ودّعت الأوساط الثقافية والتاريخية بعد ظهر أمس الاثنين الباحث والمؤرخ الدمشقي "محمد عماد الأرمشي"، أحد أبرز العاشقين لمدينة دمشق، ومن أكثر من كرّسوا حياتهم لتوثيق تاريخها وملامحها وتراثها الإنساني والعمراني. وبرحيله تفقد دمشق واحدًا من حرّاس ذاكرتها المخلصين، ورجلًا آمن بأن المدينة لا تُحفظ بالحجارة وحدها، بل بالصورة والكلمة والوثيقة.
وأعلنت عائلته في ورقة النعي أن جثمانه الطاهر سيوارى الثرى بعد صلاة المغرب في جامع الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان في رأس الخيمة بالإمارات العربية المتحدة التي عاد إليها منذ فترة بعد أن كحل عينيه برؤية معشوقته "دمشق" للمرة الأخيرة.
ووُلد عماد الأرمشي في مدينة دمشق عام 1951، ونشأ في حي سوق ساروجا العريق، وتحديدًا في حارة النوفرة، وهي بيئة غنية بالتاريخ والحياة الاجتماعية، كان لها أثر بالغ في تشكيل وعيه المبكر بالمكان والذاكرة.
أنهى دراسته الجامعية في قسم التاريخ بجامعة دمشق، حيث نال إجازته عام 1977، واضعًا بذلك الأساس العلمي لمسيرته البحثية اللاحقة.
حفظ ذاكرة المدينة
بعد تخرّجه، خاض الأرمشي تجارب مهنية خارج سورية؛ فسافر إلى أوروبا، ثم استقر عام 1982 في دولة الإمارات العربية المتحدة، حيث عمل في مجال النفط. غير أن ابتعاده الجغرافي عن دمشق لم يضعف صلته بها، بل زادها عمقًا وحنينًا، لتتحول المدينة إلى مشروع عمر، وهاجس توثيقي لا يفارقه.
منذ عام 2003، انخرط عماد الأرمشي بجدية في مجال التوثيق التاريخي المصوّر لمدينة دمشق، واضعًا نصب عينيه هدفًا واضحًا: حفظ ذاكرة المدينة من النسيان والضياع.
وعلى مدار أكثر من عقدين، عمل بلا كلل على جمع الصور النادرة، والخرائط، والوثائق، والمعلومات المرتبطة بتاريخ دمشق الاجتماعي والثقافي والعمراني، مع تركيز خاص على القرن العشرين وتحولات الحياة اليومية فيه.
وتمكّن خلال هذه السنوات من بناء أرشيف ضخم ونادر، يُعد اليوم مرجعًا موثوقًا للباحثين والمهتمين بتاريخ دمشق، ويضم مواد توثّق محطات بارزة مثل معرض دمشق الدولي، وتطور الأحياء والأسواق، والعادات، والفضاءات العامة للمدينة.
العمل التطوعي وروح الفريق
تميّز مشروع الأرمشي بطابعه التطوعي، إذ عمل بصمت وإخلاص، متعاونًا مع فريق واسع من المهتمين داخل سورية وخارجها، لجمع الصور والوثائق من مختلف أنحاء العالم، دون أي مقابل مادي. وكان يؤمن أن حفظ ذاكرة دمشق مسؤولية جماعية، تتجاوز قدرات الأفراد والمؤسسات، وتتطلب شغفًا صادقًا وإيمانًا عميقًا بقيمة المكان.
وقد عبّر عن هذه القناعة بقوله:"ما زلنا نعمل لغاية اليوم وسنستمر، لأن حبنا لوطننا لا ينضب".
الحضور الرقمي وتأثيره الثقافي
عرفه الجمهور الواسع من خلال منصات التواصل الاجتماعي، حيث تحولت صفحاته إلى نوافذ مفتوحة على دمشق القديمة؛ ينشر من خلالها صورًا نادرة، ومعلومات دقيقة، وحكايات موثقة عن الأحياء والأزقة والمعالم، مقدّمًا التاريخ بلغة قريبة من الناس، ومحببة للأجيال الشابة.
وقد وصفه كثيرون بأنه لم يوثّق دمشق بالكلمات فقط، بل "بالضوء"، محوّلًا الصورة إلى وثيقة، والزمن إلى حكاية حيّة، جعلت المدينة حاضرة في الوجدان كما هي حاضرة على الشاشات.
غياب ذاكرة حيّة
وخلّف رحيل الباحث والمؤرخ الدمشقي عماد الأرمشي أثرًا بالغًا في نفوس المثقفين والمهتمين بتاريخ دمشق، فعبّر كثيرون عن حزنهم بكلمات موجزة لكنها عميقة الدلالة، عكست مكانته العلمية والإنسانية، وأكدت أن غيابه لم يكن فقدان شخص، بل غياب ذاكرة حيّة.
ووصفه الكاتب الجزائري "محمد بن جبور" الراحل بأنه عاشق صادق لدمشق، حمل حبّها في القلب والكلمة، ومضى عنها وهو ثابت الانتماء، تاركًا أثرًا طيبًا وذكرى وفاء تشهد لها المدينة وياسمينها.
أما "نهى" فرأت فيه حارسًا لذاكرة دمشق، رجلًا كان يقرأ التاريخ في حجارتها وأزقتها، وبرحيله ترجل من حمل عبء الحكاية، مودَّعًا بدعوات الرحمة والمغفرة.
وأكد "وسام جوخدار" أن الأرمشي كان من الذين خدموا تاريخ دمشق وذاكرتها بإخلاص، فلم يكتب عن المكان من خارجه، بل سكنه بروحه، وترك أثرًا علميًا باقياً سيظل شاهدًا على محبته العميقة للمدينة وحرصه على تراثها.
ومن جانبه، أشار "مأمون كريم" إلى أن دمشق فقدت برحيله محبًا وفيًّا وأرشيفًا موسوعيًا أصبح مرجعًا أساسياً لكل من يبحث عن أصالة المدينة وتاريخها.
فيما عبّرت "ابتسام شيخة" عن حزنها لرحيل من أحب دمشق بكل تفاصيلها، ماضيها وحاضرها، حاراتها وأزقتها، ليرحل عنها بعيدًا جسدًا، فيما بقيت هي ساكنة في قلبه حتى النهاية.
وبرحيل عماد الأرمشي، تخسر دمشق باحثًا نذر حياته لحمايتها من النسيان، وتخسر الثقافة السورية شاهدًا أمينًا على تحولات مدينة عريقة. غير أن أرشيفه، وجهده، وأثره المعرفي سيبقون حيّين، يشهدون على رجل أحب مدينته بصدق، وجعل من توثيقها رسالة، ومن ذاكرتها أمانة حتى لحظاته الأخيرة.
زمان الوصل
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية