أصعب شيء واجهته في كتابة هذا المقال، هو اختيار العنوان المناسب. إذ قفزت إلى ذهني عناوين عدة تناسب مقالاً عن محطة الجزيرة الفضائية. "الانتصار الثاني للجزيرة"، بعد سقوط زين العابدين بن علي، و"حرب الجزيرة"، وعناوين أخرى تناسب الأفكار التي أطرحها في هذه المادة. بيد أن العنوان الذي اخترته، يركز على جملة مهمة قالها الرئيس المخلوع حسني مبارك ذات مرة وكان يقصد بها قناة الجزيرة.
حسني مبارك وأثناء الحصار على غزة، تماماً عندما كان الجيش الصهيوني يحاول إبادة جزء من الشعب الفلسطيني، رد على سؤال حول إغلاق معبر رفح بأن الحكومة المصرية تحاول إيجاد حل مناسب ولكن" بلاش جعجعة في الفضائيات، ده مش حيجيب نتيجة معانا".
يعلم الجمع، أن مبارك ما قصد وقتها إلا قناة الجزيرة، وما قصد بالجعجعة إلا ما تطرحه الجزيرة من نقاشات وتحليلات، ولا تزال الجزيرة في نظر مبارك أحد أعدائه الذي حاول بكل طريقة تشويهها والتخلص منها،
وقد أشار مؤخراً كما فعل نائبه، وبعض الشخصيات المحسوبة على نظامه بأن الجزيرة قناة فتنة ولا بد من الحذر منها وصرف الانتباه عنها. لقد أخطأ الرئيس المخلوع، إذ ظن أن جعجعة الفضائيات لا تأتي بنتيجة، فجعجعة الجزيرة، إن صح هذا التعبير لا تأتي إلا بالطحين.
ولقد لا حظ العالم كله بعربه وعجمه، ومثقفيه وعامته أن الجزيرة قد انتصرت مرتين، واحدة في تونس، وأخرى في مصر.
صرخ المتظاهرون في ميدان التحرير، لئن أوقفت الحكومة بث الجزيرة وأغلقت مكاتبها فإن ثمانين مليون مصري هم مراسلو الجزيرة وفي خدمتها، وهذا ما حدث بالضبط، فقد تحول المصريون إلى مراسلين ينقلون الأحداث من قلب الميدان لحظة بلحظة، ويصورون الوضع بكل دقة، حتى أصبحت القناة عين المواطن العربي بل والعالمي التي يرى بها ما يحدث في مصر كلها، القاهرة، والإسكندرية ودمياط والعريش وبني سويف إلى بقية المدن.
قامت الحكومة المصرية باقتحام مكتب الجزيرة وإغلاق مكاتبها وسحب اعتماداتها، فنصب الشعب المصري شاشات عملاقة في ميدان التحرير ليرى ثورته، وليرى أثرها في العالم كله. وبينما كانت الجزيرة تنقل الصور المباشرة والأحداث الدامية واعتداءات البلطجية على الشعب المصري، كان التلفزيون الرسمي يبث لقطات لشوارع خالية، ومشاهد من بعض مباريات كرة القدم، وكان في الوقت نفسه يتصل ببعض أزلامه فقط ليحذروا الناس من مشاهدة فضائية الجزيرة.
لم تكن حرب النظام على الشعب المصري فحسب بل كانت أيضاً ضد الجزيرة بكل ما تحمله الكلمة من معنى، لدرجة أن إدارة النايل سات ضغطت على إدارة المدينة الإعلامية الأردنية لتسقط الجزيرة من باقتها.
لم تكن الحرب بين الجزيرة ونظام مبارك المخلوع كر وفر بل كانت كراً من الجزيرة وفراً من خصومها، فبعد أن تم إغلاق الجزيرة على نايل سات، أسرعت الجزيرة على الفور لتنتقل على ترددات جديدة، وإذ مُنع المراسلون من العمل، وصلت الجزيرة إلى عشرات الصحفيين المصريين الذي غطوا الأحداث بالتفصيل فوصلت إلى مرأى ومسمع العالم أجمع.
وتعرض موقع الجزيرة نت إلى الاختراق وسهر التقنيون في الموقع حتى أعادوه إلى عمله، ووصل عدد متصفحيه إلى عشرات الملايين في الفترة الأخيرة.
سرعة قياسية في التحليل والشرح، كنا نرى على سبيل المثال صورة لعمر سليمان في الخبر، فتنتقل الجزيرة من استديو إلى آخر لتعرف الجمهور بالرجل تفصيلاً ثم تحليلاً لشخصيته، حتى ميدان التحرير نال حظه من تغطية القناة جغرافياً وتاريخياً لدرجة شعرنا فيها أننا نراه ونمشي في شوارعه وممراته.
من المعارضين للنظام المصري المخلوع للمؤيدين له، لعلماء في الدين ثم لمفكرين عرب ومحللين سياسيين وعسكريين، من الخاصة إلى العامة والبسطاء، كل هؤلاء مروا على شاشة الجزيرة وطرحوا ما في جعبتهم وتواصلت التغطية" يا مصر قومي وشدي الحيل" إلى "مصر البهية" إلى صوت أم كلثوم وعبد الوهاب. وباختصار استطاعت هذه المحطة أن تنقل الثورة المصرية إلى كل بيت على امتداد ربوع مصر وعلى امتداد مساحة الوطن العربي كله.
لم تكتف الجزيرة بذلك بل قدمت شكرها للقنوات الفضائية التي تنقل عنها مباشرة لتعريف المواطن العربي والمصري بحقيقة الأمر، وفتحت ما يمكنني تسميته بخط طوارئ لإرسال الأخبار والصور والفيديو لتعريف الناس بها، واستطعنا أن نرى حوادث الهجوم بالجمال على المتظاهرين وقيام السيارات بدهس بعضهم. بينما لو اتجهنا في مصدر أخبارنا للتلفزيون المصري لوجدنا الهدوء يلف مصر كلها، وأن المتظاهرين مجرد مندسين من الخارج يأخذون خمسين ألف دولار لشجب الحكومة المصرية والنظام السابق.
وإذ سمعنا أن وائل غنيم قد نصح المتظاهرين بالعودة إلى بيوتهم تسرع الجزيرة للاتصال به فتسمع صوته وهو ينفي ذلك.
لقد كانت حرباً على الجزيرة كما كانت حرباً على الشعب المصري وعلى الكلمة الحرة الصادقة، ثم وصل الأمر أخيراً بعمر سليمان أن يخصص للجزيرة جزءاً من حديثه، فقد حذر في خطابيه من مشاهدة الفضائيات "التي تحرض على الفتنة"، وحذر من الاستماع "للفضائيات التي تتبع دولاً شقيقة لكنها تعادي مصر وأهلها".
حرب على الجزيرة انتهت بانكسار المعتدي وانتصار الجزيرة نصراً مؤزراً، حتى سمعنا المصريين يهتفون مهنئين الجزيرة على انتصار شاركت فيه بكل مهنية وحرفية.
أود من أعماقي اليوم، أن أواجه الرئيس المصري المخلوع وأسأله عن جعجعة الفضائيات التي لا تأتي بنتيجة وأطلب رأيه بجعجعة الجزيرة وهل آتت أكلها، أم أنها لا تزال بالنسبة له جعجعة فارغة، وإن كان الأمر كذلك فليفسر لنا حالته التي انتهى إليها والتي شاركت فيها جعجعة الفضائيات التي رآها يوماً دون نتيجة
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية