أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

وقت قاتل .. فاطمة الزهراء الرغيوي

من خلف الباب الحديدي، كان الرجل يتحدث:

-         أنا المقيد الآن، تمتع بحريتك.

في تلك اللحظة شعرت بحاجة ماسة إلى ساعتي اليدوية، وحده ساعدي ظل وفيا لي فلم يتم حجزه. كنت أحيانا أعبر الرواق فأمشي مثل شخص اهتدى لعملية المشي أخيرا، أضع ساقا وأحمل الأخرى بينما تتدلى ذراعاي مثقلتين وبصبر فارغ تنتظران أن أنتهي من عملية المشي.

كان الرجل وقتها وحين لا يكون منشغلا بتفاصيل زيه الرسمي، يتابعني بنزق بنظراته ثم يقول كأنه يكمل حديثا سابقا:

-         ستلد زوجتي طفلا.

فأتوقف قليلا كأني أواسيه وأردد:

-         لا بأس.

ثم أتابع خطواتي بمهل إذ لم يكن لدي ما يستعجلني فالأيام تتوالى في رتابة قاتلة. فكرت سابقا في ممارسة هواية التفكير لكن اتضح أنها أكثر فتكا، اتضح أن تفاصيل السقوط تعشش في ذاكرتي مثل عنكبوت يتقن الاختفاء في زوايا الغرف. تذكرت برتقالة بّا الحاج التي تدحرجت على إسفلت الشارع المظلم بينما طالعت من جيب بنطاله درهمين يتيمين ثم العينين اللتين بسواد الرعب، ناديته:

-         باّ الحاج، آبّا الحاج..

ولم أسمع غير طرق بصدري ظل يعلو ويعلو..

-         قال الطبيب، ابنة..

-         لا بأس.

اثنا عشرة خطوة ونصف، أتوقف قليلا ثم أعود أدراجي لاثني عشرة خطوة أخرى ونصف، يمتعض الآخر من ضجر يصاحبنا، أفكر ثانية بخطواتي الرتيبة وأضع قدما ثم أرفع الأخرى بينما تتدلى ذراعاي في إذعان مستميت. يحك الرجل رأسه بعصبية الآن، يطرق على الجدار بأصابعه، يتمتم شيئا ما ثم يقول كأنما يواصل الحديث:

-         كيف أربي بنتا؟

لم أجب، لأني لا أحب الأسئلة تلك التي تجعلك تقرر أخيرا أنك أنت وأنك فعلت ما فعلت تحديدا.

وأجلس أحيانا لأن الوقوف المتكرر متعب، وأواجه ذراعي المتروكة للهواء، "الآن أنت حرة".. لكنها تظل ملتصقة بي، تمدني بالماء تناولني صحن الحريرة، تحك رأسي، تَحُطَّ وديعة على جبيني، تُنزل سحّاب سروالي لأتبول.. لماذا لا تهرب بعيدا؟ أضعها على جانب الفراش، "نامي قليلا"..  لكنها تواصل رقصها اللامتناهي. قبل يومين قبلتها لأنها مازالت صديقتي التي تسندني متعبا وفوضويا.

أقف أحيانا لأن الجلوس مرهق، أبحث عن عادة المشي، أطل من المربع الصغير في الباب الحديدي، يلتفت الرجل الآخر ويقول كأنما يكمل حديثا:

-         البارحة قالت: بابا.

-         لا بأس.

أمسح آثار يدي عن الباب الحديدي وأحاول رسم شكل شجرة: دائرة وساق طويلة كانت لها ذات انحناءة تلك الساق التي تعرت على إسفلت أحمر التي لامستها ببطء ثم حركتها لكنها ظلت جامدة، عارية وباردة.

-         مشت نحوي حين عدت للبيت.

-         لا بأس.

أفتح عيني لأن النوم مأهول بالصور العصية على النسيان فيبدو السقف أبعد بمترين، أحيانا يقترب فيتسرب خوف طارئ إلي إذ ذاك أستلقي على جانبي لأواجه الباب الحديدي الذي لم يكبر ولم تحتل التجاعيد سطحه. أسمع الخطوات المثقلة للرجل خلف الباب يتوقف قليلا ليواصل حديثه:

-         قالت ستسجل في كلية الحقوق.

-         لا بأس.

تؤلمني ساقي فألتفت إلى السقف الذي يصر على الاقتراب، أهرب من الصور المخبأة بمقلتي إلى الباب الحديدي، لا نهار هنا غير الساعة الافتراضية على قارعة موعد للأكل. لا نهار أذكره غير بدايات فجر عجل بالقدوم وكنت أهرب من ظل البيوت العالية لمدينة نمت مثل طفلة أدركتها الأنوثة باكرا. كنت أبعد ناظري عن الجدار الذي كُتِب عليه بحروف واضحة "ممنوع رمي الأزبال يا حمار" وعن جسد هزيل كان ينتفض مثل عصفور أربكه بلل غير متوقع.

-         ممممم !

لم يبد أن أنينه سينتهي، لكن ذراعي لم تمتد لتكمم الفم الصغير.

-         لا وظائف في البلاد !

-         لا بأس.

 لم تعد تحملني الأرض وقد ضاقت بي جدران الغرفة حتى كأني أحس بها أقرب من ذراعي ومن موتي. لم أعد أفتح عيني لأن الصور سكنت جدران الغرفة والباب الحديدي والكأس وطبق الأكل والدلو الذي في الركن وفتحة التواليت.. ذراعي ركنت أخيرا في استسلام نهائي.

-         تزوجت من أخرق ادعى أنه يحبها.

-         لا بأس.

أشم رائحة الحياة التي تنمو عالة على حياتي الآيلة لنهايتها، تتكاثر الأشياء الصغيرة وتقترب في تودد إلى كل أطرافي في رغبة متنامية للارتواء مني أنا الذي ما ارتويت حتى بذاك الجسد المتورد الصغير الذي نام في وداعة متناهية بينما بحثت مثل مجنون عن بقايا شراب يخلصني من عطشي أو يزيدني ارتواء.

-         الغبية تحمل طفل الأخرق.

-         لا بأس، قلتُ وأضفت:

-         إن الحياة غبية أيضا.

وصمتُّ.

-         هل لديك ما تضيفه؟ كان سؤالا قديما لم أجب عنه.

كنت وقتها واقفا مواجها لنافذة رسمها المهندس المعماري سهوا في قاعة المحكمة، فبدت غير متناسقة مع الجدران السميكة وكآبة المكان وكانت امرأة تبكي فأسمع نحيبها الذي مثل مطر يتردد في الهطول..

كاتبة من المغرب
(105)    هل أعجبتك المقالة (106)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي