أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

بيع السم لطبّاخه .. سعاد جروس


الثورة الشبابية في تونس ومصر لم تُسقط النظام وحسب، بل أسقطت من جملة ما أسقطته من سياسات وقناعات وأفكار، ما يتعلق بدور وسائل الإعلام في صياغة وتوجيه الرأي العام. ويمكن القول إن الشارع نجح في انتزاع الإعلام من يد السلطة السياسية والمالية واسترجع حقه في العمل السياسي الذي اغتصب منه.
فالإعلام الحكومي التعبوي الذي ظل حتى الرمق الأخير من نظام الرئيس حسني مبارك وقبله نظام زين العابدين بن علي يمارس دوره البائد في التضليل، سقط بالضربة القاضية، ولم يعد هناك ما يسمى إعلام موجّه وإعلام ملتزم. فثورة الاتصالات حولت كل مواطن إلى منتج للمادة الإعلامية الحية، بواسطة الهاتف المحمول لتصل عبر الانترنت إلى كل أصقاع الأرض

. إذ لم يستفرد التلفزيون بالمكانة الأولى في نقل الحدث صوتاً وصورة. حتى مفهوم الإعلام التفاعلي تغيّر ولم يعد يقتصر على مشاركة الجمهور في التعليق وإبداء الرأي، بل صار شريكاً في إنتاج المعلومة وتحرير الخبر، وطرفاً لا يمكن تجاهله في رسم السياسات الإعلامية لكبريات المؤسسات الإعلاميشة، ما عدا الحكومية منها التي تجاوزها الزمن.
خلال تغطية أحداث الثورة المصرية سقط برقع الحياد المخادع الذي رفعته قنوات تدعي الاستقلالية، وبدا واضحاً تخبطها في اختيار مصطلحات وصف الحدث، هل هو اضطرابات داخلية أم تظاهرات احتجاج على النظام أم ثورة... الخ من تسميات تعبر عن موقف تلك الوسائل من الحدث؟ هل تؤيد أم لا تؤيد حق الشعوب في تقرير المصير، مبادئ طالما كانت ضمن أجندتها السياسية ومع أول اختبار من خارج الأجندة ارتبكت، وكانت بين خيارين، المادة الرسمية التي تضخها وسائل الإعلام الحكومية، أو المادة الحية التي يصدرها المتظاهرون في الميدان عبر الانترنت والهواتف النقالة؟ الحسم لم يطل، إذ جاء لمصلحة نقل الحدث كما يشاهد على الأرض لا كما يجب أن يشاهد. وإلا فقدت صدقيتها لدى جمهور يتابع نفسه في الإعلام. وهنا يمكن القول أن قناة (الجزيرة مباشر) انتزعت الصدارة في مواكبة الجمهور واستعاضت به عن المراسلين في تغطية الحدث عبر المكالمات الهاتفية مع المتظاهرين في الميدان طوال 24 ساعة، فاستمع العالم الى وصف حي ومباشر لما يجري في الميدان، وتفاعل وانفعل مع متظاهرين أصيبوا برصاص مطاطي أو تعرضوا لاعتداء أثناء المكالمة تحديداً يوم الأربعاء التي شهدت هجوم الجمال والبغال. هنا برز المواطن كناطق بلسان حاله من دون وسيط .
وكما سقط قناع الحياد المخادع، سقطت أيضاً سياسة التعتيم والمنع والحجب، إذ إن حرمان الجزيرة من البث عبر قمر نايل سات وقطع الهواتف والانترنت لم يعد ممكنا في ظل اتفاقيات نظام اقتصاد السوق المفتوح والشركات المتعددة الجنسية التي حالت دون فرض إجراءات العزل. استحقاق كبير ظهر أمامه الإعلام الحكومي آلة ناطقة بالكذب الغبي. وصارت العائدات السلبية للتضييق على الحريات الإعلامية ترتد على السلطة، كمن ينتج السم ليأكله وحده. على سبيل المثال ما قيل عن تضليل وزير الداخلية المصري حبيب العادلي للرئيس حسني مبارك في 25 يناير، حيث رفع إليه تقريراً يقلل من قيمة التظاهرات وقدرتها بوصفهم «شوية عيال يمكن احـتـواؤهــم، وأن‏المــــوقـف تحت السيطرة». السؤال الساذج الذي يُطرح: هل كان المكتب الصحفي في الرئاسة يـتابــع ما يبــثه الشــارع فـــي الانـتـرنـت والتـلـفـزات الخــــارجـــية؟ أو الســؤال غيــر الســاذج: هـــل كـــان الرئـيس يتـابع نشرات أخبار أخرى غير التـــي ينتــجها تــــلفــزيونه الرسمي؟!
 بشكل عام يمكن القول، إذا كان التعتيم ممكناً قبل ثورة مصر، فهو لم يعد كذلك بعدها. سياسة القمع ثبت عدم جدواها كما ثبتت خطورتها إذا اقترنت بالتدليس والنفاق وتصوير الأمور على أنها بخير وتحت السيطرة. لأن التعمية على الأمراض المستفحلة لا يمنع اعتمالها تحت السطح إلى أن تنفجر وتطيح كل شيء. فعندما تخشى صحيفة محلية مستقلة أو حكومية من مقاربة الفساد على مستوى البلديات ورؤساء الدوائر لأن أي خيط قد يصل إلى فلان وفلان من أصحاب النفوذ أو أصحاب المال، فإن هذا يشجع على انتشار مرض خبيث لا يصيب فقط الشعب بل السلطة، وتونس ومصر مثالان فاقعان. وعندما لا يجرؤ صحفي على نقل مظالم الناس تجنباً لاتهام مسبق بالعمى عن رؤية النصف الممتلئ من الكأس، ولأنه يعلم تمام العلم أن مغامرته بوصف الكأس الفارغة ما هي إلا كأس مترعة بالمخالفات القانونية والأخلاقية، نتيجتها تهميشه، إن لم يكن المنع عن الكتابة بوصفه صحفيا حاقدا. وهنا نعود للتذكير بما قاله زميل يعمل في صحيفة حكومية: «إن الصحفي في كل العالم يتقاضى أجراً على ما يكتب، إلا عندنا يتقاضى راتباً كي لا يكتب».
ثورة (الفيس بوك) أسقطت أيضاً هذا النموذج من الصحفيين، ولم يعد إنتاج ونقل المعلومات حصراً عليهم، وبالتالي سواء أشاروا إلى مواقع الخلل أم لم يشيروا، وسواء كتبوا ليكشفوا عن الفساد أم لم يكتبوا، قافلة التغيير انطلقت. فإما أن تعترف الحكومات بأن رياحاً جديدة هبّت وأن الشعب استفاق وعينه عليها عشرة على عشرة، ومن حقه المشاركة في قرارات تمس حياته وكرامته، وبالتالي تقتنع بضرورة إطلاق سراح الإعلام ليمارس دوره الحقيقي، كناقل لنبض الشارع من خلال مؤسسات تحترم نفسها وشرف مهنتها، لا محض إذاعات ترفيه وأكوام من ورق ملوّن ونفايات أخبار تباع في دكاكين دعاية وإعلان بغية تبييض صحائف أصحاب المال وتسويغ الفساد، فهذه إن أفادت سابقاً في التلميع والتطبيل والتزمير، لا تصمد أمام أي تحدٍّ جديّ، سوى أنها ستعيد بيع السم لطباخه، كما جرى مع الرئيس المصري الذي قال بعد أن ضرب الفأس بالرأس أن وزيره ضلله.
واليوم، إما أن تقتنع الحكومات، وأما تبقى دافنة رأسها تحت رمال شعار: «نحن لسنا تونس ونحن لسنا مصر».

عن الكفاح العربي
(100)    هل أعجبتك المقالة (98)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي