من يقرأ أعمال الأديب ممدوح عدوان، يجد تفاصيل شخصيته مبثوثة بين كلماتها من دون أن يراه. ومن عرف شخصيته، قرأ كلمات أعماله في تعابير وجهه بقدر كبير من الوضوح والصدق من دون عناء. ومن عرفهما معا تعرف على هموم وأحزان وآمال أمة بكاملها. لقد عرف الأديب الراحل كيف يجد العام في الخاص والخاص في العام. ومن يعرف شخصية الشيخ أحمد العلي، التي تطل من ثنايا الأحداث بين لحظة وأخرى، في رواية" أعدائي" يدرك كم كان الروائي قادرا على رؤية حالة عامة في شخصية محيرة مثل شخصية الشيخ أحمد العلي ذاك الفقير الذي لا تزال أجيال من أبناء المنطقة تعرفه بفقره المدقع وذكائه الحاد وطرائفه المأساوية التي يرددها كثيرون من دون أن يعرفوا من هو، ومن دون أن يعرفوا أنه اختزن تاريخا يتضمن سقوط الدولة العثمانية بذاكرته وقليل من أبيات الشعر.
مثل كثير من أعمال ممدوح عدوان، تصلح أحداث رواية "أعدائي" لقراءة الماضي مثلما تصلح لاستشفاف المستقبل عبر رؤية ثاقبة لواقع يتناوله ويعرفه جيدا بكل تفاصيله. وربما ينطبق هذا على مسلسل الزير الذي كتبه وكتب السيناريو له، كما ينطبق على رواية "أعدائي" أو مسرحية " ليل العبيد".
ففي زحمة الجدل والخلاف حول الفرق بين شخصية الزير المحببة المختزنة في ذاكرة الجمهور والشخصية المتهورة المتعطشة للدم والانتقام فقط، كما قدمها ممدوح عدوان في مسلسله التلفزيوني قبل أعوام من رحيله، قلة هم الذين انتبهوا إلى ما يمكن أن تقود إليه هذه الشخصية وإلى الشروط المهينة التي وضعها المنتصر على المهزوم والتي نجد لها مثيلا في شروط كامب ديفد على أنور السادات. وأقل منهم كان الذين انتبهوا إلى أهمية المشروع الذي تناوله ممدوح عدوان في مسلسل الزير، وهو محاولة الانتقال من مرحلة البداوة إلى الحياة الحضرية ومن إمارة القبيلة إلى استقرار المملكة والدولة.
ولأن الطموح كان أكبر من أدوات تحقيقه، سقط حامل المشروع ضحية جهل الذين يفترض أن يكونوا حمَلَته ورعاة تطويره وأصحاب المصلحة فيه. وهكذا سقط كليب صريع جساس، وانتهى الحلم في لحظة ليظل مجرد صدى في الذاكرة.
يمكن القول إن الميجور عارف إبراهيم رئيس الشرطة العدلية في بيروت ثم القدس في رواية" أعدائي" هو حامل هذا المشروع الذي يجهل طبيعته وسبل تحقيقه، وإن كان يتسلح له بنظافة القلب واليدين والعزيمة التي لا تلين. فهو على درجة عالية من الحماس لإعادة تكوين الدولة العثمانية ولكن بوعي وإيمان عربي يستند إلى بعض أحداث تغريبة بني هلال وقصائد الشيخ أحمد العلي وآلام الفقراء ـ ضحايا الدولة التي يعمل على إعادة بناء هيبتها المتآكلة ـ الذين يتعثر بهم أينما تحرك وكيفما تطلع. ومن دون أن يدرك أو يخطر بباله أنه يحاول صنع تمثال من ثلج على نار متوهجة. وهكذا نجد في الميجور عارف ابراهيم الصلابة والهمّة والنظافة التي يتطلبها بناء الدولة وإنقاذ المجتمع، لكنه يبقى المحارب الوحيد الذي يحاول أن يحمي جبهة بكاملها في وجه الأعداء المهاجمين من الخارج ومن اللصوص الذين ينهشون جسم المجتمع والدولة في الداخل. ومع ذلك يستمر في الحفاظ على نقائه وملاحقة الجواسيس من دون أن يعي حجم وعمق الخراب الذي يزداد انتشارا مع كل جهد إضافي يبذله في سبيل بلوغ أهدافه.
قد لا يفاجأ القارئ بحالة السكون التي تعيشها هذه الأمة التي تجد ذاتها الآن في موقف مماثل لما كان عليه الحال قبيل سقوط الدولة العثمانية. ففي تلك الفترة كان العرب ومنهم ضباط الجيش العثماني في حيرة من أمرهم إذ لا يعرفون مع من يجب أن يقفوا، ولا من هو الصديق أو العدو؟ هل يقفون مع الفرنسيين والإنكليز الذين أعطوا وعد بلفور لليهود في فلسطين وأبرموا اتفاقية سايكس ـ بيكو وبالتالي يكونون تحت قيادة الشريف حسين، ملك العرب وخليفة المسلمين وسليل الرسول عليه الصلاة والسلام؟ أم يقفون مع الدولة العثمانية والألمان فيكونون ضد الملك العربي الهاشمي؟ هل يتجاهلون ما يتعرضون له من ظلم وقتل وجوع وفقدان لهويتهم العربية على يد "الدولة العلية" مقابل وعود لا يضمن تنفيذها شيء في حين يرون أن من يعطيهم هذه الوعود يقدم كل التسهيلات الفعلية على الأرض للمنظمات الصهيونية التي تتسلل إلى كل نقطة ممكنة من فلسطين.
أمام هذا التردد وغياب القدرة على الاختيار واتخاذ القرار، يجد الميجور عارف إبراهيم نفسه وسط المتاهة التي بناها له خصمه الرئيسي ألتر ليفي، وهو الجاسوس الصهيوني الذي ينجح في تسريب كل أسرار "الدولة العلية" إلى أعدائها في حين يستمر في خدمة المشروع الصهيوني وتسهيل عمليات بناء المستوطنات في فلسطين وتسهيل شراء أراضي الفلسطينيين على الرغم من كل القوانين التي تمنع ذلك. وفي الوقت ذاته يستطيع إغراق الميجور عارف إبراهيم في مشكلات لا حصر لها، وعلى رأسها إشغاله بالبحث عن ولده من سجن إلى آخر ليكتشف في النهاية أن ولده يذهب ضحية دسائس هذا الجاسوس وجماعته انتقاما من عارف ومواقفه، ورفضه المشاركة في نهش الدولة المنهارة التي يدعي الجاسوس التفاني في خدمتها ونصرتها.
وكما يفجع الميجور عارف إبراهيم حين يعلم أن كل مشكلاته ومرارته كانت من الجاسوس الذي وقع بين يديه في نهاية المطاف، يشعر بخيبة أكبر حين ينتهي مشوار نقل هذا السجين ـ الجاسوس من القدس إلى حيفا ثم عمان فدمشق معتقدا أنه يحمل صيدا ثمينا يستحق معاناة شهور على الطريق والتعرض للموت على أيدي عصابات قطاع الطرق. إنها الخيبة التي ما بعدها خيبة حين يعلم أن ولده مات قبل أيام قليلة في أحد سجون دمشق بتهمة العمل ضد "الدولة العلية" بفعل دسائس سجينه ألتر ليفي، وأن هذا الصيد الثمين الذي ضحى من أجل القبض عليه بكل شيء لم يعد ذا قيمة، ولم يعد هناك من يريد استلامه. فقد سقطت الدولة التي كان الجاسوس يعيش معززا بحماية بعض رموزها والتي كانت تبذل كل جهد ممكن في الوقت ذاته للحصول على رأسه. مع وصوله إلى دمشق واقترابه من تحقيق حلم العمر بكشف دسائس ألتر ليفي والمنظمات الصهيونية يكتشف الميجور عارف ابراهيم أن حلفاء سجينه أصبحوا سادة المنطقة. وأن العالم كان ينقلب رأسا على عقب بعكس كل ما كان يتمناه خلال رحلته من القدس إلى دمشق. وهنا يدرك أن ما حصل في الفترة الأخيرة كان يحدث منذ زمن طويل وقبل أن ينبهه ابنه إبراهيم إليه، لكنه لم يكن مستعدا أو قادرا على رؤية ما تراه عيناه في كل لحظة وفي كل دسيسة يرتبها له ألتر ليفي وجماعاته.
وتصبح الفاجعة أكبر عند أمثال عارف إبراهيم حين ينكشف الخداع الإنكليزي الفرنسي وتظهر آثار الظلم العثماني جلية من خلال الجثث الملقاة في كل مكان، والجنود الذين يهربون من المنشورات التي تلقيها الطائرات الإنكليزية عليهم لأن عقوبة من يقرأها أو يحملها هي الإعدام.
لم يكن العرب قادرين على اقتناص اللحظة التاريخية وصياغة المشروع الخاص بهم القادر على توحيد قواهم ورؤية أهدافهم، وتمييز العدو من الصديق. ولذلك نجد أن ألد أعداء العرب للعرب هم العرب أنفسهم لأنهم انقسموا وأخذوا يعملون تحت قيادات أعدائهم من كل الأصناف.
يشعر المرء من خلال قراءة" أعدائي" أن المنطقة لا تزال في المتاهة ذاتها، وأنها تعيش اللحظة الراهنة بعيدا عن محاولة معرفة ما بعدها. فمثلما كان الميجور عارف إبراهيم يعيش صراعا مع ولده إبراهيم حول ضرورة تخلي الأب عن حماسه لخدمة "الدولة العليّة" والالتفات إلى أبناء جلدته من العرب، تدور الآن نقاشات واسعة في بلداننا حول المكان الذي يجب أن نقف فيه: هل نقف مع الولايات المتحدة وإسرائيل أم مع إيران في حالة نشوب صراع؟ وأمام حدة الجدال قلما يتذكر أحد أنه يجب أن يكون هناك جبهة عربية أو مشروع عربي، مع أن المعارك كلها تدور على الأرض العربية، ووقودها من العرب.
ممدوح عدوان في رواية "أعدائي" والعيش أبدا في اللحظة الراهنة
محمد جمول
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية