حتى لا يتهمنا أحد بالمبالغة, فإننا لا نريد القول, بأنها المرة الأولى التي يغص بها المركز الثقافي الملكي بالجمهور. لكنها بالتأكيد من المرات النادرة التي غَصَّ بها المركز بالحضور, الذي امتلأت جنباته وممراته بهم. حتى اضطررنا للاستعانة بشاشات بث خارجي, ليتابع من خلالها الجمهور وقائع الندوة, التي نظمها المركز الأردني للدراسات والمعلومات, إطلاقا لنشاطات إحياء ذكرى الشهيد وصفي التل, الذي دخل العام الأربعين لشهادته. ومع ذلك ما زال جرحه نازفا, والدمع الذي ينسكب عليه حاراً. بدليل هذا الحضور المهيب للندوة. والذي ضم كل الفئات والشرائح والمدارس والطبقات السياسية والفكرية والاجتماعية من شتى الأصول والمنابت. والذي ظل محافظاً على زخمه, على مدار يومي النشاط الذي حظي بتغطية إعلامية غير مسبوقة, عبر وسائل الإعلام المرئي والمسموع والمقروء. ومن خلال المواقع الالكترونية محلياً وخارجياً. فما سر ذلك كله؟
لقد قيل لنا: إن المصداقية التي يتمتع بها المركز الأردني للدراسات والمعلومات, وقدرته على التنظيم والحشد سبب ذلك. بدليل أن هناك نشاطات أخرى تشبه النشاطات التي يقيمها المركز وفي نفس الموضوعات, ولكنها لا تشهد هذا الحضور, وهذا التفاعل. وهذا كلام يسعدنا لكنه لا يصرف نظرنا عن الحقيقة الكبرى, لما حدث يوم السبت قبل الماضي, وهي أن وصفي التل ما زال حاضراً حياً في قلوب وعقول وضمائر أبناء شعبه. وأنه أكثر حضوراً حتى في ضمائر الأجيال التي ولدت بعد استشهاده, ومع ذلك يزداد تعلقها به يوماً بعد يوم. بدليل هذا الحديث اليومي الموصول عنه. وبدليل هذه الصفحات التي تفتح له وعنه على الشبكة العنكبوتية. بالإضافة إلى العشرات من صور التعبير عن التعلق بالرجل, الذي مضى شهيدا قبل أربعين عاما, لكنه مازال حيا في الحياة اليومية لشعبه, حتى يخال المرء ان له في كل بيت حكاية. فلماذا ذلك كله؟ رغم أن رؤساء للوزارات قد سبقوه مثلما تلاه رؤساء قضى بعضهم شهيداً, وذهب بعضهم موتاً طبيعياً, وما زال بعضهم أحياء بيننا, ومع ذلك ليس لهم حضورٌ في حياتنا, كحضور وصفي, الذي رحل عنا شهيداً قبل أربعين عاماً.
إذن, فالناس لا يتعلقون بوصفي, كونه رئيس وزراء. لكنهم يتعلقون بالنهج والقيم التي جسّدهما وصفي, ورسّخهما في الذهن والضمير والوجدان الجمعي للأردنيين. وأول ذلك العفة والنظافة ببعديهما المادي والمعنوي. فقد عاش الرجل ومات, فقيراً مديوناً. وهو الذي أقبلت عليه الدنيا فأدار لها ظهره. والقصص الموثقة التي يرويها الأردنيون عن عفة الرجل وطهارة يده وفرجه, وفقره كثيرة. ولعل هذه العفة والطهارة هي التي جعلته يرعب كل الفاسدين والمفسدين. فصارت فترات حكمه من أغلى الفترات على قلوب الأردنيين, الذين كانوا ينامون ملء جفونهم, لأنهم يعلمون ان هناك من يحرس أموالهم وممتلكاتهم, ويحمي حقوقهم في حين كان الفاسدون يتوارون طيلة فترات حكم وصفي خوفاً منه.
وفي نفس المستوى من عفة وصفي وطهره, كانت بساطته في العيش والمظهر والتعامل مع الناس. الذين كانوا يعلمون علم اليقين ان مكتب الرجل, مثلما هو بيته مفتوحٌ لهم, آناء الليل وأطراف النهار. وكم من أردني دهش عندما ذهب إلى بيت وصفي لمقابلته فوجد رئيس وزراء بلده وراء بغلته يحرث الأرض ويزرعها. وكم من أردني امتلأت عيونه بالدمع, عندما رأى وصفي وهو يرتدي (كنزة عسكرية) وبنطلون (فوتيك). من تلك التي يلبسها الجنود في معسكراتهم. فقد لازمته الجندية وأخلاقياتها وانضباطها في كل المواقع التي تولاها وفي كل مراحل حياته. ذلك ان وصفي لم ينسَ يوماً انه جندي قاتل وجرح وانتصر, وانهزم, فوق أرض فلسطين التي أحبها وظلت شغله الشاغل, حتى أطبق عينيه شهيداً في سبيلها. فظل الأردنيون يتعلقون به حتى يوم الناس هذا, لأنهم آمنوا انه واحد منهم يتحدث بلغتهم ويأكل من طعامهم, ويلبس مثل ما يلبسون, لم تفصله عنهم درجته العلمية العالية. تماماً مثلما لم تبعده عنهم أعلى المناصب التي تولاها فصار إليهم اقرب, وبهم أكثر إحساساً ولم يرقع لسانه, بلغة غير لغتهم رغم إتقانه لغير العربية, كما ظل يحمل همهم, ويصل إليهم في أعماق البادية وفي أقاصي الريف, يسامرهم ويحل مشاكلهم ويخفف من آلامهم. لذلك بادلوه الوفاء بالوفاء وما زالوا يبكونه. ويبكون معه الرمز والنموذج والأمل. لذلك نعتقد أن من أهم أسباب هذا الحضور المهيب في ذكرى وصفي هو رغبة الأردنيين بالإعلان عن تعلقهم بالأمل والرمز, ورغبتهم بالبحث عمَّن يملأ الفراغ الذي تركه وصفي, منذ أربعين عاماً.
لقد تعلَّق الأردنيون بوصفي كرمز للطهر, والنظافة والعفة والبساطة, كما تعلقوا به قبل, ذلك لأنه جسَّد لهم بفكره وممارسته, هويتهم الوطنية ببعديها العربي والإسلامي. فالرجل الذي تعلق به الأردنيون باعتباره نموذجاً للشخصية الوطنية الأردنية, التي تغنى بها أبوه شاعر الأردن عرار, هو نفسه الذي لم يُخيب ظن الأردنيين في انتمائه القومي غير متعصب. فقد عاش وصفي وتربى, كواحد من ألمع مؤسسي حركة القوميين العرب, وكتّابها ومفكريها وعسكرييها. لذلك لم ينفصل حب الأردن في وجدانه عن حبه وتعلقه بأمته العربية, وبحلمها بالوحدة المرتكزة على الإسلام. والذين يقرأون تراث وصفي التل الفكري وسلوكه في الحكم يعرفون هذه الحقيقة حق المعرفة.
لقد تعددت الأسباب لدى الأردنيين للتعلق بالشهيد وصفي التل, وإبقائه حيا في قلوبهم وعقولهم. فمن محب له لأنه أرسل ابنه لتلقي العلم في الجامعة, لأنه كان شديد الإيمان بالعلم, داعياً إلى تحكيم العقل في حياتنا. لذلك كان من أشد المتحمس
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية