أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

حين ترفض الديموغرافيا فيدرالية الأوهام

من حلب - أ ف ب

الديموغرافيا السورية ليست رقماً في هامش تقرير لمرصد امتهن الكذب هنا، أو جاهل يجمع تعاويذ الخرافات من كتب اللامنطق هناك، كما أن هذه الديموغرافيا ليست خريطة تُقصّ بالمشرط وفق أهواء السلاح واللحظة، بل هي تاريخ كثيف من التداخل، والتفاعل وحتى التجاور القسري أحياناً، والاختلاط الذي لم يكن يوماً استثناء في تاريخنا بل قدراً. 

ولهذا، لا بد من الكلام اليوم وعلى السطح، بلا مواربة لغوية ولا مجاملات سياسية، لأن ما يُطبخ في الظل يتغذّى على الوهم أكثر مما يتغذّى على الوقائع، وينبع من ماء مشوب بالعقوق الفكري قبل الوطني.

لا يخفى على أحد أنه ثمة ما يشبه اتحاداً غير معلن لأصحاب مشاريع الكانتونات والأقاليم، يتقاطعون في العداء للمركز لا في رؤية الدولة. يقدّمون الانفصال بثوب الفيدرالية، ويبيعون التقسيم على أنه إدارة رشيدة للتنوّع. غير أن الموضوع أعقد بكثير مما يتخيله بعض السذّج الذين يظنون أن هذه الكيانات قابلة للحياة، أو أنها تمثّل حلاً منطقياً يرضي أحلام السلطة والمكسب لدى البعض. 

فبعيداً عن السؤال الأخلاقي حول مشروعية فيدراليات تُبنى على أساس طائفي أو قومي، لا نجد حتى أرضية منطقية أو ديموغرافية صلبة يمكن أن تُقام عليها هذه الكيانات دون أن تتحول إلى مقدّمات صريحة لحرب أهلية سيكون الخاسر الأكبر فيها هم دعاة ذلك التقسيم. تاريخياً كان ذلك ولا أظن أننا استثناء من تاريخ الشعوب.

شعور القوة المؤقت، وسطوة السلاح أو الحماية الخارجية، دفعت بعضهم إلى إنكار أبسط الحقائق: النسب السكانية في المحافظات السورية لا تُنتج أكثريات مطلقة، لا عرقية ولا دينية، بالمعنى الذي يروّج له دعاة الأقاليم. ففي الساحل السوري، على سبيل المثال، خلقت سطوة النظام الهارب وهم الأغلبية، لا بفعل الواقع السكاني، بل عبر شبكة مكتسبات جعلت أبناء طائفة بعينها حاضرين في المشافي، والمدارس، والمديريات، والأمن، والجيش. الامتياز حلّ محل الإحصاء، والسلطة تنكّرت للديموغرافيا.

وفي الشرق السوري، لا يحتاج المرء إلى كثير من العقل ليدرك عبثية الحديث عن "إقليم" يقوم على احتلال محافظات كاملة، في حين أن من يفرض السيطرة لا يشكّل واحداً في المئة من سكان الرقة أو أجزاء واسعة من دير الزور مثلاً. إنها معادلة قسر لا شراكة، وغلبة سلاح لا تعاقد اجتماعي.

أما السويداء، فالسؤال هنا يكاد يكون ساخراً: أي فيدرالية يمكن أن تقوم في مساحة جبلية محاطة، بلا مقومات دولة ولا اقتصاد، سوى إذا كانت فيدرالية التفاح والعنب؟ أي كياناً زراعياً هشاً يُراد له أن يؤدي وظيفة سياسية أكبر من حجمه؟ لكن الأخطر ليس في ضيق الجغرافيا، بل في سلوك من يتصدّرون مشهد "الإقليم"؛ فهم لا يبنون مشروع حكم، بل ممالك صغيرة من القمع، نرى ملامحها في تعاملهم مع أبناء جلدتهم قبل غيرهم: اغتيالات، وتصفيات، من "المتني" إلى غيره، وتهجير كامل للبدو في السويداء عن بكرة أبيهم، ومن لم يُهجَّر كان ضحية الخطف أو القتل، كما حدث مع "الطه" وزوجته و"الحمود" وغيرهم. هذه ليست إدارة ذاتية، بل إقطاعيات حديثة تُدار بالخوف.

وما يثير العجب حقاً أن القائمين على مشاريع الكانتونات لا يطالبون إلا بالفيدرلة والفيدرالية وحدها، في وقت تبدو فيه الرياح مواتية لأي مطالب مشروعة: حقوق ثقافية، أو دينية، أو تعديلات دستورية محددة يمكن أن تُناقش ضمن إطار دولة واحدة. هذا الإصرار الأحادي على الكانتون ليس بريئاً، بل دليل على أن الهدف هو إنشاء معاقل لأمراء حرب، تُدار كمزارع خاصة، لا كمجتمعات مواطنين.

الأرقام لا تكذب ولا تزور، والإحصاءات متاحة لمن يريد أن يرى. والسؤال الذي يتجاهله دعاة الأقاليم عمداً: هل ستكون هذه الكانتونات بشرى خير لأبناء تلك القوميات والطوائف المقيمين في دمشق مثلاً أو في مدن أخرى؟ ماذا عن جرمانا، وصحنايا، وركن الدين، وعش الورور وغيرها العشرات؟ هل يستطيع هؤلاء بيع ما يملكون، واقتلاع حياتهم، ليعيشوا تحت حكم أوحد في ممالك ورقية لا تتسع حتى لأبنائها؟ أم أنها برلين غربية وشرقية وجدران عزل نسيها العالم منذ زمن ويريد البعض إنتاجها في بلاد تعاني الأمرين؟

في المحصلة، لن تكون هناك فيدرالية ولا كانتونات مستقلة، بل أحلام وطيش سياسي، وظيفتها تحسين شروط تفاوض الدولة السورية مع محيطها عبر إضعافها إلى أقصى حد، ثم شتمها عندما تقدّم تنازلاً. والمفارقة أن هذه التنازلات، حين تأتي، لا تكون إلا ثمرة مباشرة لسوء صنيعهم. هكذا تُدار اللعبة: تفتيت باسم الحقوق، وابتزاز باسم المظلومية، فيما الخاسر الدائم هو المجتمع السوري بكل أطيافه وحتى تناقضاته، الذي لم يحتج يوماً إلى أسوار جديدة بقدر حاجته إلى دولة واحدة عادلة.

محمد رافع أبوحوى - زمان الوصل
(12)    هل أعجبتك المقالة (13)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي