفق والتذاكي على الحقيقة نفسه : الأول حول قرار مسح أوربا من الخارطة. والثاني القول بأن الدبابات السورية لم ترغب في دخول حماه, بل هي كانت متجهة إلى إدلب!! . الوزير والسيدة شعبان كلاهما ما فتئا يحاولان ستر الشمس بالغربال, في زمن تغدو فيه الشفافية والوضوح معياراً لشرعية العمل السياسي وقيادة الدول.
وبالعودة إلى موضوع السفير الأمريكي وزيارته لمدينة حماه التي نقلت عبر ساحتها الرئيسية مسارَ الثورة السورية نقلة نوعية وحاسمة؛ لا بد من ملاحظة الهوة الكبيرة بين قراءتين لساحة العاصي والعصيان الشعبي الشجاع الذي تجسده الحشود هناك. قراءة النظام التسلطي الذي يحكم سوريا من جهة, وقراءة الدبلوماسية الغربية والمجتمع الدولي من جهة ثانية. rn خلف قراءة النظام السوري يقبع عقل عنفيّ أمني بربري, يفتقر إلى أدنى درجات المرونة والمبادرة التي يتطلبها العمل في السياسة وإدارة أزمات المجتمع. كما أن الحملة الإعلامية التي شنها النظام على زيارة السفير, استناداً إلى التلفيق من جهة والشعارات الخرقاء التي لم تعد تقنع أحداً من جهة ثانية؛ هذه الحملة تعكس فعلاً بدائية النظام وافتقاره الفظيع لأساسيات العمل السياسي, ومنطق الدولة.
لقد كان واضحاً من خلال أحداث الأسبوع الذي تلا المظاهرة المليونية في حماه – جمعة ارحل – ومرسوم إقالة محافظ المدينة السيد أحمد خالد عبد العزيز, الذي يمكن اعتباره ممثلاً للحد الأدنى من الممارسة السياسية والحنكة في استخدام السلطة, أن النظام قد اختار المعالجة الأمنية بأقسى أشكالها وأكثرها عنفاً ودموية. وقد حدث ذلك بالفعل, فخلال أسبوع كامل قام الشبيحة وعناصر خاصة من أجهزة الأمن بارتكاب فظاعات بحق المدنيين السلميين في حماه, وصلت ذروتها في ذبح المغني الشهيد إبراهيم قاشوش, حيث استهدف القتلة حنجرته تحديداً, فقاموا بانتزاعها من رقبته مع حباله الصوتية وكامل الأعضاء المحيطة بالطعنة. وبعد يومين من هذه الجريمة البشعة قُتل شابان عند جسر المزارب شرقي المدينة, وتم دهسهما بالدبابة والتمثيل بجثتيهما.rn بالترافق مع هذه الممارسات البربرية التي تهدف إلى إخضاع المدينة والقضاء بسرعة على ظاهرة ساحة العاصي خشية اتساعها وامتلاكها عوامل القوة والتأثير؛ أراد النظام التسلطي استثمار زيارة السفير إلى حماه ليتهم الثورة بالتواطؤ مع الخارج لتنفيذ أجندات ضد الوطن وضد النظام ومواقفه القومية والوطنية...الخ. وهو لذلك سمح بالزيارة, بل سهل الطريق أمامها, وإلا فكيف للسفير أن يقطع مسافة الطريق من دمشق إلى حماه - 200 كم - من دون أن تعلم السلطات الأمنية والسياسية بذلك وتحاول منعه وإجهاض الاتصال بين أطراف المؤامرة المزعومة, والحؤول دون تحريض السفير لثوار المدينة ضد النظام , كما ادعى الإعلام الرسمي البائس في حملة تم التحضير لها مسبقاًَ بالشكل والمضمون!!؟. لقد تناسى عباقرة الأمن والإعلام داخل النظام أن يوم الجمعة السابق لزيارة السفير شهد خروج ما لا يقل عن 500 ألف متظاهر في حماه! وأن سياق الأحداث يخضع لمحددات داخلية ومطالب شعبية خالصة ومحقة.
عاملان عول النظام فيما يبدو على تشغيلهما واستثمارهما من أجل تطويق نموذج ساحة العاصي والقضاء على الحراك الحضاري السلمي في حماه, كخطوة على طريق المعالجة الأمنية للأزمة في عموم مدن ومناطق سوريا: عامل الحل الأمني المتسم بأقصى درجات القسوة. وعامل التحريض الإعلامي الذي يقوم على تسهيل وقوع حدث ما, أو التغاضي عن حدوثه, ثم المسارعة إلى استثماره بعد حدوثه, وتقديمه للجمهور بالشكل الذي يخدم معالجته غير المجدية للأزمة. وهو ما وصفه باحث حصيف بالإعلام الفاجر.
يقرأ النظام السوري إذاً الأزمة وسبل معالجتها, بشكل بالغ الغباء والسطحية, كأنه يأتي من زمن مضى وانتهى, ليقرأ حدثاً برسم المستقبل, بحيث يتوهم أن العنف العاري من جهة, والفبركات الإعلامية والشعارات البائدة من جهة أخرى , كفيلان بإخراس الحراك الثوري وإرغامه على الخنوع من جديد لمتطلبات النظام التسلطي والحكم الاستبدادي. ومما يوضح لنا مدى الغباء والسطحية في مثل هذه القراءة للحدث السوري, النظر إلى طبيعة القراءة المقابلة التي قام بها الغرب والمجتمع الدولي للحدث نفسه, وهي القراءة التي يمكن تلمس طبيعتها من خلال زيارة السفير الأمريكي إلى حماه. rn لا يوجد عاقل يستطيع الزعم أن الولايات المتحدة الأمريكية تحديداً, والمجتمع الدولي عموماً, يتحركان في أي مكان في العالم خارج اعتبارات المصالح الخاصة وامتلاك المزيد من عوامل القوة والنفوذ. ومن المؤكد أن أحداث الربيع العربي وثوراته الملتهبة, ستشكل مناخاً عظيماً لتحركات غربية دائبة ومستمرة على كافة الصعد من أجل التمهيد لضمان مصالح دوله في المستقبل, بعد انتصار الثورات العربية, وانتقال المجتمع والدولة في العالم العربي إلى طور جديد كلياً, يقطع مع مجمل المراحل السابقة وبشكل حاسم. ولم يكن من المتوقع أن يقف المجتمع الدولي مما يحدث في المنطقة موقف المتفرج الذي لا يعنيه ما يجري. ينضاف إلى ذلك, بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية, حاجتها إلى تجسير العلاقة من جديد مع الشعوب العربية, بعد أن لحقت بها أفدح الأضرار خلال حكم جورج بوش الابن. إن السياسة الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية, ومنذ أن تولى أوباما الرئاسة فيها, تضع في الاعتبار تنفيذ عملية غسيل هائلة للوجه الأمريكي البشع الذي أسفرت عنه مواقفها إزاء مصالح وقضايا الشعوب العربية, خلال ولايتيّ بوش. وقد افتتح أوباما هذا التوجه بخطابه الشهير في جامعة القاهرة. ويمكن التقاط عدد من المواقف في هذا الاتجاه, كما في زيارة وزيرة الخارجية كلينتون إلى ميدان القاهرة بعد انتصار الثورة, وزيارة السفير الأمريكي إلى ساحة العاصي بحماه.
لكن وجود أهداف مصلحية ودعائية خاصة بالولايات المتحدة من خلال زيارة سفيرها إلى حماه, لا يضير الثورة السورية بشيء على الإطلاق, ولا يسيء بأي شكل إلى وطنية الثورة وشرعيتها التاريخية والأخلاقية. وقد صرح أحد نشطاء الثورة بحماه أن التظاهرات كانت قائمة قبل الزيارة وأثناءها وستظل قائمة بعدها أيضاً. كما نشرت صفحة تنسيقية الثورة السورية في حماه على موقع facebook أن شباب الثورة ليسوا بحاجة إلى مؤازرة من أي سفير أو جهة خارجية. ورفضوا مراراً وتكراراً التدخل الخارجي. وفي بيان صحافي لتنسيقية الثورة في حماه تم التأكيد على أن أحداً في المدينة لم يدع السفراء لزيارتها, وأن المدينة استقبلت هؤلاء كشهود عيان لينقلوا للعالم حقيقة الأعمال الإرهابية الفظيعة التي يرتكبها النظام في المدن السورية. ويتساءل البيان بحنكة وموضوعية يفتقر إليها إعلام النظام بشكل واضح: ألم يكن هذا الأسلوب نفسه الذي استعمله النظام؟ ألم يكن السفير منذ أيام في مدينة جسر الشغور بدعوة من النظام السوري ليكون شاهد عيان على الوضع في المدينة؟
بين قراءتين لساحة العاصي والحراك الشعبي العظيم فيها: قراءة النظام السوري من طرف وقراءة السفير الأمريكي , كممثل للعقل السياسي الغربي, من طرف آخر؛ هوة كبيرة فعلاً تعكس بؤس النظام العربي, وتخلف أدواته في ممارسة السلطة والحكم والسياسة و مجمل متطلبات قيادة المجتمع وتحقيق مصالح أفراده. أمر محزن فعلاً هذا العجز الكامل للنظام العربي على التفكير والممارسة داخل السياسة والتاريخ والمنطق.
كلاهما, النظام السوري والسفير الأمريكي أرادا تحقيق أهداف محددة من الزيارة. لكن بينما كان النظام السوري يرى إلى حماه بعين ثمانينيات القرن الماضي, وبمنطق الإبادة والإلغاء, ويرى إلى الزيارة بمنطق الاستثمار الإعلامي والشعاراتيّ المكشوف والواهن, على أمل إرباك الحراك الشعبي وتفتيت مرتكزات الثورة السورية وطنياً وأخلاقياً؛ جاء السفير الأمريكي إليها مدركاً تماماً أهمية ساحة العاصي في صنع مستقبل سوريا الجديد والمختلف. وكما أشار المفكر برهان غليون في تصريح لقناة الجزيرة, فإن السفير الأمريكي أدرك بشكل جيد وجود شرعية جديدة آخذة في الحلول مكان النظام الاستبدادي الذي افتقد أي نوع من أنواع الشرعية القانونية, أو المشروعية السياسية.
من جهة لدينا محدودية العقل التسلطي الذي يحكم سوريا ويتخبط بين استخدام العنف العاري المتوحش بحق أبناء سوريا, وبين التذاكي الإعلامي الإشهاري الغبي والفاقد الصلاحية. ومن جهة أخرى لدينا العقل الأمريكي- الغربي: حسابات المصالح والنفوذ, اعتماداً على المعرفة الدقيقة والتخطيط المتكامل والمبادرة المحسوبة والعنجهية المرتكزة إلى القوة والدهاء معاً. وبينهما لدينا سوريا التي, كما قال المغني الشهيد إبراهيم قاشوش: بدها حرية.
منذ مائة عام تقريباً, وعشية انعقاد المؤتمر العربي الأول في باريس عام 1913, قال رئيس المؤتمر عبد الحميد الزهراوي: إن مشكلة العالم العربي تتمثل في انحشاره بين استبداد شرقي لا يرحم, وجشع غربي لا ينتهي. لا أجد أبلغ من هذا التوصيف لتشخيص حالة الثوار في ساحة العاصي وفي سوريا عموماً, وهم يواجهون الشبيحة من طرف, والسفير الأمريكي وهو يتملى الحشد في حماه, من طرف آخر.* باحث وكاتب من سوريا.
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية