دكتوراه في الإعلام
الثورات العارمة التي انطلقت في بعض الدول العربية، ما كان لها أن تنجح لولا التغطية الإعلامية التي فاقت كل تصور من قبل قناة الجزيرة. فلو بقي المشاهد التونسي يتابع أخبار بلاده من التلفزيون الرسمي أو من محطة حنبعل، أو من المحطات العربية الرسمية المجاورة، فلن يكون بمقدوره معرفة الحقيقة على الأرض، وسيظن أن التظاهر لن يأتي بنتيجة وتنتهي المسألة بيأسه، والتخلي عن ثورته.
لا أبالغ أبدا فيما أقول، فلو خرج المتظاهرون إلى الشوارع واعتصموا، ثم رأوا في وسائل الإعلام، أن الأمور مستقرة في البلاد، وأن الحكومة لا تشعر بهم، بل على العكس تقدم على فضائياتها مظاهرات التأييد، وأن البلد مستقر وهادئ، وأن الناس يحتفلون ويرقصون ويهدون بعضهم الأغنيات، لتخلّى الناس بالفعل عن مطالبهم ووقعوا فريسة اليأس.
فما بالك إذاً، إذا كانت الفضائيات كلها ستبث أن البلد المقصود مستقر ولا ينقصه شيء، وأن هناك بعض المشاغبين من "القاعدة" أو من الذين لا يمتون إلى الشعب بصلة، وأن الهدف من الشغب النهب واللصوصية والإساءة إلى منجزات النظام الحاكم، سيشعر المواطن وقتها بخيبة الأمل التامة، وأنه في سجن كبير، ولا أذن تصغي له.
تعالوا نرى الدرس التونسي، فهو يؤكد كل ما قلناه وبمنتهى الوضوح، فالفضائية التونسية صورت المتظاهرين عصابات ملثمة، وسكتت الفضائيات العربية عن الحدث كأن الأمر لا يعنيها، وأدهى من ذلك وأمر، إذ سكتت وسائل الإعلام الغربية عما يجري في تونس، بل وسعت بطريقة غير مباشرة لإظهار أن الأمر عرضي وأن البلاد بخير، ولن أستفيض في الحديث عن المواقف السياسية التي دفعت إلى ذلك، والتي جعلت من فرنسا على سبيل المثال بلداً مؤازراً للرئيس المخلوع لدرجة أن وزير خارجيتها السيدة ميشيل أليو ماري عرضت على القيادة التونسية وقت ذاك، تعاوناً أمنياً في التعامل مع المظاهرات. بالنتيجة، وإذا رأى المواطن التونسي أن أحداً في هذا العالم لا يهتم بمطالبه ولا يسمعه، وأن الناس كلهم متوافقون على أنه مشاغب، فقد يظن نفسه كذلك ويفقد كل أمل في التغيير.
هنا بالضبط يظهر الدور الاستثنائي للجزيرة في تعرية الحقيقة من قشورها، مواكبة يومية للأحداث، وصور حية أولاً بأول، يجلس المواطن التونسي أمام الشاشة فيرى أثره في التغيير من خلال شاشة الجزيرة. ليس فحسب بل تقوم المحطة بنقل ردود الجماهير، ليس في تونس وحدها بل في الدول العربية، وفي أوربا وأمريكا أيضاً، وتتوالى آلاف الرسائل غير المباشرة من خلال الجزيرة للشعب التونسي الثائر. هنا تتغير الصورة وتتغير النتيجة أيضاً، فالتونسي يعلم اليوم ومن خلال الجزيرة، والجزيرة فقط، أن أمماً تقف خلف ثورته، وأن شعوباً تنتظر انتصاره، وأن دعاء يؤازره، وأن فخراً يلف الشعوب العربية بثورته، هنا، لا يستطيع هذا المواطن أن يستسلم، فهناك من ينظر إليه وينقل صوته للعالم أجمع، فيستمر في ثورته ويجري ما جرى، من خلع للرئيس وفراره خارج البلاد.
إذاً لم يحارب الشعب التونسي وحده، بل حاربت معه قناة الجزيرة جنباً إلى جنب، وإن جزءاً من انتصار هذا الشعب شاركت فيه محطة الجزيرة بمحرريها ومذيعيها ومراسليها ومطبخها الإعلامي أيضاً.
لست هنا بصدد التعليق على خلفية الجزيرة في هذه المعركة، هل هي المهنية وحدها وملاحقة الخبر، أم اهتماماً خاصاً بشأن ما لأسباب سياسة مثلاً، هذا بالتأكيد ليس موضوع هذا المقال، وإن سمح لنا الوقت فسنعالج هذه الفكرة، بيد أن المسألة تحتاج إلى دراسات ميدانية مترافقة مع تحليل مضمون مفصل.
نحن هنا للتأكيد على أن الجزيرة اليوم بلغت مبلغاً يجعلها لاعباً مهماً في إحداث التغييرات في المنطقة العربية، بل وإحداث التغييرات على سياسات دول كثيرة في العالم وتغيير مواقفها.
تعالوا لنتصور أن المواطن المصري، يتابع الفضائية المصرية في هذه الأيام، ويحتفل معها بعيد الشرطة، ويرى مجموعات "مشاغبة تعتدي على الأمن والنظام"، وبعض "الرعاع" يعتدون على رجال الأمن الذين نزلوا إلى الشوارع "للحفاظ على أمن الوطن والمواطن" ماذا كانت ستكون ردة فعله؟.
الجزيرة وحدها صورت الحقيقة، وتم الاعتداء على بعض أطقمها، وهوجم المكتب الذي يضم الجزيرة الإنكليزية، وعمدت الحكومة المصرية إلى إيقاف بث "الجزيرة مباشر"، ولكن المحطة استطاعت مع كل ذلك، أن تصل جبهات المظاهرة ببعضها، من خلال التغطية المباشرة من كل المدن المصرية، في الوقت الذي قطعت فيه الحكومة المصرية الاتصالات عن شعبها في سبيل تشتيت المظاهرات، وقطع المعلومات طمعاً في ألا يؤازر المتظاهرون بعضهم بعضاً.
أن تكون الجزيرة في قلب المعركة، يعني أنها ستُحارب أيضاً كما تحارب الجماهير الثائرة، وهذا ما رأيناه مراراً، فقد حوربت في الأردن وتونس والمغرب ومصر وغيرها، وطرد مراسلوها من أماكن عديدة في العالم العربي، بل وسجنوا أياماً وليالي ورفعت ضدهم الدعوات، وأخيراً أحرقت سيارة البث التابعة للمحطة في لبنان، وتم الاعتداء على الأستاذ أحمد منصور، وياسر أبو هلالة، وغيرهم من المراسلين والمصورين، وأغلقت مكاتبها وتم التشويش على بثها في أكثر من حالة.
فالحرب ليست ضد الشعب فقط، وإنما ضد الجزيرة أيضاً، ولكن الذي يحارب الجزيرة سيخسر بلا شك تماماً كالذي يحارب الشعوب. ومن الممكن التدليل على ذلك بالملاحظة المجردة ودون دراسات معمقة.
ما قامت به الجزيرة من نشر وثائق المحادثات بين السلطة الفلسطينية والجانب الإسرائيلي دليل آخر على أن الجزيرة في قلب الحدث، وأنها هي أكثر من يساهم في ثورات الشعوب العربية.
اليوم، تشن السلطة الفلسطينية حرباً ضروساً على الجزيرة، في الضفة بين الناس، وفي وسائل إعلامها، ومن خلال محاولاتها مقاطعة الجزيرة و التهديد بمقاضاتها أمام المحاكم، ويقوم قراصنة السلطة بمحاولة الاعتداء على موقع الجزيرة- نت أملاً في إيصال رسالة تحذيرية للقناة، ورغبة في القضاء على الموقع وتدمير محتوياته. بالإضافة إلى استخدام أساليب رديئة في السباب والشتائم من خلال بعض المواد على الشابكة ضد الجزيرة ومذيعيها بطريقة سخيفة وبدائية، إذ يظهر بعض المقاطع المنشورة على "اليوتوب" اسم الجزيرة على العلم الإسرائيلي.
نحن أيضاً لدينا ملاحظات على الجزيرة، نتمنى أن يفكر بها القائمون على المحطة، حتى تصبح القناة ثورة في تحريك الثورة. هذه الملاحظات لا تقلل من قيمة محطة بحجم الجزيرة، خاصة وأنها ومنذ الحرب على غزة تستمر في السقوط، كما قال لي أحد "المتنفذين" في مكان ما. نعم أوافق الرجل الرأي فهي تسقط كل يوم ولكنها تسقط إلى فوق.
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية