أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

(هكذا تكلم الكواكبي عن الشبيحة )...( محمد حيان السمان )

في الطريق المُكْلِفة نحو الديموقراطية والعدالة و كرامة المواطن, التي يشقها شباب الثورة السورية اليوم بشجاعة وعزيمة نادرتين,لا بد من استحضار الكواكبي من حين لآخر, لا بد من استلهام صرخته المدوية والنبيلة والشُجاعة في وجه الاستبداد, بوصفها كنزاً إنسانياً و فكرياً, قدّس الحرية والكرامة الإنسانيتين, بمقدار تعريته الاستبداد وتفكيك آليات عمله المتوحش على مستوى السياسة والأخلاق والتعليم والاقتصاد والثقافة...
إن وعي الممارسة والمعاناة الميدانية المتشكل تراكمياً يوماً بعد يوم, لدى شباب الثورة السورية, هو المحدد الأساسي لرؤيتهم نحو المستقبل. كما أن مصادر القوة والأمل لديهم تتأسس من خلال عدالة مطالبهم وسلمية تحركهم وجدارتهم التاريخية والسياسية والأخلاقية بأحلامهم. بيْد أن صرخة نبيلة كتلك التي أطلقها جدُّهم الشيخ الكواكبي, على مستوى الفكر والنظر, ستكون بمثابة إيماءة للثورة تحمل معنى المؤازرة والرضا والحب, وتبارك عملهم التاريخي العظيم.


* * *
كيف تكلم الكواكبي عن الشبّيحة – أعوانِ المستبد - – في كتابه ( طبائع الاستبداد) ؟ وبأي لغة صوّر أفعالهم المشينة بحق الوطن والمواطن؟.


بداية لا بد من الإشارة إلى وجود معنيين اصطلاحيين لهذه الكلمة المقيتة – الشبّيحة – أطرا دلالتها التداولية خلال الثورة السورية :
المعنى الضيق : مجموعة من القتلة المدربين على البطش بالمواطنين العزّل. منهم الموظفون الرسميون في الأجهزة القمعية, ومنهم أزلام مأجورون لرموز النظام التسلطي وأصحاب الثروات الذين نهبوا, بمؤازرة ودعم السلطة, أموالَ الشعب. هذا الصنف من الشبيحة يظهر بشكل خاص في الأزمات الخطيرة التي يواجهها النظام الاستبدادي, وتستدعي تشغيل أجهزة القمع بصورة قهرية جسدية مباشرة. وقد شاهد العالم أجمع قطعانهم بلباس مدني في شوارع المدن السورية مؤخراً, يلاحقون المتظاهرين المطالبين بالحرية, فيقنصونهم عن بعد, أو يواجهونهم بالرصاص الحي مباشرة, أو ينهالون عليهم ضرباً بالقضبان الحديدية و الهراوات.
المعنى الواسع : يلجأ النظام التسلطي من أجل احتكار السلطة إلى السطو على أجهزة الدولة, وتسخير وظائفها الإعلامية والثقافية والتعليمية والاقتصادية لخدمة مصالحه الخاصة. وهكذا يظهر الشبيحة في هذه الأجهزة الإيديولوجية كجيشٍ من الموظفين الذين يُسخّرون خبراتهم ومواقعَهم المؤسساتية وسلطاتهم المختلفة لخدمة النظام التسلطي . وفي أوقات الأزمات والصدام المباشر بين السلطة والمجتمع , يفزع هؤلاء إلى مؤازرة الشبيحة من الصنف الأول, بما ملكوا من سلطاتٍ إيديولوجية, حتى لا يكاد المرء يلحظ كبيرَ فارقٍ- لا في المنظر ولا في المخبر- بينهم, كإعلاميين وأساتذة جامعات ورجال دين وقانون, وبين الشبيّحة القتلة.


* * *
يستخدم الكواكبي مصطلح التمجّد / المتمجدون بمحتوى دلالي يتطابق إلى حد بعيد مع ما تحيل إليه دلالة الشبيحة بالمعنيين المشار إليهما : كقتلة وجلادين, أو كأبواق تضليل وأدوات هيمنة في خدمة النظام التسلطي.
التمجّد, يقول الكواكبي, خاصٌّ بالإدارات الاستبدادية, و" هو أن يصير الإنسان مستبداً صغيراً في كنف المستبدِّ الأعظم " ! والمتمجّدون " أعداء للعدل أنصار للجور، لا دين ولا وجدان ولا شرف ولا رحمة، وهذا ما يقصده المستبدُّ من إيجادهم والإكثار منهم ليتمكَّن بواسطتهم من أن يغرِّر الأمة على إضرار نفسها تحت اسم منفعتها ".
وقد لاحظ الكواكبي بنباهة لافتة, أنه كلما أمعن النظام في التسلط وشدة الاستبداد, واختطفَ الدولة ومؤسساتها فحرفها عن شرعيتها القائمة على تمثيل المجموع الاجتماعي والحق العام – بتعبير عبد الإله بلقزيز - ؛ كلما كثُر الشبّيحة من الصنفين, وأمعنوا في الانقضاض على أجساد الناس و كراماتهم وعقولهم :
" وهذه الفئة المستخدمة يكثر عددها ويقلُّ حسب شدة الاستبداد وخفّته، فكلما كان المستبدُّ حريصاً على العسف احتاج إلى زيادة جيش المتمجّدين العاملين له المحافظين عليه، واحتاج إلى مزيد الدقّة في اتِّخاذهم من أسفل المجرمين الذين لا أثر عندهم لدينٍ أو ذمّة، واحتاج لحفظ النسبة بينهم في المراتب بالطريقة المعكوسة؛ وهي أن يكون أسفلهم طباعاً وخصالاً أعلاهم وظيفةً وقرباً، ولهذا، لا بدَّ أن يكون الوزير الأعظم للمستبدّ هو اللئيم الأعظم في الأمة " !! .
تحيل دلالة التمجّد في بعض مستوياتها الدلالية داخل خطاب الكواكبي, إلى معنى الشبيحة كقتلة للشعب : التمجد, يقول الكواكبي, هو " أن يتقلّد الرّجل سيفاً من قِبَل الجبارين يبرهن به على أنَّه جلاد في دولة الاستبداد ".وعندما يتحدث الكواكبي عن حاشية المستبد فإن المجموع الدلالي لكلامه يؤطر بدقة الحقلَ الذي تحيل إليه دلالة الشبيحة كقتلة و مجرمين . فهذه الحاشية, كما يقول الكواكبي, " أشقى خلق الله حياة, يرتكبون كل جريمة وفظيعة لحساب المستبد " .
إن الحاجة للشبيحة في النظام التسلطي أمر حتمي, وحتميته نابعة من الترابط البنيوي بين المستبد وغياب المشروعية السياسية لسلطته. مما يؤدي به إلى البحث عن أدوات تحميه بالعنف وتكرس, من خلال قهر أفراد المجتمع, سلطته غير الشرعية. من هنا المستبد, كما يقول الكواكبي, "لا يخرج قط عن أنه خائن خائف محتاج لعصابة تعينه وتحميه ". وتمتد هذه العصابة وتتكاثر لتشمل " القائد الذي يحمل سيف المستبد ليغمده في الرقاب بأمر المستبد لا بأمر الأمة ", والجندي الذي " لايكاد يلبس كم السترة العسكرية إلا ويتلبس بشر الأخلاق, فيتنمر على أمه وأبيه, ويتمرد على أهل قريته وذويه, ويكظ أسنانه عطشاً للدماء لا يميز بين أخ وعدو... ". عصابة يستحيل معها الوطن جحيماً يحاصر أبناءه ويئدهم أحياءً. وقد خاطب الكواكبي هذا الوطن وكأنه يلحظ بعين الغيب مستقبلَ بلده يجول ويصول فيه شبيحة النظام التسلطي :
" أيها الوطن... إلى متى يعبث خلالك اللئام الطغام ؟ يظلمون بنيك و يذلون ذويك ؟ يطاردون أنجالك الأحباب ويمسكون على المساكين الطرق والأبواب ...؟ ".


* * *
تنصرف دلالة التمجّد في خطاب الكواكبي إلى المعنى الواسع للشبيحة أيضاً, بوصفهم أبواق تضليل وتزييف للحقائق, أدوات يهيمن بها النظامُ التسلطي على المجتمع, ويحتكر من خلالها وظائفَ الدولة ومؤسساتها, لتأبيد سلطته والإيهام بشرعيتها السياسية والدستورية. يقول الكواكبي عن المتمجدين / الشبيحة بهذا المعنى الأخير ما يلي: " المستبد يتّخذ المتمجّدين سماسرة لتغرير الأمة باسم خدمة الدين، أو حبّ الوطن، أو توسيع المملكة، أو تحصيل منافع عامة، أو مسؤولية الدولة، أو الدفاع عن الاستقلال، والحقيقة أنَّ كلّ هذه الدواعي الفخيمة العنوان في الأسماع والأذهان ما هي إلا تخييل وإيهام يقصد بها رجال الحكومة تهييج الأمة وتضليلها " .
يقرر الكواكبي أن الاستبداد المشؤوم يقوم على قلب الحقائق , مما يستدعي جيشاً من الموظفين / الشبيحة الذين يعملون, كل حسب موقعه, في خدمة المستبد, من إعلاميين وعلماء وأطباء و مهندسين ورجال دين وأصحاب أموال...الخ. وهؤلاء جميعاً, كما يجزم الكواكبي, لا بد أن يكونوا متصاغرين متملقين أذلة, أي باختصار – شبيحة – حتى يقبل بهم المستبد, ويدرجهم ضمن طاقم القهر والتضليل الذي يستخدمه إزاء المحكومين.
" الموظفون في عهد الاستبداد للنصح والإرشاد يكونون من المنافقين الذين نالوا الوظيفة بالتملق, وما أبعد هؤلاء عن التأثير.. " وفي مكان آخر يقول " لا يحب المستبد أن يرى وجه عالم عاقل يفوق عليه فكراً , فإذا اضطر لمثل الطبيب والمهندس, يختار الغبيّ المتصاغر المتملق " .
ومن علامات سياق الاستبداد التي يلتقطها الكواكبي, اشتداد الحرص في رؤوس الناس على التموّل القبيح, بسبب سهولة تحصيل الثروة بالسرقة من خزينة الدولة, وبالتعدي على الحقوق العامة, وبغصْب ما في أيدي الضعفاء. في مثل هذا الفضاء يكثر الأثرياء / الشبيحة أصحابُ رؤوس الأموال الضخمة. وعدة الشخص في السياق الاستبدادي, كي يتحول إلى مليونير أو أكثر, على ما يقول الكواكبي " هو أن يترك الدينَ والوجدان والحياء جانباً, وينحط في أخلاقه إلى ملاءمة المستبد الأعظم, أو أحد أعوانه وعماله ... ويتقرب من أعتابه ويُظهر له أنه في الأخلاق من أمثاله و على شاكلته, ويبرهن له ذلك بأشياء من التملّق وشهادة الزور وخدمة الشهوات والدلالة على السلب و نحو ذلك.. " أي باختصار : أن يغدو شبّيحاً !!
ولا يفوت الكواكبي الإشارة إلى التساند والتكامل بين صنفيّ الشبيحة, في هجماتهم الشرسة على المجتمع خدمة للمستبد. وبخاصة عندما يلحظ هذا الأخير وجودَ بعض العقلاء بين صفوف الجماهير الخانعة خوفاً وجهلاً, ويتوجس من ساعة المساءلة والمطالبة بالإصلاح. " عندئذ يرجع المستبد إلى نفسه قائلاً : الأعوان .. الأعوان.. الحملة السدنة أسلمهم القياد وأردفهم بجيش من الأوغاد أحارب بهم هؤلاء العبيد العقلاء, وبغير هذا الحزم لا يدوم لي ملك , بل أبقى أسيراً للعدل معرّضاً للمناقشة منغصاً في نعيم الملك, و من العار أن يرضى بذلك من يمكنه أن يكون سلطاناً جباراً متفرداً قهاراً " .


* * *
وهو يفكك دولة الاستبداد ويبيّن آليات عملها تمهيداً لوعي البدائل وتهيئة للحكومة الشورية والدولة المدنية؛ راح الكواكبي يظهر قبحَ المستبد وشروره وأفاعيله المشينة في حق محكوميه. لقد قال بوضوح : إن دولة الاستبداد دولة بله وأوغاد ! وعندما راح يبسط القول في أعوان المستبد وأوغاد دولته, قاده سردُه الحارق العميق إلى كلام يليق بشبيحة زمننا.
تتشابه الأزمنة إذاً على الرغم من مرور قرن على صرخة الكواكبي؟ ربما.. لكن لا بد أن نأخذ في الاعتبار أخيراً الفارقَ في درجة المشروعية السياسية والتاريخية – والأخلاقية أيضاً – بين دولة السلطنة العثمانية التي كان الكواكبي يحيل إليها في حديثه عن الاستبداد, وبين الدولة الوطنية ما بعد الاستقلال, و مآلاتها الراهنة بالغة القبح والقساوة, والتي يمكن اختزالها في معادلة مواطن / شبيح ! و ما بينهما : دولة مختَطفة و مجتمع مستباح .

* باحث سوري. مؤلف كتاب ( خطاب الجنون في الثقافة العربية).









(131)    هل أعجبتك المقالة (105)

هدى السديري

2011-06-26

الأخ الكاتب محمد حيان السمان...مقالتك تمتاز بالرصانة والهدوء. إنها بحث جاد, لكن ألا ترى أن الوضع القائم في سوريا الحبيبة يحتاج إلى كتابة من نمط آخر ؟ تحتاج إلى كتابة نارية توضح للناس آلام الشعب وهو يرزح تحت نير القمع الفظيع والتقتيل المتوحش للشعب ؟ مثلما كتب الكواكبي نفسه على سبيل المثال. شكراً لك على كل حال و لاشك أن الوعي بتراثنا المناهض للإستبداد أمر ضروري. والسلام ....


هادي الكسجي

2011-06-26

لم أتوقع أن يكون الكواكبي قد تحدث بهذا الشكل عن الشبيحة. هذه لقطة ممتازة تدل على أن جميع الطغاة شيء واحد في الإجرام والبلطجة والتشبيح. تسلم إيدك على هذه المقالة. وننتظر المزيد من أجل أن يفتح الناس عيونهم على فظائع المستبدين في كل مكان وزمان. النصر للثورة المباركة والمجد للشهداء والخزي والعار للطغاة وشبيحتهم المجرمين.


التعليقات (2)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي