في كتابه" الإسلام في الأسر: من سرق الجامع وأين ذهب يوم الجمعة؟" الصادر عن دار الريس في العام 1993، يرى المفكر الليبي الراحل الصادق النيهوم أن المسجد كان بالأصل بمثابة صيغة من صيغ السلطة الجماعية لأنه " مقر مفتوح في كل محلة. يرتاده الناس خمس مرات كل يوم. لهم حق الاجتماع فيه حتى خلال ساعات حظر التجول. تحت سقفه مكفولة حرية القول، وحرية العقيدة، وسلطة الأغلبية. في لغته كل المصطلحات المطلوبة، وكل كلمة حية ترزق".
لكن النيهوم يرى أن المسجد، مثل كثير من المفاهيم والمؤسسات، فقدت دورها أو قسما مهما منه مع الأيام. وهو يبين أن الفقهاء نجحوا في اختصار قواعد الإسلام إلى خمس فقط، ليس بينها قاعدة واحدة لها علاقة بشؤون الحكم. يقول النيهوم" فإذا شهد المواطن بأن لا إله إلا الله، وصلى وصام، وأخرج الزكاة، وذهب إلى الحج، يصبح مواطنا مسلما، مستوفيا لجميع شروط الفقهاء، بغض النظر عما يحدث له، وبغض النظر عما يحدث لعياله".
وبذلك نحن الآن أمام حالة صنع فيها الفقهاء " مسلمين من نصف إسلام" حين اختفت قواعد مهمة من الإسلام، مثل قاعدة العدل والمساواة. وحين اختفت قاعدة الجهاد عندما أصبح "المجاهد المسلم جنديا مأجورا للعمل في خدمة الإقطاع، وبات عليه ـ منذ ذلك الوقت ـ أن يقاتل ضد المستضعفين بعد أن تم اختزال الجهاد إلى مجرد قتال خلافا للآية الكريمة التي تبين أن الجهاد يجب أن يكون" في سبيل الله، والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان" ( سورة النساء: 75).
وهكذا نرى أن ما غاب عن الإسلام الذي نعرفه حاليا ليس بالقليل. والشيء ذاته ينطبق على دور المسجد الذي غاب عنه دوره في الدعوة إلى المحبة والتسامح والدعوة إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة، و الدعوة للبناء والحياة في سبيل الله بدلا من الدعوة إلى العنف والقتل بالطريقة التي استطاعت قوى كثيرة إلصاقها بالإسلام بفضل أعداد كبيرة من الشيوخ والدعاة الذين روجوا للجهاد بمفهومه المقتصر على العنف والقتل والسيارات المفخخة التي تقتل البرياء من دون تمييز في كل شوارع وأسواق العالم من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب. وهكذا نجح هؤلاء في خدمة أعداء العروبة والإسلام وتمكينهم من نشر" رهاب الإسلام" في كل مكان. وصار اسم محمد أو علي أو عمر يشكل تهمة في بعض البلدان. وصار المسجد متهما من قبل كثير من القوى المعادية بأنه مصدر الإرهاب والعنف.
في مرحلة مبكرة من تاريخ الإسلام، وقبل أن تتغير المفاهيم بالشكل الذي يقدمه الصادق النيهوم، وبالشكل الذي ساهم في إخراج الجامع عن دوره الحقيقي. كان هناك أكثر من مناسبة وُضِع فيها الجامع في مواجهة الجيوش. وقد تكون البداية في وقعة الحرة التي تمت فيها استباحة المدينة على يد القائد مسلم بن عقبة قائد يزيد بن معاوية، ثم بضرب الكعبة بالمنجنيقات على يد الحجاج بن يوسف الثقفي للقضاء على عبد الله بن الزبير في عهد عبد الملك بن مروان. وهناك أحداث كثيرة لم تكن فيها المساجد بمنأى عن الاقتحام والتدمير حين تتحول إلى ملاذ لمن يحاولون الخروج على الحاكم، كائنا من كان.
وكلنا يتذكر ما حدث في الكعبة المشرفة حين اعتصم فيها جهيمان العتيبي بعدما أدخل الأسلحة في أكفان وهمية في 1979. وبعد ذلك تحول الحرم المكي إلى ساحة معركة فعلية انتهت بالقضاء على التمرد وقتل عدد ممن كانوا في الداخل، وإلقاء القبض على جهيمان الذي أُعدم لاحقا مع عدد ممن كانوا معه. وقبل ذلك، يمكن تذكر مسجد السلطان الذي لجأ إليه المسلحون من جماعة الإخوان المسلمين في حماة العام 1964. وعندها تعرض لإطلاق النار من قبل الجيش في عهد الرئيس السوري محمد أمين الحافظ في تلك الفترة.
مثل هذه الحوادث تكررت كثيرا في مختلف الفترات التاريخية. وهذا يجعلنا نتساءل عن شرعية استخدام المسجد كميدان لمعركة تستخدم فيها الأسلحة بالمعنى العسكري البحت. في كثير من الحالات، تحول المسجد عبر التاريخ إلى أداة بيد الحاكم يستخدمه في تمجيد ذاته والدعاء له، مثلما يستعمله في قتل سمعة معارضيه وتشويه صورتهم. وهكذا بات بإمكان أي جماعة أن تستمر في السطو على دور المسجد واستخدامه في الدعاية لأهدافها السياسية على حساب دوره الديني البحت الذي سيؤدي في النهاية إلى إصلاح المجتمع ورفع سويته بعيدا عن الدعاية السياسية والتحريض على العنف داخل المجتمع ذاته، ومن قبل فئة ضد أخرى، بدل أن يكون المكان المناسب للتعبئة والتوعية واتخاذ القرار الخاص بمواجهة الأعداء الخارجيين.
مع الاستمرار في استخدام المسجد لتحريض فئة من المجتمع على أخرى، يكون هذا المكان المقدس قد تحول إلى سلاح في وجه سلطة أو فئة أخرى تمتلك أسلحتها الخاصة بها أيضا. وعندها سيكون من الطبيعي استخدام السلاح في وجه السلاح. وبالتالي يكون الذي استخدم المسجد كسلاح مسؤولا عن إخضاعه لشروط أي معركة تدور بين طرفين متخاصمين. وهكذا يكون قد أخرجه عن دوره في العبادة وزرع القيم السامية النبيلة والدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، وحوّله إلى حصن في مواجهة المنجنيق أو الدبابة أو الصاروخ. ولما كان نزع عنه قوته الروحية التي تجعله قوة لا تقهر، وحوله إلى قوة مادية، فعَليه أن يخضع لشروط الصراعات المادية العسكرية ويتقبل قوانين الحياة التي تقول إن الغلبة للأقوى.
لماذا لم يستخدم المسجد في تونس ومصر؟
كان واضحا أن المسجد لم يتحول إلى منبر تحريض أو ساحة نزال عسكري او نقطة انطلاق في أي من مصر وتونس ، ولا حتى في اليمن والبحرين. وبدلا عن ذلك اختار الجميع ميادين عامة يمكن أن تصلح لممارسة أي عمل، ومنها العبادة. فلاحظنا أن المصريين بمسيحييهم ومسلميهم يصلون معا في ميدان التحرير. وفي هذه البلدان كلها، لم يجر أي تحريض انطلاقا من المسجد، وأن الجميع احترم قدسية أماكن العبادة مع أنها بالتأكيد ذات دور كبير في تكوين وعي هؤلاء الناس؟
فلماذا هناك إصرار واضح في سوريا على استخدام المسجد منطلقا للتحريض والفتنة،ومنطلقا للمظاهرات، وميدانا لخوض المعارك؟ من المؤكد أن الذين أرادوا هذه المعركة يعرفون أن هناك تعقيدا في الخارطة الديمغرافية السورية يغيب عن غالبية البلدان العربية الأخرى. فسوريا جزء من المشرق العربي الذي يصفه البعض بأنه "شرق الطوائف". وبالتالي فإن استخدام أي من دور العبادة من قبل فريق معين يستدعي كثيرا من الشكوك لدى الفرق والمذاهب الأخرى؟ فهل يدرك هؤلاء أن استخدام المسجد بهذه الطريقة يضعه في مواجهة الآخرين وفي مواجهة مختلف الأسلحة؟ وبدلا من القيام بدوره الحقيقي، وهو الدعوة إلى التقارب والتلاحم الوطني والبناء يصبح أداة بيد فئة تريد اختطافه والتمترس خلفه في صراعاتها السياسية أو مطالبها الثأرية. نأمل أن تبقى دور العبادة دورا للعبادة فقط وميادين لنشر المحبة والفضائل والقيم النبيلة كما أريد لها بالأصل. وأن لا يحتمي بها من يريد أن يتصرف كمحارب، محاولاً الاستفادة من حصانة وقدسية أماكن العبادة، والتمتع بمزايا العابدين الزاهدين. ونتمنى أن يكون المسجد عالما رحبا يتسع للجميع، ويحتضن كل الآراء الخيرة. وهنا يجب التذكير بأن الرسول، صلى الله عليه وسلم، استقبل قساوسة نجران في العام العاشر الهجري في المسجد النبوي لعدة أيام حيث كانوا يتحاورون معه ويؤدون صلواتهم داخل المسجد، ما يعني أن المسجد كان منبر حوار وتفاعل بين الأديان، ومكانا مقدسا عظيما يتسع لأكثر من رأي وعبادة. ولم يكن منطلق تحريض ودعوة إلى القتل والفتنة. فهل يريد الذين حولوا المسجد إلى منبر تحريض ونقطة انطلاق للعنف أن يقضوا على ما بقي من الدور الحقيقي للمسجد؟ أليس هذا كافيا لجعل يوم الجمعة يوم خوف وقلق وترقب في سوريا، وجعل الجامع نقطة ينتظر منها الناس خروج من يثيرون الخوف والرعب بدلا من أن يحافظوا عليه منطلقا للرجاء والأمل والخشوع لله والدعوة إلى المحبة والتعاون؟
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية