كان لا فتا في الأيام القريبة الماضية أمران. الأول دعوة رئيس الأركان الإسرائيلي السابق ووزير النقل الحالي شاؤول موفاز في محاضرة له نشرتها وسائل الإعلام إلى تشكيل تحالف يتكون من "السنة المعتدلين" وإسرائيل لمواجهة الخطر الشيعي الذي يعتقد موفاز أنه يهدد المنطقة. واللافت أن موفاز قدم "إغراء" لا يقاوم لهؤلاء الذين يدعوهم إلى التحالف، وهو إزالة المستوطنات غير الشرعية بعد ثلاث سنوات من بدء عمل التحالف.
ومن بات يعرف إسرائيل، يمكن أن يستنتج كيف سيكون عليه الحال بعد ثلاث سنوات إذ تكون إسرائيل قضمت أضعاف أضعاف ما قضمته من الأرض حتى الآن، وبنت أضعاف أضعاف ما لديها من المستوطنات،. وعندها سيكون الله رزقها بوطني مناضل مثل محمود عباس يفاوضها عشرين سنة من دون هدف ولا برنامج زمني على إزالة آخر عشر مستوطنات مما بنته بعد السنوات الثلاث. يبدو واضحا أن موفاز والقيادة الصهيونية ومن ورائها الولايات المتحدة يدركون جيدا أن بإمكانهم أن يفصّلوا بعض قيادات المنطقة على مقاسهم وبما يخدم أهدافهم وعندها يمكن تسميتهم "إكسترا معتدلين" أو " حكماء بلاس" أو أي اسم آخر لتقديمهم إلى العالم كطرف يمثل الفلسطينيين وأبناء المنطقة، والحصول منهم على صكوك الاعتراف بكل ما اغتصبوه ومنحهم شهادات حسن سلوك دولية.
ويبدو أن إسرائيل والولايات المتحدة تراهنان بقوة على هؤلاء "المعتدلين" ومن يناصرهم من شيوخ بث الفتنة الطائفية وقنوات الردح الطائفي المسموم التي لم يعد يشغلها في عصر التقدم العلمي والصراعات السياسية واتحاد الدول والقوى المختلفة إلا التأليب الطائفي الذي يعرف موفاز وأمثاله أنه السلاح الأكثر فتكا في منطقتنا. فبعدما وجدت الولايات المتحدة أن جرائمها تسقط مشاريعها في المنطقة وأن حروبها تنعكس عليها هزائم متواصلة على الجبهات العسكرية والاقتصادية، توصلت إلى القناعة أن أفضل ما يخدمها ويخدم إسرائيل هو إعطاء شرارة الفتنة الطائفية الكفيلة بإنجاز عملية التدمير الذاتي للمنطقة. وبذلك تكون المنطقة أمام مرحلة جديدة من " حرب المائة سنة بين الشيعة والسنة" كما وعدنا وزير الخارجية الأمريكي هنري كيسنغر منذ سبعينيات القرن الماضي. وبدلا من أن تكتوي القوى الغربية بنار الحروب التي تشعلها في بلداننا، ستكتفي بدور "الحكََم " الذي يبيع الأسلحة والاستشارات لكل الأطراف، ويعدّل ميزان القوى بين حين وآخر بالشكل الذي يضمن استمرار الحروب التي سيكتوي بها الجميع، غالبا كان أو مغلوبا.
وعندها لن يكون مفيدا أن يقول هؤلاء "المعتدلون" ولا رجال الدين الذي نفخوا نار الفتنة في قنواتهم الفضائية لم نكن نعلم أن الأمور مدبرة لتكون بهذا الشكل. فما فعلته إسرائيل منذ تأسيسها لا يترك مجالا لحسن الظن ولا التأويل، ولا يبرر لأي طرف أن يتحالف معها، على الرغم من الثقافة التي يريد الغرب الاستعماري وأنصاره في المنطقة نشرها. وهي الثقافة التي باتت تسفّه وتجرّم كل من يقول بوجود الخيانة أو نظرية المؤامرة بقصد فتح السبل أمام هؤلاء ومساواتهم، في نهاية المطاف، بكل من يقاتل دفاعا عن أرضه وبيته ووطنه.
لا أعتقد أنها مصادفة أن يكون رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان أول رئيس حكومة تركي يشارك في إحياء عاشوراء في تركيا بإلقاء كلمة يؤكد فيها ضرورة أن تكون ذكرى عاشوراء مناسبة للوحدة الإسلامية. فهل يعلم رجل الدولة التركي، الذي يفترض أن يمتلك من المعلومات ما لانعرفه نحن كأفراد، أن النار المقبلة التي تشعلها إسرائيل والولايات المتحدة في المنطقة ستمتد لتشمل بلاده وغيرها، وأن أبناء بلداننا جميعا سيكونون وقودها، خدمة للمشروع الصهيوني. هل أدرك أردوغان أن تحالف " المعتدلين" العرب مع إسرائيل سيؤدي إلى حريق يمتد إلى كل مدينة من مدن المنطقة؟
من المؤكد أن أردوغان يعي جيدا أن تركيا تشكل قطبا إسلاميا سنيا بجوار إيران التي تشكل القطب الإسلامي الشيعي. وأن أي حرب طائفية برعاية دولية ووقود أمريكي ستؤدي في نهاية المطاف إلى احتكاك هذين القطبين. وسيكون من حسن حظ أبناء المنطقة أن يقف هذان القطبان في وجه التحالف الذي سيكون "المعتدلون" وكل دعاة الطائفية والتعصب والتكفير واجهته الإسرائيلية.
من الواضح أن الحلف الذي يدعو إليه موفاز بدأ العمل منذ سنوات قبل إعلانه بدليل ما نراه من قنوات فضائية تخصصت في نبش سموم التاريخ وتغييب الوجه المشرق منه. وبرعت في فنون محاولة تكفير الآخر وهدم كل مالديه وشيطنته دون أن تقدم لنا شيئا عن ذاتها يمكن أن يكون ذا قيمة أو أهمية، وكأن تكفير الآخر ومسخه يعني تلقائيا أنها أفضل منه، أو أنها البديل الأقل سوءا.
من المؤسف أن يكون بعض العرب واجهة لهذا الحلف الصهيوني الأمريكي بعدما أصروا على إلغاء دورأبناء المنطقة وخلقوا الفراغ الكبير الذي لم يعد الأتراك والإيرانيون يطيقون استغلاله وملئه من قبل القوى الخارجية التي عاثت فسادا وتدميرا فيه منذ ما يزيد على مائة سنة.
سوريا كانت الدولة العربية الوحيدة التي أدركت أهمية ملء هذا الفراغ من قبل أبنائه ولصالحهم فكانت أحد المبادرين إلى تشكيل الدرع المحلي المكون من إيران وتركيا والعراق ودول أخرى. هذا الدرع الذي يمكن أن يكون له أسماء مختلفة منها " منطقة البحار الخمسة". فهل يمكن لهذا الوعي الجديد أن يمتد إلى شعوب المنطقة ليدرك أبناؤها أن أية حرب طائفية سيكون أولادهم ضحيتها على مذبح المصالح الأمريكية الإسرائيلية. وعندها لن يفيدهم دعاء مشايخ التكفيرودعاة الكراهية والتعصب والحقد الأعمى، ولا غربان الاستسلام الرخيص باسماء مختلفة.
تجربة السنوات العشرين الأخيرة كانت كافية لتبين للجميع أن هذا العدو لا يرضى أن يكون له شريك في هذه المنطقة. فقد جاء ليبتلع الجميع ويحول من بقي منهم إلى عبيد. فما قدمته منظمة التحرير الفلسطينية منذ غيرت ميثاقها الوطني نزولا عند رغبة إسرائيل والولايات المتحدة، ومنذ أن اختار العرب السلام خيارا استراتيجيا في مؤتمر مدريد 1991 ، ومنذ تقدموا بمبادرة السلام العربية، يظهر أن إسرائيل لا تنتظر إلا مزيدا من التنازلات العربية من دون مقابل في حين تواصل عمليات الاغتصاب والقتل والتدمير لكل ما هو سني وشيعي في المنطقة.
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية