أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

قراءة في مجموعة صهوة الأحلام .. محمد محمد السنباطي

عن فرع الثقافة بالبحيرة صدرت مؤخرا المجموعة القصصية (صهوة الأحلام) للكاتبة الشابة هالة اسماعيل محيمر في 96 صفحة من القطع المتوسط.

وما إن ندلف إلى عالم هذه الأقاصيص بعد الإهداء الشاعري المرهف، حتى نتأكد أن اختيار العنوان لم يجئ محض الصدفة، لكنه الرمز المتغلغل في لا شعور هذا العمل الأدبي الجيد.
الصهوة في ارتباطها بالحصان، والحصان في ارتباطه بالفارس الذي يخطف الأميرة ذات الثوب الأبيض ويطير بها في أحلام اليقظة.
الصهوة والفرس والفارس والأحلام، هذا ما سنصحبه خلال رحلتنا في هذه المجموعة الشائقة.

وانطلاقًا من ذلك المفهوم المتخيل تطالعنا القصة الأولى(براءة):
ها هي البنت التي تختال وسط زميلاتها والحلوى في فمها، تلوح بيدها في الهواء، بينما الشاب يلاحقها يضنيه العشق.
كل الأحاديث المتناثرة من حوله تصطك بالواقع المعاش، لكنه على الصهوة يفكر في البنت التي"هي في الخلف تجري تتقافز معها ضفيرتاها الصغيرتان. يدها ممسكة بحقيبة محشوة بكتب تنقلها من يد لأخرى لثقلها" (ص7).
تلك البنت التي تأكل وهي تمشي كأنما لا تخشى شيئا ولا يشغلها العالم من حولها.
وعندما أرادت اجتياز المزلقان خاف عليها، بل وافترض أن القطار قد التهمها..
ارتجف قلبه ورأى أطراف الحقيبة. وماذا أيضا؟ نقرأ:
"تناثرت دموعي. لكن من خلالها لمحتها واقفة، على وجهها علامات الحيرة، والحلوى تلطخ فمها ويدها" (ص9).

ننتقل إلى القصة التالية (أحلام ورقية):
ومع ذلك فنحن مازلنا مع البراءة التي لم نبرحها منذ القصة الأولى.
ألسنا مع الكاتبة على صهوة الأحلام؟
هنا تطالعنا طائرة ورقية تتموج في الهواء مع أغاني فيروز، وتتسامى ذكريات حب جميل يشبه طائرة من ورق مزدانة بآلاف الألوان التي تلمع تحت الشمس. مسحة حب شاحب وابتسام طفلين أحدهما منها والأخرى منه.
إنها الحياة تجرف العشق الجميل بتيارها الصاخب، لكن الطائرة التي ما تفتأ تطير تلقي على القلب ظلالها السعيدة.

القصة الثالثة (مقاطع من سيمفونية صبا)
والعجيب أن القصة مقطع واحد في ثلاثة عشر سطرا.
فأين هي المقاطع؟
إنها مجردة غير محسوسة بلا شك. فأين هي السيمفونية؟
إنها في الذكرى الممتدة كالأفق والمختزلة في ثلاثة عشر سطرا.
ليس هذا هو المحير الوحيد في هذه الأقصوصة.
سنحتار قليلا مع ضمير الغائب حتى نعرف دلالاته.
مثلا: "أقف وجهي للبحر... أستدير إليها" (ص13)
إليها؟
من هي؟ أو ما هي؟
أهي فتاة ولها قصة قلب؟ أم مكان يعشش فيه القلب؟
نقرأ:
"حيث تستلقي هادئة في حضن الشاطئ الممتد" (ص13)
حتى الآن لم نعرف الإجابة لكننا نجد التفسير أخيرا:
"تتراص بيوتها كحبات اللؤلؤ" (ص13)
اتضح الآن أن الكاتبة تتحدث عن منطقة سكنية بعينها. نأخذ نفسا عميقا قبل أن نقرأ:
"اعتدنا الالتفاف حوله" (ص13)
حول ماذا؟ أو حول من؟ نقرأ:
"نقف على الشاطئ تلطمنا الأمواج"
حتى الآن والأمور غامضة. مازلنا تائهين على صهوة الأحلام. نصل إلى:
"يمد يده يلتقط يدي"
هكذا صار الأمر مفهوما واضحا.
وتمضي القصة ذات الثلاثة عشر سطرا، غائمة أسطورية، والبحر يرغي ويزبد، والصخور؟
حتى الصخور "ابتلعها البحر كما ابتلع أحلامنا الصغيرة"(ص14).

وفي (عصفور كناريا أبيض) نرى كيف يسجن الحب في قفص الشقاء. هو حاصل على شهادة جامعية ويعمل جرسونا، وهي تحلم به. هو يريد أن يحررها من التزامها الأدبي نحوه وهي مستمسكة بصهوة الأحلام.
وعندما حصل على عقد عمل في بلد خليجي لم تطق ذلك ورجته أن يبقى كما هو!ّ
وهي التي لم تعد تطيق وضعه الحالي!
فاضطرت إلى فتح القفص للعصفور لكي يتحرر منها.
أو قل لكي تتحرر هي منه.
نصل إلى (طفولة).
الطفولة هنا بائسة، غير ناضجة، تضربها العراقيل.
الطفل هنا ضعيف البنية، واهٍ، تائه العقل، يلاحق خياله.
القصة كلها والمكونة من ثمانية أسطر، كلها عن الطفل، بصيغة الغائب عدا جملة واحدة تحمل كل المعاناة:
"تظهر الغيمة الرمادية في حياتي" (ص28)
هذه الجملة بصيغة الأنا الحاكي ولا جملة غيرها في القصة تضع يدنا على الجرح الغائر الذي لا يريد أن يندمل.

وفي (سندباد) تطل غيمة الحزن من جديد.
نرى العاشقة ترنو إلى البحر ما بين أغاني فيروز ونجاة. النوارس في الفضاء، والصياد يتربص. ربما كان الصياد هو الزمن. الصياد يتحين الفرصة ليطلق الرصاصة.
هي تحلم بالسندباد منذ أعوام. تخرجت في الجامعة وتزوج إخوتها وهي تنتظر.
لكن ما بال الرصاص يدوي؟
لقد سقط الطائر الجريح في البحر.

ومازالت الكاتبة البارعة تمس الأشياء مسا خفيفا، وتتنقل كفراشة تمطر ألوانها.
وفي (جدتي والبحر) تنبثق المآسي من جديد.
سواء مأساة بسام الطفل الذي صرعته سيارة
أو سراييفو على الشاشة.
وجدتها تدمع عيناها بتساؤلات.
جدتها التي تحكي عن نجوم البحر التي لا يجدها سوى من ينصت لكلامها.
تكلمي يا جدتي وسنصغي لكي تعود النجوم الغارقة.

ندخل في (مظاهرة)
حشود الطلبة تهدر. هي تريد أن تشارك لكن القيود العائلية العتيقة تمنعها. كيف تنفك من الأسر؟
تمتطي صهوة الأحلام. أحلام اليقظة. وهي ما تزال في شرفتها تتابع ما يجري. لا ينفك من الأسر سوى بعض الدمعات.

نصل إلى (لكنها الحياة)
جميعهم يتمنون الموت للجدة العجوز
ليس لأنهم يكرهونها، بل ليحلوا محلها.
ليحتلوا حجرتها.
وحين يظنون أنها ماتت بالفعل تنتصب واقفة كأن شيئا لم يكن.

ثم نصل إلى (موسم)
بذكاء لماح تدلف بنا القصة إلى عالم الانتخابات. وماذا ينتظر الكادحون من المرشحين؟
وفي النهاية لا شيء، سوى مياه قذرة تغرق الجميع.

أما قصة (قضاء) فهي قصة معادة، شبعنا منها: ضغوط عائلية، ضغوط اقتصادية، ثم بعد كل هذا المرتب يطير لأن السارق الحاذق كان له بالمرصاد.
كنت أتمنى أن تخرج الكاتبة الجيدة من هذا الكادر ، وأن تستغني عن السبع كلمات الأخيرة (لم يجدها.. يبدو أنها سرقت... مجرد قضاء)(ص52)
وتكتب بدلا منها: ظن للحظة واحدة أنها سرقت. لحظة كالأبدية. كالنار. كالسجن. كالعذاب. لكنه وجدها.
وأنا هنا بالطبع لا أتدخل في فكر ورؤية الكاتبة ولكني أقدم اقتراحا قد يكون صائبا وقد يكون غير ذلك.
نفس الملاحظة يمكن قولها في استعراضنا للقصة الأولى من قصص المجموعة. أعني الشاب الذي تيمته التلميذة، وحين مر القطار انخلع قلبه عليها. نقرأ في آخر القصة: "تناثرت دموعي.. لكن من خلالها لمحتها واقفة، على وجهها علامات الحيرة والحلوى تلطخ فمها ويدها" (ص9)
أقول إن مثل هذا الشاب في مثل هذا الموقف سيجزع جزعا عظيما لكنه لن يذرف الدمع. الكاتبة هنا تحدثت من وجهة نظر أنثوية بحتة وكان عليها أن تتماهى مع رجولة الشاب الذي سيتحرك ليفعل شيئا ما لكن دموعه لن تسيل هكذا أبدًا.

بهذا أكون قد استعرضت في هذا المقال أكثر قليلا من ثلث قصص المجموعة المكونة من ثلاثين أقصوصة. ونكون قد تعرفنا على الملامح المميزة لأسلوب هالة محيمر في القص:
1- الهدوء الواعي في ملاحظة الأحداث.
2- الجمل القصيرة المنحوتة بعناية .
3- التكثيف والبعد عن الترهل. الانتقال الفجائي بين الضمائر، أعني بين الأنا والهو.
4- عدم الوقوف طويلا أمام الأشياء،بل التنقل علي طريقة الفراشة اللا مبالية.
5- لا يخلو الأمر من بعض هنات لغوية ومطبعية أنبه على بعضها لعل الكاتبة تتلاشاها في طبعة ثانية: ص11 منحيات الطريق، وصحتها منحنيات الطريق. ص 21 مطرا أسودا وصحتها مطرا أسود. ص28 يمد بيده للحجر الصغير فيرفعه، الأفضل يمد يده. ص33 انتباته حالة، والصواب انتابته حالة. ص38 لا أريد أحد بجواري، والصواب لا أريد أحدا. ص47 الطير مدرج الدماء، والصواب مضرج. ص55 سيارة طائشة حطمت البرع الصغير، وصحتها البرعم الصغير.

وأخيرا فلا يسعني إلا أن أقدم التهنئة للكاتبة الشابة الواعدة على إبداعها المتميز في هذه المجموعة كما وأحيي القائمين على الثقافة في البحيرة لاختيارهم لهذه المجموعة وطباعتها ونشرها.


(99)    هل أعجبتك المقالة (102)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي