يبدو أن النجاح الذي حقّقه المسلسل الإيراني "يوسف الصدّيق" قد أثار حماسة الفضائيات العربية فقرّرت أن تقود ثورة مضادة في مجال الأعمال الدرامية الدينية؛ متحدّية فتاوى المؤسسات الإسلامية القائلة بتحريم المسّ بقدسية الشخصيات الدينية وتجسيدها، وجعلت من هذا النوع من الأعمال، رغم ثراء مادتها، مفقودا.
وعلى ضوء ما تتناقله نشرات الأخبار الفنية يبشّر الموسم الرمضاني القادم بسيل غزير من هذه الأعمال التي يؤكد أصحابها أنها ستحقّق نقلة نوعية هامة في مجال المسلسلات الدينية.. ووسط الأخذ والردّ حول "حرمة" تجسيد الشخصيات الدينية، جاء إعلان مجموعةMBC" والتلفزيون القطري عن إنتاج أول عمل درامي تليفزيوني عربي يجسد شخصية الصحابي وأحد العشرة المبشرين بالجنة، عمر ابن الخطّاب، رضي الله عنه. ولم تكشف الـ "MBC" بعد عن كيفية تجسيد شخصية الصحابي الجليلة، هل سيتمّ تمثيله بشكل كامل وإظهار وجهه أو الاكتفاء بإظهار مما يشير إليه وصوت يتحدّث باسمه كما هو الحال في مثل هذه الأعمال.
إلى وقت قريب كان من المسلّم به أن "يحرّم" تمثيل أو تشخيص أنبياء الله وصحابة رسوله الكريم؛ إلا أن الاقبال الجماهيري على المسلسلات الدينية الإيرانية في العامين الأخيرين، أعاد طرح هذا الموضوع بجدية، ليتخذ في هذا الوقت بالذات منحى جديدا، خاصة مع ظهور بوادر فتنة طائفية تشق وحدة المسلمين.
ورغم أن مثل هذا العمل ليس جديدا في عالم الدراما الدينية العربية إلا أن وعد "MBC" إن صدق يكون المسلسل "غير المسبوق" موجّها للرأي العام العالمي، وسيمثل محاولة لتصحيح بعض ممّا طال الإسلام من أحكام مغلوطة، سيمثّل نقلة هامة في مجال الإعلام العربي وتصحيح مساره بعد أن انجرف بعضه وراء موجة الإثارة في الوقت الذي لا تدّخر فيه بعض وسائل الإعلام الغربية جهدا من أجل مهاجمة الإسلام وربطه بـ"الإرهاب".
ولكن حتى لو تحقّق الوعد، على المجامع الإسلامية، وعلى رأسها الأزهر الشريف الذي فقد الكثير من سلطته في هذا المجال، أن تتفّق على رأي حاسم في مسألة تجسيد الشخصيات المقدّسة، حتى لا يزيد الاختلاف بين الفقهاء من تعميق هوّة الشقاق والاختلاف بين المسلمين.
فبمجرّد طرح فكرة تجسيد ثاني الخلفاء الراشدين عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، في مسلسل قامت الدنيا ولم تقعد؛ وجولة بين المنتديات وعلى الموقع الشهير "فايس بوك" تكشف التخبّط الذي تعيشه الجماهير العربية بين رافض للفكرة ومؤيّد لها؛ فعلى قدر الرافضين لفكرة تجسيد الشخصيات الدينية، وخاصة حفيدي الرسول صلى الله عليه وسلّم، الحسن والحسين، والصحابة الكرام، هناك مؤيدون لظهورهم في مشاهد تمثيلية بحجة أن المعطيات تغيّرت والوقت الراهن يفرض إعادة النظر في مثل هذه الفتاوى التي تحرّم تجسيد الشخصيات الدينية المقدّسة خاصة بعد أن دخل الافتاء في مجال الصراعات الطائفية وتصفية الحسابات السياسية، وأصبحت هذه الجهة تجيز ما حرّمته الجهة الأخرى لمجرّد النكاية بغريمتها.
وتبدو علامات الفتنة والشقاق في هذا الأمر واضحة من خلال ما صاحب مسلسل "الأسباط" "تأليف الكاتب السوري محمد اليساري وإخراج الأردني عبد الباري أبو الخير وإنتاج شركة "المها" الكويتية"، وهو أول مسلسل تلفزيوني يروي سيرة حياة حفيدي الرسول محمد، صلى الله عليه وسلم، الحسن والحسين، رضي الله عنهما.
مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر شدّد على عدم جواز ظهور شخصيتي الحسن والحسين وتمثيلهما في المسلسل وطالب في بيان له جهات الإنتاج الفني بالبلاد العربية والإسلامية بمنع إنتاج أو تصوير العمل.. وأجمع أعضاء مجلس مجمع البحوث الإسلامية في أكثر من فتوى بتحريم ظهور الرسل والأنبياء والعشرة المبشرين بالجنة وآل بيت رسول الله، صلى الله عليه وسلم.
إلا أن الأمر لم يعد في يد الأزهر أو أي سلطة دينية أخرى سنيّة كانت أو شيعية بعد أن أضحت شركات الإنتاج الدرامي أقوى وأكثر نفوذا وشعبية من المراجع الدينية في العالم الإسلامي؛ فعندما رفضت مصر وسوريا إجازة تصوير مسلسل "الأسباط" حصل منتجه الكويتي محمد سامي العنزي على 30 فتوى سنية وشيعية، من جهات أخرى، تقول إنه "لا حرمة في تصوير الصحابة والأئمة"، وأفتى بعضهم حتى بتشخيص الأنبياء.
من الصعب جدّا أن يتقبل المشاهد رؤية ممثل يرتدي جلباب أحد أعظم شخصيات الإسلام وأحبّها إليه؛ ولكن يبقى من المهمّ أن لا يعيق اختلاف الأراء حول مسألة تجسيد الصحابة وقادة الإسلام العظام تقديم أعمال عن سيرهم، فمن حقّ المسلمين والعرب أن يتباهوا أمام العالم بمن بنوا حضارة أعظم أمة في التاريخ ومن وضعوا أسس الدولة والسياسية والاقتصاد التي تسير على نهجها أعتى الدول المتقدّمة اليوم؛ لكن شرط أن تكون حقّا أعمالا مختلفة عما عهدناه من مغالطات المسلسلات الدينية العربية السابقة؛ وأن تكون موجّهة للرأي العام العالمي قبل الإسلامي وفي قيمة الشخصية المتحدّث عنها.
وإلى أن تحين لحظة اكتشاف مفاجأة "MBC" حول مسلسل "عمر بن الخطاب" الذي سيخرجه المبدع حاتم علي لا يسعنا إلاّ الأمل في أن تنجح الفضائية العربية في جعل مسلسل عن شخصية عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، حديث الناس مثلما جعلت من الدراما التركية معبودة الجماهير؛ وأن يكون هذا العمل، الذي ستتمّ ترجمته إلى أكثر من لغة عالمية، بداية لأعمال ناجحة تساهم في تعريف العالم بالإسلام الحقّ وبعظمة قادته وفق خطاب موضوعي وعصري، لا يشوّه حقائق التاريخ ولا يثير النعرات بين المسلمين؛ فمسلسل "عمر بن الخطاب" ربما يكون مطلوبا في هذا التوقيت الحرج، لكن الخوف كل الخوف من أن يحيد عن هدفه ويفجّر "قنابل" أخرى، لا سيما وأن مشكلتنا نحن العرب والمسلمين مع العالم تكمن بالأساس في الفهم الخاطئ للإسلام..!
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية