أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

بقايا أشياء ... محمد محمد السنباطي

انتهى الوقت المحدد للزيارة، وخفت الرجل الداخلة إلى العيادة الطبية. سحب الفكهانية عرباتهم الكارو من أمام البوابة الحديدية الواسعة. عربة واحدة فقط تخلفت ولم تغادر. الولد صابر البياع ما زال منتصبا أمامها وعينه على الجانب المقابل من الطريق يتابع مكانًا بعينه. ما زال على العربة بقية من برتقال، وفي رأسه حاجة إلى مال، وفي ساقه بدأ ينز ألم.
لن يبرح.
صعد وتربع فوق العربة وكانت كفة الميزان مائلة. الشمس لان شعاعُها فخلع الكاب عن رأسه. النسيم الذي تحرك أطار شعره العرقان فعطس. أخرج سيجارة من العلبة لكنه أعادها مؤقتًا. وكانت البنت نزهة قد أمالت قدرة الفول حتى أصبحت فوهتها موازية لقعرها فهي إذن فارغة. الله يحنن عليها. رآها تطفئ الشعلة تحت الطاسة المحروقة وقد تفحم بقايا زيتها. ستلملم حاجياتها وتغلق دكانتها الصغيرة. استطاع رغم المسافة أن يلمح طعميات قلائل على الشبكة السلك أمامها مرصوصة رأسيًّا. أشار إليها بثلاثة أصابع وقوسين ففهمت أنه يريد ثلاث فلافلات ورغيف خبز. جاءت إليه بورقة جرنال ملفوفة وضعتها أمامه وهو جالس متربع مكانه، وأعطته أيضا ابتسامتها.
- خلي!
لكنه أصر على دفع الثمن. كانت متمنعه لكنه أصر. زادها برتقالة من عنده دسها في يدها. يريد أن يحادثها. همت بالعودة إلى دكانتها عندما سألها: أظن ما فيش فول؟
- يا حبة عيني، ما قلتش ليه من بدري؟
وانسلت تهز مؤخرتها الصغيرة، فردَ الورقة وشاف ما فيها، الطعمية ورغيفين وتسلمي يا بنت، باذنجانتين. فتح إحداهما واستملح سطوة الشطة الحمراء في الشق الأبيض. لا تشغله البشرة السوداء للباذنجان ما دام اللهب يكلل البياض الداخلي. أكل بشهية وهو متربع إلى جوار كومة البرتقال الصغيرة. البنت ما تزال في خياله. سمراء نيلية وجواها شطة!
يلوك الطعام ويتأمل انفلاتتها من عنده، طوال الوقت، تمنى لو ناداها وأعطاها برتقالة أخرى.
وكان الكناس قد انتهى من تنظيف الرصيف والأماكن التي أخلاها الفكهانية منذ قليل. اقترب من العربة الوحيدة المتبقية. رأى الولد يكور الورقة المزيتة ويضغط عليها بقبضته ثم يسقطها إلى الأرض. اقترب وغرس عينه في البرتقال. صابر يعرف أنه يريد أن ينظف تحت العربة. هم بالنزول ليحركها لكن الكناس أقسم عليه أن يظل جالسًا. رآه يمسك يدي العربة بعد أن ركن مقشته الكبيرة على حائط العيادة وسحبها. صابر يبتسم والسيجارة في فمه. ركنَ العربة في مكان مكنوس ثم راح ينظف مطرحها الأولاني.

عاد وجرها إلى حيث كانت وصابر ينفخ الدخان ويبتسم. عينه على البنت التي كانت تمسح أرضية دكانتها بالخيشة بعد أن رشتها بالماء؛ مع ذلك شاف اليد المعفرة وهي تمتد وتلتقط البرتقالة من الكومة التي أمامه ثم سمع: تشكر يا ذوق!
وضع الكناس مقشته مركونة على الحائط وجلس على الرصيف. قدماه في نهر الشارع وقد برز الأصبعان الكبيران من الحذاء المطاطي. بدأ في تعرية البرتقالة بأظافره متحاشيا أن يجرح جسدها، لكن حرصه لم يمنع بعض عرقها النبيل من السيل على بشرتها الحانية. لم يلتفت للتراب الذي بصمته أصابعه الغبية على جسدها الصافي. فتح فمه وقربها. رأى أن يغرس أسنانه العليا والسفلى دفعة واحدة في لحمها الشاحب. شفط شفطة هائلة فأخذ كيانها المتداعي يندفق إلى فمه وينسرب إلى جوفه. انزلقت سرتها أولا ثم صدرها الشهي بأكمله وذاب في فمه فأحسه رطبًا ناعمًا في جوفه. لم يتبق منها شيء في يديه. لكنه عندما مسح كفا بكف التصقتا.
اتسعت ابتسامته وهو يهم بسحب المكنسة هاززًا رأسه لصابر مرة أخرى: تشكر يا ذوق.



(94)    هل أعجبتك المقالة (94)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي